مجلة الرسالة/العدد 51/الأديب الحائر
→ أعيان القرن الرابع عشر | مجلة الرسالة - العدد 51 الأديب الحائر [[مؤلف:|]] |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 25 - 06 - 1934 |
قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم
للدكتور طه حسين
لم يكتبها بعد، ولست ادري إن يرد أن يكتبها أم لا؟ ولكن الشيء الذي لاشك فيه هو انه قد مثلها ومثلها تمثيلاً رائعاً، احب أن تشعر بروعته في هذا الحديث الذي أسوقه اليك، ولست آسف إلا لشيء واحد، وهو أنك ستشعر بهذه الروعة جملة وفي وقت قصير هو وقت نظرك في هذا الحديث، على حين شعرت أنا بهذه الروعة واستمتعتُ بلذتها الفنية تفصيلاً وفي وقت طويل، يبلغ العام أو يكاد يبلغه.
ولم يمثل الأستاذ توفيق الحكيم قصته هذه التي لم تكتب بعد، في ملعب من ملاعب القاهرة المعروفة، ولو قد فعل لشهدتها أنت وغيرك من الناس من النظارة. فأي الناس يستطيع أن يتخلف عن شهود قصة للأستاذ توفيق الحكيم يمثلها بنفسه، ويشترك معه في هذا التمثيل جماعه من المصريين المعروفين، أنا أحدهم. لم يمثلها إذن في ملعب ضيق محدود، وإنما مثلها في ملعب واسع جداً بعيد الأقطار والآماد هو ملعب الحياة. وما دام لم يمثلها في ملعب معروف، ومادام لم يخرجها للناس في كتاب، فأنا بالطبع عاجز عن أن أحدثك برأي النقاد فيها. لأن النقاد أو لأن كثرة النقاد لم يشهدوها.
وأنا أريد أن أحتاط فلا أحدثك برأي في هذه القصة، من جميع وجوهها وأنحائها لان الحر شديد، ولأن للحر الشديد تأثيراً في نفس الأستاذ توفيق الحكيم وقلمه. والناس جميعاً يعلمون أنى محبٌ للأستاذ معجب بقلمه، وأقل ما يوجبه على الحب والإعجاب أن أكون رفيقاً شفيقا، حين يشتد القيظ ويخشى من شره على الرؤوس والنفوس والأقلام. وهذا العنوان الذي وسمت به هذه القصة لا يعدو أن يكون اقتراحاً قد يعدل عنه الأستاذ توفيق الحكيم إن خطر له أن يكتب قصته فما ينبغي لمثلك ولا لمثلي، بل ما ينبغي لخير منك ولا خير مني، أن يقترح على الأستاذ أو ينصح له، فالأستاذ اكبر من ان يقترح عليه مقترح، وأن ينصح له ناصح، مهما يكن مخلصاً أميناً.
وما دامت هذه القصة لم تمثل في ملعب محدود، ولم تخرج للناس في كتاب، فان نظامها وترتيب فصولها وتنسيق مناظرها وما يكون بين أشخاصها من حركاتُ متكلفة، وحو مصطنع، كل ذلك مشكوك فيه، قابل للتغيير والتبديل، إن أراد الأستاذ توفيق الحكيم. وإنما الشيء الوحيد الذي لاشك فيه هو هذا الهيكل الذي تقوم عليه القصة ان صح هذا التعبير، فهذا الهيكل يفرض نفسه على الأستاذ الأديب وعليّ أنا الناقد المسكين فرضاً، لأنه شيء لا تملك له تغييراً ولا تبديلاً، شيء قد كان وليس للإنسان حيلة في تغيير ما كان، حتى ولو كان هذا الإنسان أستاذنا وكاتبنا الأديب توفيق الحكيم.
