مجلة الرسالة/العدد 511/روحانية الحياة المدرسية
→ القراءة في زمن الحرب | مجلة الرسالة - العدد 511 روحانية الحياة المدرسية [[مؤلف:|]] |
على هامش أحلام شهرزاد ← |
بتاريخ: 19 - 04 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
مهنة التعليم توحي إلى النفس طمأنينة لا توحيها أية مهنة، لأن التعليم يقوم على أساس من شرف الغرض لا يعادله أي أساس. والإحصائيات تثبت أن المعلمين أقل الناس تعرضاً للآفات النفسية، بسبب تلك الطمأنينة الروحية. . . وبرغم كثرة التشكي من الغبن الذي يلاحق مهنة التعليم فإن حال المعلمين في مصر من أحسن الأحوال، فأكثرهم بحمد الله صاروا من المياسير، ولعلهم الطائفة الوحيدة التي أعفاها الله من التعطل في هذا الزمان
والمتأمل يلاحظ أن الله يبارك في أعمار المعلمين وفي أرزاقهم بقدر ما يضمرون من الإخلاص، وبقدر ما يقاسون من العناء، لأنها مهنة لا يستريح فيها غير من يرحب بالشقاء، إن جاز أن يكون مع الإخلاص في هذه المهنة شقاء
والآفة التي تكدر حيوات المعلمين هي آفة الأسلوب القديم في الترقيات؛ فترقية المدرس بمدرسة ابتدائية هي نقله إلى مدرسة ثانوية، وترقية المدرس بمدرسة ثانوية هي نقله إلى مدرسة عالية أو نقله إلى التفتيش
وكنا أرجو أن يكون الأمر بالعكس. كنت أرجو أن تكون المدرسة الابتدائية هي المكان المختار لأكابر المدرسين، ليستطيعوا خلق الروحانية في الحياة المدرسية، وليكون ذلك شاهداً على الإيمان بقدسية التعليم
المبتدئ هو الذي يحتاج إلى المدرس الكبير العقل والروح، المدرس الذي صقلته التجارب وراضته على فهم الغرائز والنفوس
والتلاميذ في المدارس الابتدائية يحتاجون إلى رياضة روحية يقوم بها مدرسون روحيون، وهم الذين صاروا في حكم الآباء، ليكون انتقال التلميذ من البيت إلى المدرسة انتقالاً من رعاية أبوية إلى رعاية روحية
والحق أن المدرسة الابتدائية هي الأساس، فإن استطعنا أن نخلق في تلاميذها الشوق إلى الحياة العلمية فسيقل خوفنا عليهم حين يتحولون إلى المدارس الثانوية
والحق أيضاً أن العُرف الذي قضى بأن يكون المدرس في الثانويات أعلى من المدرس في الإبتدائيات قد زعزع قدسية الت يضاف إلى هذا أننا أوجبنا أن تتأثر الترقيات بتلك الاعتبارات؛ فالمدرس في الثانوي مرتبه أكبر من المدرس في الابتدائي، وكان ذلك لأن المدرس يبدأ عمله في المدارس الابتدائية، ثم يتحول إلى المدارس الثانوية بعد أعوام قصار أو طوال
وليس عندي من الاقتراحات ما يصلح لتغيير هذا المنهاج، فقد فكرت كثيراً في حل هذه المشكلة، ولكني لم أصل إلى شيء، فهل أستطيع القول بتحويل بعض مدرسي التعليم الثانوي إلى التعليم الابتدائي؟
وهل أستطيع القول برد جماعة من المفتشين إلى التدريس طائعين لا كارهين؟
إن مهنتنا لن ترتفع إلا إذا رحب بها كبراؤنا، ولو دعوناهم إلى التعليم بالمدارس الأولية، وهي النواة الأصلية للتعليم والتثقيف
الطفل في مدارسنا يتيم، لأننا نبخل عليه بأكابر المدرسين
قلت مثل هذا الكلام منذ أعوام في مجلة الرسالة فسخر منه سعادة الأستاذ عوض بك إبراهيم، وأشار إلى أحد مريديه أن يكتب كلمة في جريدة الدستور يقول فيها: إن وزارة المعارف عملت باقتراحي فعينتني رئيساً للمدرسة الأولية بقصر الشوق!
