مجلة الرسالة/العدد 511/على هامش أحلام شهرزاد
→ روحانية الحياة المدرسية | مجلة الرسالة - العدد 511 على هامش أحلام شهرزاد [[مؤلف:|]] |
تغريدة ← |
بتاريخ: 19 - 04 - 1943 |
4 - قضية اليوم
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (الآن يا صديقي وقد أطلعتك على أطراف من شهرزاد الحكيم، وعلى أطراف من القصر المسحور، ووقفتك على المذهب الذي أخذ الكاتب به نفسه، ولم يفتأ يباهي به، ويشتط فيه. . . الآن وقد علمت أن مشروع (أحلام شهرزاد) كان وعداً موعوداً في القصر المسحور على لسان شهرزاد أراد عميد الأدب العربي أن يذود به عن هذه الشخصية الفذة التي ابتدعها الأديب العبقري القديم الأول، والتي رمز بها إلى جنس المرأة في كل زمان ومكان. . . والآن وقد علمت ما يرتئيه الأستاذ توفيق في شهرزاد كل زمان ومكان من غدر وكيد وخيانة وأنانية و. . . شَبَق. . . الآن يحين لي أن أحدثك عن أحلام شهرزاد حديثاً يروقك وتنزع إليه نفسك، النزاعة إلى الحق، المشغوفة بالجمال، المؤمنة بالكمال
(ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!)
هل تذكر هذه القولة التي أخذت مكانها في القصر المسحور عن عمد؟! أما تزال تذكر هذه القولة أيضاً، وقد أخذت مأمنها من هذا الكتاب كما أخذت مأمنها الكلمة السابقة:
(سيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!)
هاتان كلمتان! فهل بر العميد فيما وعد؟ وكيف صور شهرزاده يا ترى! وكيف جافى بها عما رسمها الأستاذ توفيق؟ ثم ما بال أبطاله الآخرين! هل أخرج لنا ملكاً (ديوثَّا) كشهريار الحكيم؟ أم انتفع شهريار العميد بشهرزاده فهذبت طبعه النافر، وأقامت خلقه المعوج، ولفتته إلى شئون ملكه يرعاها بعين الخبير البصير، وعلمته كيف يوائم بين رغبات نفسه ورغبات شعبه، ثم هي مع هذا وذاك لم تنكشف له كل الانكشاف لتستبقى سحرها في قلبه، وتحتفظ بسر الجمال الذي يفضحه التبذل، ويُذيله التهالك في إشباع رغبات الرجال؟!
ثم شخصيتي؟ أنا؟! شخصية فاتنة؟ تلك الشخصية التي تزري بكل شخصيات القصص العربي في الأدب المصري الحديث. . . أرأيت كيف صورها فأتقن صورتها وأبدعها في أحسن تقويم؟
وشخصية طهمان بن زهمان ملك الجن؟! هل كان هذا المارد الأحمق الذي يجلس عرش أمة ليفرغ إلى رغباته ودنايا نفسه كما فعل شهريار الحكيم؟ أم كان ذاك الحاكم البر الحازم الحكيم الرحيم الذي حكم فعدل فأمن على شعبه كما أمن على ملكه ونشأني على خير منهاج يضمن السعادة لقبيله من الجن من بعده؟!
ثم شخصية هذا الطائف العجيب الذي كان يسْفر بالأحلام إلى شهريار ينبئه بموعد القصص الشهي الرخي الذي ترسله شهرزاد في أحلامها - ما بال هذا الطائف يا ترى؟
أما شهرزاد الحالمة فإنها من غير شك شهرزاد نبيلة كاملة، قامت بواجبها في تهذيب شهريار على خير وجه، وقامت بواجبها نحو وطنها على أحسن صورة، واحتفظت بسحر أنوثتها فلم تفسده بالتبذل، ثم هي هذا الملاك الحارس الذي أدعى وظيفته في الحياة كما ينبغي أن يؤدي كل مخلوق كامل وظيفته في الحياة. . . يأخذ بحظه منها ولا يجور على حقوق الآخرين. . . يعرف أن الحياة جد لا لعب، وهي مع ذاك جد يخفف جفوته لهو قليل برئ. . . لهو بالموسيقى التي تهذب الطبع، والغزل الحلال الذي لا ينحدر إلى أحضان العبيد، ولا يسف إلى اتخاذ الأخدان، ولا يسفل إلى أن يكون خداعاً وخيانةً ولغواً وتأثيماً. . . شهرزاد العميد هي هذا الملاك الحارس الذي أخذ على عاتقه إصلاح شهرياره في النوم وفي اليقظة. . . في النوم بإرجاعه إلى محجة الصواب كلما عاوده داؤه القديم فسأل عن سر شهرزاد، وشهرزاد مع ذاك تطلعه على شطر غير يسير من هذا السر، ثم تحتفظ لنفسها بشطره الآخر. . . الشطر الذي يبقى على سحر الأنوثة في المرأة ويجعلها شابة دائماً، جميلة دائماً، ساحرة دائماً. . . لأنها تعطي من نفسها بقدر، وتهب من ذاتها بمقدار، فلا تتبذل بكثرة البذل، ولا تمنح كل ما عندها كي تجد ما تمنحه طوال الحياة التي تربط الزوجين. . . وهي لذلك جديدة كل يوم في عين شهريار، لأنها تسقيه كل يوم كأساً جديدة. . . فإذا سألها: (ألا تنبئيني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟). . . أجابت. (من أنا؟ أنا شهرزاد التي أمتعتك بقصصها أعواماً لأنها كانت خائفة منك والتي تمتعك بحبها الآن لأنها واثقة بك مطمئنة إليك وماذا أريد! أريد أن أرى مولاي راضياً سعيداً ناعم البال رخي العيش مبتسماً للحياة كما تبتسم له الحياة) فإذا أعاد بعد ذلك سؤاله، قالت له: (من أنا؟ أنا شهرزاد التي أحبتك قبل أن تعرفك كما لم تحب فتاة رجلاً قط، والتي خافتك حين عرفتك خوفاً لم يخفه إنسان إنساناً قط، والتي زفت إليك تتحدى الموت وتتحدى السلطان وتتحدى الحب والبغض جميعاً، فبلغت من نفسك هذه المنزلة التي تراها والتي لا تراها، ثم أصبحت الآن وهي لا تفكر إلا فيك، ولا تفكر إلا بك، ولا تفكر إلا لك. ماذا أريد؟ أريد أن تكون سعيداً موفوراً، ولكني لا أعرف كيف أجعلك سعيداً موفوراً. من أنا؟. . . أنا من تحب أن ترى في أي ساعة من ساعات النهار، وفي أي ساعة من ساعات الليل. أنا أمك حين تحتاج إلى حنان الأم، وأنا أختك حين تحتاج إلى مودة الأخت، وأنا ابنتك حين تحتاج إلى بر البنت، وأنا زوجتك حين تحتاج إلى عطف الزوج. . . . وأنا خليلتك حين تحتاج إلى مرح الخليلة، أنا كل هذا. وماذا أريد! أريد ما تريده الأم لابنها، وما تريده الأخت لأخيها، وما تريده البنت لأبيها، وما تريده الزوج لزوجها الوفي، وما تريده العشيقة لعشيقها المفتون. وقد سألتني فألحفت على في السؤال، أفتأذن لي في أن أسألك؟) فيرفع الملك إليها بصره كالمنكر لما تقول، ولكنها تتضاحك وتتماجن وتسأله: (كيف أراك في هذا المكان من جنة القصر، حيث كان ينبغي أن أراك في غرفتك تتهيأ للخروج إلى حيث تستقبل وزراءك وتصرف أمور ملكك، أو أراك قد خرجت مبكراً فأقبلت على شئون الدولة تصرفها حفيَّا بها منكبَّا عليها. . . الخ)
فهل رأيت إلى شهرزاد العميد وفرق ما بينها وبين شهرزاد الحكيم؟ أرأيت كيف صور العميد ما ينبغي أن تكون عليه الزوجة الوفية في كل زمان ومكان!! فتكون لزوجها أماً حين يحتاج إلى حنان الأم، وأختاً حين يحتاج إلى مودة الأخت، وابنة حين يحتاج إلى بر البنت، وزوجاً حين يحتاج إلى عطف الزوج. . . ثم. . . خليلة حين يحتاج إلى مرح الخليلة. يجب أن تكون الزوج كل هذا فهل يرى الأستاذ توفيق هذا الرأي؟! أم هو موجس ظِنَين واجد على المرأة يبشر ضدها بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا يأتمنها على أن تنجب لشهريار غلاماً ذكياً أو غبياً، ولذلك فهو يرسلها في أحضان العبيد، ويبيح غرامها للوزير ولغير الوزير، ويجعلها أنانية لا تفكر إلا في نجاتها هي دون أن تعني بخلاص بنات جنسها
ولقد نبهتك يا صديقي إلى ما التزمته شهرزاد العميد من الغموض أحياناً لتصون جمالها وتجدد سحرها في نفس زوجها، فهل تدري لماذا حرص الأستاذ الحكيم على أن تكون شهرزاده غامضة؟ إنه حرص على هذا لتذهل شهرزاده لبَّ شهرياره، ولتعصف بقبله؛ فغموضها هو من غموض السحراء والمشعبذين وأكلة الثعابين والذين يمشون بأرجل حافية على النار ورؤوس المسامير. . . لأن الذين يتفرجون بهذه الشعبذات يقفون حيالها مشدوهين صعقين لما فيها من غموض يذهل ألبابهم، ولا يدركون له كُنْها. . . أما ماذا وراء هذا الغموض، فليس وراءه شيء. . . ليس وراءه نفع قط. . . إن لم يكن وراءه ما يمكن كالأفعى الرقطاء في ظلمات نفس شهرزاد - شهرزاد الحكيم طبعاً - من شر وكيد وختل وخداع وخيانة وتدبير سيئ. . . ولهذا قالت شهرزاد في القصر المسحور وهي تتميز من الغيظ على توفيق الحكيم: (ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!) ثم قالت: (سيأتيه علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!)