أما الفصل الأول من هذه القصة كما كانت لاكما ستكون يوم يكتبها الأستاذ توفيق إن أراد، فيقع في العام الماضي في أوائل الربيع في حجرة من حجرات البيت الذي كنت اسكنه في هليوبوليس. إذ يقبل علي صديقان يحبان الأدب لأنهما أديبان، ويعجبان بالأستاذ توفيق الحكيم لأنه أديب. وهما يتحدثان إلى عن هذا الأستاذ الذي لم أكن أعرفه ولا سمعت من حديثه شيئاً. فيثنيان عليه بما هو أهله، أو بما هو أهل لأكثر منه، ثم يدفعان إلى كتاباً وضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وكان يود أن يهديه إلي بنفسه لولا أنه لايعرفني، ولايريد أن يلقاني حتى اقرأ كتابه وأكون لنفسي رأياً فيه، ثم يقصان عليّ الكثير من أطواره الغريبة حتى يثيرا في نفسي الشوق إلى لقائه، وإلى النظر في كتابه، فإذا انصرفا اقبل صديق ثالث فلا أكاد أحدثه بما كان من أمر الصديقين حتى يثني على الكاتب ويثني على الكتاب، ويزعم لي انه قرأ الكتاب مخطوطاً قبل أن ينشر، لأن صاحبه لا ينشر شيئاً حتى يستشير فيه أصدقاءه، وينبئني كذلك بأن هذا الكتاب لم ينشر إلا نشراً ضيقاً، لأن صاحبه يريد ان يعرف رأي المثقفين قبل أن يعرض نفسه على كثرة القراء.
فإذا كان الفصل الثاني فقد أخذت اقرأ في الكتاب فأرضى عنه، ثم أعجب به، ثم أكتب عنه فصلاً في (الرسالة) أسجل فيه هذا الإعجاب، وذلك الرضى، وملاحظات يسيرة لا بأس منها على الكاتب ولا على الكتاب. وما يكاد يلقى الستار على هذا الفصل، ويستريح النظارة في وقت الراحة بين الفصول، حتى أتلقى رسالة برقية ملؤها الشكر وعرفان الجميل ومصدرها الأستاذ توفيق الحكيم.
ثم يكون فصل ثالث والخير في ألا نقسم القصة إلى فصول، بل إلى مناظر يتبع بعضها بعضاً، وليعذرنا الأستاذ توفيق الحكيم فنحن لا نحسن الكتابة في التمثيل. يكون منظر ثالث أو رابع لا أدري، وإذا الأستاذ توفيق الحكيم قد سعى إلى من إقليمه الذي كان يعمل فيه، وهو يشكر لي تشجيعي له، ويغلو في هذا الشكر ثم يلقى أموره الأدبية كلها إلي، ويطلب مني أن أكون له مرشداً وحامياً، فأقبل منه هذا كله سعيداً به، مبتهجاً له، وأتحدث إلى الأستاذ حيث الصديق المحب المعجب، ويتكرر هذا المنظر مرات كلما اقبل الأستاذ من إقليمه الذي كان يعمل فيه إلى القاهرة ليقضي فيها بين أصدقائه يوماً أو يومين، والحديث والود يتصلان ويشتد اتصالهما بيننا وتظهر آثار هذا الاتصال فيما يكون من كتب تنشرها لنا (الرسالة)، ومن لقاء يشهده الأصدقاء. ثم يكون منظر آخر من هذه المناظر الكثيرة التي سيؤلف الأستاذ منها قصته إن أراد. نجتمع فيه مع أصدقاء لنا يعرفهم الأستاذ، ونتشاور في أمره هو لا في امرنا نحن، فهو يريد إن ينتقل من الأقاليم إلى القاهرة، لأنه ضيق بحياة الريف التي لا يجد فيها ما يلائمه من البيئة المثقفة المتحضرة وما يحتاج إليه من الكتب، ولأنه يلقى فيها بعض العناء، فحياة وكلاء النيابة في الأقاليم مضنية شاقة، وفي وزارة المعارف عمل قد يلائمه وهو يميل إلى هذا العمل، ولكني أنا لا أميل إليه، وأنا أوافق على ان بيئة القاهرة وحياتها خير للأستاذ من بيئة الأقاليم وحياتها، ولكني أشفق عليه من وزارة المعارف لأني اعلم الناس بوزارة المعارف، ولاني واثق بأن الهواء الذي يملأ غرفاتها وحجراتها لا يلائم حياة الأديب المنتج وإنما هو هواء خانق لكل أدب ولكل إنتاج. والأستاذ وأصدقاؤه يلحون في العرض وأنا ألح في الرفض، ثم اقترح مكاناً آخر يستطيع الأستاذ أن يعيش فيه عيشة تلائم الإنتاج الأدبي، فيظهر أن تحقيق هذا الاقتراح غير ميسور، ثم يلقى الستار ويتم انتقال الأستاذ من الريف إلى القاهرة في هذه الراحة التي تكون بين الفصول، ثم يكون منظر آخر أو مناظر أخرى نجتمع فيها لنقرأ بعض الكتب التي يريد الأستاذ إخراجها للناس، ومنها شهرزاد.