وأين من يعرف أني أعتقد أن الذي فاتني في الحياة التعليمية هو أن أكون رئيساً لمدرسة أولية؟
لو سمحت الظروف بأن أكون مربياً لمائة طفل لرجوت أن أخلق منهم أشبالاً يكونون في طليعة الجيل الجديد
ما هذا التعالي الذي لا يليق بمهنتنا العالية؟
المدرس جنديُّ أمين، والجندي الأمين لا يقف إلا في مظان الحتوف. . . وتعليم الأطفال متعبة لا يضطلع بها غير كبار الرجال
المهم هو النص على تنزيه مهنتنا من الظواهر الخوادع، فلا يكون فيها فاضل ولا مفضول إلا بمقدار التفاوت في الإخلاص
المعلم في المدرسة الأولية يستطيع مساماة الأستاذ بالجامعة إن صدق من الوجهة المعنوية. وهو لصدقة سينسى فروق الرواتب، لأن أساتذة الجامعة لا يصلون إلى مناصبهم إلا بعد جهود لا يستطيعها غير أفراد، فمن حقهم أن يمتازوا برواتب تعينهم على متابعة ما يجد من التراجم والتأليف، وعلى مسايرة حيوات العلوم والآداب والفنون
المعلم في مدرسة أولية يقيم بيته وهو في صباه، أما الأستاذ بالجامعة فلا يقيم بيته إلا بعد أن يكتهل، فعلينا أن نعترف بأن من واجب الدولة أن تراعي حقه في الجهود التي بذلها من شبابه ومن أمواله ليصلح للحياة الجامعية
وخلاصة القول أني أرى روحانية المدرسة تتبع روحانية المدرس، وأرى أن نلتفت إلى المدارس الابتدائية بأكثر مما نصنع، كأن نختصها بأكابر المدرسين، وكأن نغير النظرة المألوفة إلى طبقات المدرسين، بحيث لا يكون طول الثواء بالمدرسة الابتدائية مانعاً من أن يظفر المدرس بمثل نصيب زميله في المدرسة الثانوية من الدرجات والترقيات
ويوم يكون من حق المدرس أن يفتخر بأن وزارة المعارف رأت أن يقضي حياته كلها في التعليم الابتدائي لمزايا تعليمية يكون من حقنا أن نطمئن إلى سيادة الروحية في الحياة المدرسية
أقول هذا وأنا أعرف أني أطلب غرضاً لا يتحقق إلا بعد رياضات نفسية تحتاج إلى آماد؛ فالمدرسون في جميع بقاع الأرض يريدون الفرار من المدارس الأولية والابتدائية، ولا يرضى الرجل منهم عن حاله إلا إذا صار إلى التعليم الثانوي ثم العالي. وهذه نزعة تأخذ وقودها من هوى النفس، وليس لها في نظر التعليم سناد.
أترك هذا وأنتقل إلى مسألة ثانية، هي صلة التلميذ بالمدرسة، الصلة التي توجب أن يحبها أصدق الحب، على نحو ما كان التلاميذ في بعض العهود الماضية
والواقع أن تلميذ اليوم تجتذبه قُوىً خارجية لم يعرفها التلاميذ من قبل. . . وهل ننسى أن المساجد كانت قبل عشرين سنة ملتقى التلاميذ في أوقات المراجعات؟ فأين نحن من ذلك الحال الجميل؟
لا بد من جهاد لجذب التلميذ إلى المدرسة، بحيث يحبها حب العقل، وهو أصدق الحب
يجب أن نصل إلى إقناع التلميذ بأن روح المدرسة هو الروح الصديق، وأن أوقاته في رحابها هي أوقات الصفاء
في كلام القدماء: فلان علمه أكبر من عقله، وفلان عقله أكبر من علمه، فما معنى ذلك؟
معناه أن ملكة الفهم تختلف عن ملكة التحصيل بعض الاختلاف.
وعلى ضوء هذه الفكرة نريد أن نعرف المنهج المختار في سياسة التعليم فنقول:
أيهما أنفع: قراءة كتاب عن خزان أسوان أو زيادة ذلك الخزان؟
وأيهما أفضل: نظر الخريطة عشرين مرة أو رسمها مرة واحدة؟
وحفظ مقامات بديع الزمان أنفع، أم إنشاء مقامة على غرار تلك المقامات؟
ثم أثب إلى الغرض فأحكم بأن إنشاء عشرين سطراً أنفع في تكوين الذهن من قراءة كتاب، لأن الإنشاء يوقظ القوى النفسية، ويروضها على التفكير السديد
والتعليم الحق هو الذي يقضي بتقوية الملكات الإبداعية، هو الذي يخلق عاقلاً لا ناقلاً، وبين العقل والنقل مراحل طوال
وليس معنى هذا أني أغض من قيمة الاطلاع، لا، ولكن معناه أني أدعو إلى أن تكون سياسة التعليم قائمة على إعزاز قيمة الفكر عند التلاميذ، فلا يقرأ أحدهم سطراً إلا وهو يحاول أن يأتي بأروع منه وأبدع، ولا يسمع درساً إلا وفي خاطره أنه مسئول عن التعقيب عليه بالمبتكر الطريف
ما السبب في أن يكون الجو المدرسي غير محبوب في بعض الأحوال؟
لو أمكن جذب التلميذ بالعقل إلى جو المدرسة لتمنى أن تكون مأواه إلى آخر الزمان
ولكن التلميذ يُسأل عن المواظبة الصورية، ولا يُجذب إلى المواظبة الروحية
وفي العقوبات المدرسية أن ينسخ التلميذ صفحات من كتاب، وهذا النوع من العقوبة موجود بالمدرسة الفلانية، وهو عقوبة حقَّا وصدقاً، فما يمكن أن يؤذي التلميذ بأصعب ولا أعنف من أن ينسخ كلاماً هو عن فهمه غير مسئول
هرب الشيخ محمد عبدة من الدرس ورجع إلى الريف فأقام به ثلاث سنين، لأنه طولب بإعراب البسملة قبل أن يفهم الإعراب
ومئات من التلاميذ يحضرون الدروس بالجسم لا بالروح، فهم غائبون لأنهم لا يفهمون، وإن لم تفطن المدارس إلى تقييد ذلك الغياب!