هذا فرق ما بين الغموضين، وللغموض نصيب عظيم من السرق الذي أرجف به المرجفون، وتخرص به المترخصون
أما فرق ما بين شهريار الحكيم وشهريار العميد فليس يحتاج إلى إسهاب ولا يفتقر إلى إطناب. وحسبك أن تذكر ما كان من غفلة شهريار الحكيم التي سماها معرفة، وسكوته على ما قتل بسببه وزيره نفسه حينما انسل العبد من مخدع شهرزاد. ذلك السكوت الذي سماه الحكيم فلسفة. ثم حسبك أن تعلم ما كان من سهر شهريار العميد على أمور رعيته، وحسن التفاته إلى تصريف أمورها، واضطلاعه بما يعود عليها بالخبر والنظام. . . حسبك هذا وذاك لتقدر أنت فرق ما بين الملكين
أما أنا. . . أما فاتنة. . . فإني كما علمت أبرع شخصيات الأدب المصري الحديث. . . إني أتمم شخصية شهرزاد. بل أنا روحها الحالم. . . بل أنا شبحها الهائم. . . بل أنا غناؤها الباغم. بل أنا منطقها السليم وسحرها العظيم وتدبيرها الكريم وقلبها الرحيم. . . بل أنا حدبها على الرعية، واستخفافها بالطغاة، وعذابها المسلط على الملوك المستبدين الذين ذاق بعضهم بأس بعض، وعذب بعضهم بأيدي بعضهم الآخرين. . . بل أنا هذه الديمقراطية العزيزة التي أجج لها الطغاة الآثمون تلك الحرب الطاغية الآثمة القائمة. . . الديمقراطية التي ترد الصواب إلى الفرد المغرور، وتعيد السلام إلى العالم، الجمال إلى الجنة. . . أنا الديمقراطية التي تبعث العزة في نفوس الأفراد، والكرامة في قلوب الشعوب، فلا يسميها الحاكمون بأمرهم الخسف، ولا يسلط عليها فرد واحد مجنون فيجعل أمنها خوفاً، وقوتها ضعفاً، وعيشها شظفاً، وجهودها هباء، ورخاءها عناء، وفَرَجَها شدة، وسلامها حرباً، وعلمها شراً، وعلماءها أبالسة، وقادتها أفاكين
أستمع إلىّ أقول لأبي وهو يحاورني: (. . . متى رأيت الملوك يقدمون على حرب لا تدفعهم إليها شهواتهم الجامحة وعواطفهم الحائرة؟ ومتى رأيت الشعوب تجنب هذه الأهوال وتعصم من الحرب لغير مصالحها المؤكدة ومنافعها المحققة. . .؟. . . إن أثرة الملوك والسادة والزعماء هي التي تثير الحرب دائماً وهي التي ترهق الشعوب دائماً. . .!)
فإذا قال لي أبي: (فقد كنت أرجو أن يهيئ لك علمك وحكمتك ابتكار لون من ألوان الحياة لا تشقى فيه الشعوب بسعادة الملوك والزعماء!. . .) قلت له في بعض الذي أجبته به: (فأنبئني يا أبت ما بال هذه الرعية لا ترفق بنفسها ولا تعني بأمرها، ولا تفكر في مصالحها، وإنما ندعوها فتجيب، ونأمرها فتطيع، ونوجهها إلى حيث نشاء فتتجه إلى حيث نشاء لا يخطر لها أن تأبى إذا بلغها الدعاء، ولا أن تعصي إذا صدر إليها الأمر، ولا أن تمتنع إذا وجهت إلى حيث لا تحب. . .؛ فما طاعتها لنا في غير روية ولا تفكير، بل في غير فهم لما تؤمر به وتقدير لما تدعى إليه؟. . .)