فالأستاذ شديد الشك في نفسه، ضئيل الثقة بفنه، لا يظهر آثاره إلا إذا أقرها أصدقاؤه الأقربون. وهو لا ينشر فصلاً في (الرسالة) إلا إذا قرأته وأذنت بنشره. وهو لا يرى أنه قادر على أن يحتمل وحده تبعة الإذاعة والنشر. ثم نقر من هذه الكتب ما نقر، ونرجئ منها ما نرجئ ونتحدث عن أهل الكهف وعن طبعة ثانية تذاع بين الناس. فاقترح أنا أن أقدمها إلى الجمهور فيظهر الأستاذ وأصدقاؤنا الرضا بذلك والابتهاج له، ثم يلقى الستار ويرفع وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف، وأبطأت أنا بالمقدمة أسبوعين أو نحو أسبوعين.
فينشر الكتاب بغير مقدمة، وبغير أن يتحدث إلى أحد في ذلك، فيسوءني ذلك بعض الشيء فيسعى إلي الأستاذ في منظر جديد، ويعتذر إلي بمحضر من بعض الأصدقاء، فأسمع منه وأبسم له وأتجاوز عن استعجاله، وينصرف راضياً. فإذا أصبحت تلقيت منه هذا الكتاب باللغة الفرنسية وأنا أترجمه فيما يأتي:
أنا محزون حقاً. فقد فكرت، فإذا خطيئتي بديهية: فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أخرج كتبي.
فماذا ترى في موقفي منك؟ ويزيدني حزناً لطفك حين تجاوزت في سهولة وكرم عن كل هذا.
إنما أنت في حقيقة الأمر فنان كبير، فنان حقاً وإني لأعترف بأني لم امنح هذه النفس، ولست أنا خليقاً بالفن ولا بك.
واليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك على فسأعرض عن كل حياة أدبية.
وتقبل
ت. الحكيم
وأخشى أن أكون قد أسأت الترجمة فأنشر معها النص الفرنسي لهذا الكاتب الكريم:
, -
- ? ' , ' ' '
, ' ' ' ,
ثم يكون منظر آخر يراني الله فيه حزيناً أسفاً ومشفقاً جزعاً لأني صدقت هذا الكلام، وخفت أن يكون صاحبه جاداً فيه فأنكرت من نفسي ما أظهرت من غضب، وهأنذا أسرع إلى التليفون فألتمس صاحبي في مظاله كلها، حتى يصلني به التليفون، فأداعبه ألاعبه، وأترضاه، وأتلطف له، وأقبل منه، وأهدي إليه حتى يرضى. وتطمئن نفسه الثائرة أو التي كنت أحسبها ثائرة، ويهدأ قلبه المضطرب أو الذي كنت أظنه مضطرباً، ويستريح ضميره المتعب أو الذي كنت أراه متعباً.