ودروس القواعد دروس غير محبوبة، لهذا السبب، أعني أنها لا تقدم إلى التلاميذ مع التعليل، ولو عللت القواعد يذكر مراميها الأصلية لأحبها التلاميذ، لأن الحياة موجودة في إضافة لفظ إلى لفظ بغاية من القوة والجاذبية، ولكن أين من يفكر في التنبيه إلى تلك الحياة؟
وخلاصة القول أن الغاية من التعليم هي إثارة الشوق إلى فهم الوجود، وتنمية المواهب تنمية تغني التلميذ عن الدرس بعد حين، وتجعل منه روحاً يتطلع إلى السرائر الكونية، والحقائق الوجودية، تطلع المتشوف إلى إدراك ما عاب عن الأسلاف، ولو كانوا من فطاحل العلماء
وكمية المعلومات ليست بالغاية العالية، وإنما الفهم الصحيح هو الغاية، ولو تعلق بأقل مقدار من المفهومات
وتصحيح غلطة واحدة في علم من العلوم أدل على قوة الذاتية من استيعاب جميع العلوم
ونظم خمسة أبيات نظماً صحيحاً فيه روح الشاعرية يدل على قيمة الفتى بأكثر مما يدل حفظه لجميع الدواوين
المهم هو إيقاظ روح الفكر عند التلميذ، بأن نجعل جميع الدروس وسيلة إلى هذه الغاية، ولن يتم ذلك إلا إذا استطعنا أن نشغل روحه وفكره وعقله بتعقب ما يرى وما يسمع تعقب الشغف والاشتياق
دخل تلميذ مصطفى كامل على الوزير علي مبارك وحاوره بأسلوب غير مقبول، فقال الوزير للتلميذ: اقرأ هذه اللوحة لأعرف مقدار ذكائك (وكانت طرة كثيرة التلافيف عجز عن قراءتها التلميذ)
قال الوزير: أنت لا تجيد غير الصياح!
فقال التلميذ: هل يتفضل الوزير فيخبرني عن عدد السلالم التي يصعدها كل يوم إلى مكتبه هذا منذ أعوام؟
فقال الوزير: التحدي تافه ولكنه معقول
والواقع أن التعليم لا يثير التطلع إلى استكشاف المجاهيل، ولا ينقل خيال التلميذ من أفق إلى آفاق إلا في أندر الأحوال. . .
عمل المدرس لا يتجه إلى تقديم الحقائق، وإنما يتجه إلى إيجاد الحقائق عن طريق التلاميذ. وأريد أن أقول إن المدرس لا يُخبر ولكنه يستخبر، إلى أن يعرف من تلاميذه الخبر اليقين، وكأنه به من الجهلاء طريقة التلقين طريقة عقيمة، وهي لا توقظ عقول التلاميذ وقد ترميهم بالخمود
والدرس هو الفرصة لتنبيه العقول الغافية، في الحدود التي تسمح بها براعة المدرس، والمدرس البارع هو الذي يسوس الدرس سياسة تقضي بأن يشعر كل تلميذ بأنه يتلقى سؤالاً بعد لحظات
هل تذكرون الواجبات المدرسية التي يؤديها التلاميذ في البيوت؟
إنها ثقيلة جداً، وبغيضة جداً، فما السبب فيما تتسم به من الثقل والبغض؟
يرجع السبب إلى أنها لم تسبق بالتشويق إلى إيجاد الحقائق
ويرجع السبب إلى أننا لم نصل إلى خلق الجاذبية المدرسية.
ويرجع السبب إلى أننا لم فكر جدياً في إبداع شخصية التلميذ. . .
وأنا أختم هذه المقالات بتوكيد ما قلته في صدر مقال اليوم وهو أن مهنة التعليم في مصر مهنة سعيدة وأصحابها سعداء
المدرس المتبرم ليس بمدرس، لأن التدريس من أقوى موجبات الابتسام
ولو أردنا شكر الله على أن جعلنا مدرسين لعجزنا عما نريد من الشكران
للمدرس في كل يوم جهاد، وهذا مغنم جميل
إن صحت دعوتنا إلى تعميم التعلم فسيكون في مصر ألوف وألوف من المدرسين؛ فهل تستطيع مالية الدولة أن تستجيب لما يطمح إليه ألوف وألوف؟
القناعة هي التاج لمهنتنا السامية، وغِنى القلوب يستر فقر الجيوب. وهل افتقر منا أحد حتى نتوجع ونتفجع بشبهة من الحق؟
نحن أغنياء وأغنياء، فلله الحمد وعليه الثناء.
زكي مبارك