أرأيت إلى كيف مثلت الديمقراطية أروع تمثيل وأصدقه؟ وهل سمعت إلي أفضح الطغاة والمستبدين، وآخذ على الأمم المستضعفة رضوخها لهم وعدم الثورة عليهم، وطاعتها إياهم في غير روية ولا تفكير ولا فهم ولا تقدير؟!. . . وأنا مع ذاك الديمقراطية المتعلمة المثقفة التي لا تصدر عن الطيش ولا يتلاعب بها الرعاع. وليست هذه الديمقراطية التي تدخن القنب في حانة أبي ميسور، وتنام في أحضان العبيد، وترهن السيف لتقضي ليلة هانئة؛ لكنها الديمقراطية التي تثل عروش المستبدين وتقوم على الجد ولا ترضى العبث وترفض أحلام روَّاد الحانات التي يدخن فيها الـ. . . الديمقراطية التي انتصرت على قوات الشر (. . . وردت إلى شعوب الجن حقوقها المغصوبة وحرياتها المسلوبة. . . ومن يدري! لعل علم الجن أن يصل إلى الناس ذات يوم أو ذات قرن واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض؛ أو لعل عقول الناس أن ترتقي ذات يوم أو ذات قرن إلى حيث تفهم عن الجن في غير مشقة ولا جهد. يومئذ أو قرنئذ تصلح أمور الإنسان كما صلحت أمور الجان
قالت: (وعكف شهريار على نفسه يتدبر ما سمع ويستحضر ما شهد ويتذكر ما رأى، وكأنه أنسى نفسه في هذا العكوف، حتى أقبلت شهرزاد وقد ارتفع النهار. وسمعها تقول في صوت حازم باسم معاً: (لشد ما هانت عليك أمور الملك يا مولاي! هاأنت ذا تخلو إلى نفسك في زاوية من زوايا غرفتك كأنك فرد من أفراد الناس قد فرغ للفلسفة والتفكير. ألم تحاسب نفسك على هذا الوقت الطويل الذي أنفقته في غير شئون الملك! ألم يخطر لك أن للشعب حقوقاً يجب أن تؤدي إليه، وإن أوقات الملوك ليست خاصة لهم من دون الرعية؟)
قال الملك دهشاً. . . (يا عجباً! كأنما أسمع حديث فاتنة)
قالت شهرزاد ذاهلة: (فاتنة! فاتنة! ليس هذا الاسم عليّ غريباً، وأحسب أن لي بي عهداً قريباً)
قالت فاتنة: (فأنا إذن أتمم شخصية شهرزاد. . . بل أنا روحها الحالم. بل أنا شبحها الهائم. بل أنا غناؤها الباغم. بل أنا منطقها السليم، وسحرها العظيم. وتدبيرها الكريم. وقلبها الرحيم)
أما أبي. . . أما طهمان بن زهمان، فهو الذي أدبني فأحسن تأدبي، وهو الذي كان يخفق قلبه بمحبة شعبه فنشر المدارس بين طبقاته ليعلمه الديمقراطية، وهو الذي (رفع بعض النابهين من الدهماء إلى مناصب الدولة) مُعرضاُ نفسه لسخط الأمراء وكيد الشيوخ من رؤساء العشائر، فوصل من الديمقراطية إلى كثير مما كان يريد. . .
فشهرزاد وأبي طهمان وأنا. . . إنما نكون هذا الثالوث المقدس الذي ألفه العميد لتهذيب روح شهريار، ولإنقاذ هذا الروح من البرم والتوجس والتشاؤم الأسود الذي عصف به منذ خانته زوجه. وقد نجحنا في هذا، وبلغنا منه ما نريد)
قالت فاتنة: (فاسأل المرجفين إذن أين هو السَّرق الذي يدعونه؟ بل أين الشبه بين كل؟ أيكفي أن يسأل شهريار شهرزاد ما هي، وماذا تريد؟ ليكون هناك أخذ وسرق وسطو. . . أم يكفي أن تتذرع شهرزاد العميد ببعض الغموض إبقاء على سحرها وجمالها وأسرها، ليدعى الخراصون أن الغموض من (اختراعات!) الحكيم المسجلة فلا ينبغي لأحد غيره، وإلا سرق هذا (الغير) وسطا!
وبعد. . . فلندع هذا اللغو وذاك العبث، ولنطلب إلى عميد الأدب العربي مواصلة لياليه لأنها فتح جديد في أدب القصة، وقد قرأنا كلما ألف العميد بعد (الأيام والهامش) فلم نجده أحسن كما أحسن في تلك الأحلام الرائعة الخالدة التي لا ترتهن بظرف من الظروف، ولا بعصر من العصور كما ادّعى بعضهم.
دريني خشبة