ثم تكون مناظر أخرى تجرى الحياة فيها بيننا كما تجري بين الأصدقاء الذين تؤلف بين قلوبهم المودة والحب والإعجاب، الا منظراً واحداً انكرته، ولكني لم اظهر إنكاري له، كان في مجلس لنا بغرفة من غرفات لجنة التأليف وكنا كثيرين، وكنا نتحدث عن الكتاب والشعراء المحدثين، وعن أصحاب القصص خاصة، وكنت أريد ان أعنى بآراء هؤلاء الكتاب والشعراء وان أتبين وأبين للناس مالهم من المحاسن والعيوب او ما أرى لهم من المحاسن والعيوب. وهنا يثور ثائر الصديق الأديب ويأبى لي العناية بهذا الأدب الحديث لأنه لا يصلح أن يكون أدباً حديثاً أو قديماً، ولأن الطابع الفني الصحيح ينقصه، فنختلف في ذلك ونفترق على غير اتفاق؟
ثم يكون منظر آخر وما اكثر هذه المناظر التي ستتألف منها هذه القصة، والتي ستقيم لأصدقائي ولخصومي أدلة قاطعه على أني من المكر والدهاء والحذر بحيث يظنون. أراني في حجرة من حجرات البيت الذي أسكنه الآن في الزمالك، وقد أقبل الصديق الأديب ومعه اثنان من أصدقائنا، وكنا على موعد لنقرأ فصلاً كان الصديق الأديب يريد أن ينشره في الرسالة. ولكن أصدقاء آخرون قد اقبلوا، وليس يعنيهم أن يقرأوا آثارنا الأدبية أو يسمعوها قبل أن تذاع فنتحدث إليهم، ونسمع منهم، ويطول الحديث حتى إذا تمت الساعة التاسعة انصرف الأصدقاء، وبقينا نحن فنقرأ الفصل على طوله، ونحاور فيه، ثم لا نفترق حتى تنتصف الساعة الحادية عشرة، وشهد الله لقد كان في بيتي تلك الليلة مرض هو آثر عندي من ألف أدب وأدب ومن ألف أديب وأديب، ومن الحياة والأحياء جميعاً، فما ترددت مع ذلك في أن أسمع، وأحاور، وأقترح التغيير والتبديل، كما لو كنت مستريحاً فارغ البال:
ثم تكون مناظر أخرى أسمع في بعضها اللوم لأني احب توفيق الحكيم واقرأ في بعضها الشتم لأني اكبر توفيق الحكيم، وأنا أبسم للوم اللائمين، وأضحك لشتم الشاتمين، لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب:
ثم أكتب إلى المصور فصلاً عن الأدب التمثيلي في مصر فلا يكاد ينشر حتى يتحدث إلي من يتحدث بأن الكاتب الأديب مغضب من هذا الفصل لأني لم أنصفه فيه، ولأني زعمت أن قصصه التمثيلية على جمالها وروعتها قد لا تلائم الملعب المصري. فلا أحفل بحديث المتحدثين، ولا بنقل الناقلين، واقرأ في المصور بعد ذلك رداً من توفيق فيه عوج كثير فأقوم هذا العوج مداعباً لصاحبه، ملاطفاً له، ثم يبلغني أنه قد سعى إلي في بيتي مساء الاثنين الماضي فلما لم يجدني فيه ترك لي تحيته ومودته وانصرف. ثم أكتب عن شهرزاد، فلا يكاد يظهر حديثي عن شهرزاد حتى أتلقى من صديقي توفيق هذا الكتاب صباح الخميس. لا يحمله إلي البريد، وإنما يحمله ساع خاص ولا يكتبه توفيق بخطه وإنما يضربه على الآلة الكاتبة ضرباً، ويتفضل الصديق فيمضيه بخطه. ولست اعرف آية في الأدب والمودة والوفاء وصدق الرأي في الأدب والنقد، والصلة بين الكتاب والناقدين تشبه هذا الكتاب. ولا غرابة في هذا، فتوفيق قد عاهدنا على ألا يكتب إلا كان مبدعاً مبتكراً. وأنا أنشر نص هذا الكتاب لأنه سيكون باقياً على الدهر، ولأنه سيقع من الكتاب والناقدين في هذا العصر موقع تلك الوصية التي زعموا أن عبد الحميد قد أذاعها في الكتاب القدماء آخر أيام بني أمية.
قال الصديق توفيق الحكيم:
عزيزي الدكتور طه حسين
يظهر أني سيئ الحظ معك أو أنك سيئ الحظ معي هذا الأسبوع، فلقد قرأت مقالك عن شهرزاد وما أحسبنا تلاقينا فيه عند رأي، فأما قولك أنى أدخلت في الأدب العربي فناً جديداً وأتيت بحدث لم يسبقني إليه أحد، فهذا إسراف سبق لي أن أشرت إليه في خطاب مني إليك عن أدب الجاحظ ذكرت فيه يومئذ أن للجاحظ ملكة في إنشاء الحوار تذكرنا ببعض كتاب المسرح من الغربيين. فما أنا إذن بمبتدع وإنما أنا أحد السائرين في طريق شقه الشرق من قبل. وأما نصيب قصصي من البقاء فلست اعتقد أن لنا قد معاصر حق الجزم به، وما بلغت من البساطة حد تصديق ناقد يتكلم في هذا. فان الزمن وحده هو الكفيل بالحكم للأعمال بالبقاء. فأنا كما ترى لا اسمح لنفسي بقبول مثل هذا الثناء. كذلك لست اسمح لأحد أن يخاطبني بلسان التشجيع، فما أنا في حاجة إلى ذلك، فإني منذ أمد بعيد اعرف ما اصنع. ولقد أنفقت الأعوام أراجع ما أكتب قبل أن انشر وأذيع. كما أنى لست في حاجة إلى أن يملي علي ناقد قراءة بعينها، فإني منذ زمن طويل اعرف ماذا اقرأ. وما أخالك تجهل إني قرأت في الفلسفة القديمة والحديثة وحدها ما لا يقل عما قرأت أنت: - وما أحسبك كذلك تجهل أني اعرف الناس بما عندي من نقص، واعلم الناس بما احتاج إليه من أدوات، فأرجو منك أن تصحح موقفي أمام الناس وألا تضطرني إلى أن أتولى ذلك بنفسي.
توفيق الحكيم
وأنا أسرع قبل كل شيء إلى تصحيح موقف توفيق لا أمام الناس، بل أمام نفسه وأمام رؤسائه في وزارة المعارف. فقد كنت أشفق عليه من هؤلاء الرؤساء كما كنت أشفق عليه من نفسه إذا اتصل بهؤلاء الرؤساء. فالذين يعملون في وزارة المعارف لا ينبغي أن تظهر الصلة بينهم وبيني، لان هذه الصلة خطرة حقاً. وما رأيك في قوم يعملون في هذه الوزارة ثم يتصلون برجل لا يزال من يوم إلى يوم ينال هذه الوزارةورؤساءها بالنقد الشديد. وأؤكد لصديقي توفيق إني لم انشر كتابه هذا إلا تصحيحاً لموقفه أمام رؤسائه وأمام نفسه، فسيعلم رؤساؤه منذ اليوم انه قد أساء إلي عمداً وفي غير ما يبيح الإساءة، وانه قد قطع ما بينه وبيني من صلة، وانه قد سجل هذه القطيعة في كتاب، أني قد سجلت هذه القطيعة في صحيفة سيارة. ليشيع أمرها بين الناس. واضن أن رؤساءه منذ اليوم سيرفقون به، ويعطفون عليه، ويحسنون الرأي فيه. وأظن انه سيحس منهم ذلك فيطمئن على منصبه ويستريح إلى رضى رؤسائه عنه، ويبتسم له الأمل بالمستقبل القريب والبعيد.
والآن وقد صححت موقف توفيق أمام نفسه وأمام رؤسائه أريد أن أصحح موقفه أمام الناس وأمام الأخلاق وأمام الأدب أيضاً. فموقفه أمام هؤلاء جميعاً في حاجه إلى تصحيح لم يخطر لصديقنا ببال فيما يظهر لانه كان مشغولاً بنفسه ورؤسائه، ولعله كان مشغولاً بذلك القيظ الشديد، الذي أخرج كثيراً من الناس عن أطوارهم منذ أيام.
فأما قول توفيق إني قد أسرفت حين زعمت انه احدث بالأدب العربي حدث لم يسبقه إليه احد، فإني احمده له وإني كنت اعرف أن هذا الكلام كان يرضيه، وانه كان يحب أن يسمعه وأن يقرأه قبل هذا الأسبوع الذي هاجمت فيه وزارة المعارف مهاجمة عنيفة، ومن الحق انه تحدث إلي بان للجاحظ ملكة حوار ولكن من الحق أيضاً أنه نبهته إلى أن الحوار شيء والتمثيل شيء آخر، وإلى أن الكاتب يستطيع أن يكون محاوراً مجيداً دون أن يبلغ من التمثيل شيئاً. فإذا كان الجاحظ قد أتقن الحوار وبرع فيه فلا ينبغي أن يفهم من هذا بحال أن الجاحظ قد عرف التمثيل أو ألم به أو كان يمكن أن يخطر له التمثيل على بال. وانه لمن المؤلم حقاً أن احتاج إلى أن أسوق مثل هذا الكلام إلى كاتب أديب كتوفيق قرأ من آثار القدماء والمحدثين مثل ما قرأت على الأقل.
وأما أن توفيقاً ينكر على أن احكم لقصصه بالبقاء، فهذا إسراف منه كثير، فنحن الناقدين أحرار فيما نعرف من ذلك وما ننكر، وفيما نثبت من ذلك وما نمحوه، ومادام الزمان هو الحكم الأخير في هذا كله فيما يضير صاحبنا أن نحكم له أو أن نحكم عليه. واغرب من هذا كله أن يرفض توفيق ما أهديت إليه من ثناء، فليعلم إني لم اهدِ الثناء إلى شخصه ليرفضه أو يقبله، وأن شخصه لا يعنيني إلا قليلاً منذ الآن، وإنما أهديت الثناء إلى فنه ومازلت أهديه اليه، ولن يستطيع هو أن يرده. وكنت احب له أن يرفق بين شخصه الفاني وفنه الباقي.
وأما أنه لا يسمح لأحد أن يحدثه بلغة التشجيع فقد كنت أحب أن يكون أذكى في حياته العملية من أن يشارك رئيس الوزارة في لغته، (فلا أسمح) هذه كلمه يملكها رئيس الوزراء القائم وحده. ولكن الذي يجعل نفسه دولة لا يتردد في أن يستعير لغة الوزراء وهو بعد حر في أن يسمح أو لا يسمح فسنشجعه على رغم منه، لأن فنه يستحق التشجيع، ولأن واجبنا الأدبي يفرض علينا تشجيع المجيدين فرضاً. وأما أنه لا يسمح لأحد بأن يدله على ما يقرأ، وأنه قرأ في الفلسفة القديمة والحديثة مثل ما قرأت على الاقل، فإنني احب أن يعلم أن ما قرأته لا يرضيني لنفسي ولا لغيري، وإني ابذل ما أملك من جهد لأقرأ أكثر مما قرأت ومما قرأ غيري. وأسأل الله أن يقيني وأن يقيه شر الغرور، فهو مهلك للنفوس حقاً. وأما انه اعرف الناس بما ينقصه، وأعلم الناس بما يحتاج إليه من الأدوات وانه لا يحتاج مع ذلك إلى نقد ناقد، فهذا رأيه في نفسه منذ الآن ولا يشرفه ولا يرفع منزلته عند أحد. أما أنا فأرى لنفسي الحق في أن أدل كل كاتب يخرج للناس كتاباً على رأي فيما ينقصه وفيما يحتاج اليه، وهو حر في أن يقبل أو يرفض، ولكني حر كذلك في أن أقول له ما أريد.
أما بعد، فهل صححت موقف توفيق أمام الناس، أم هل ما يزال مضطراً إلى أن يصححه بنفسه؟ أحب أن يعلم توفيق إني لن أرد عليه بعد الآن، ولن أحفل به إلا يوم يخرج لنا كتاباً نقرؤه، ويومئذ سأعلن رأيي في هذا الكتاب سواء رضى توفيق أو سخط، وأنا أرجو أن يكون رأي في كتبه المقبلة حسناً كرأيي في أهل الكهف وشهرزاد. وأرجو بعد هذا كله أن يتدبر الكتاب والشعراء هذه القصة التمثيلية فان فيها عبراً وعظات، وأن أمثالها مع الأسف في مصر ليس بالقليل.
طه حسين