الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 51/أعيان القرن الرابع عشر

مجلة الرسالة/العدد 51/أعيان القرن الرابع عشر

مجلة الرسالة - العدد 51
أعيان القرن الرابع عشر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 06 - 1934

5 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

الشيخ محمد العباسي المهدي الحنفي

هو ابن الشيخ محمد امين، ابن الشيخ محمد المهدي الكبير الشافعي، كان جده المذكور من الأقباط، فأسلم على يد الشيخ العلامة محمد الحفني، وقرأ عليه وعلى أخيه الشيخ يوسف الحفني وغيرهما حتى صار من كبار العلماء، وترشح لرياسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي ولكنها لم تتم له، وتولاها الشنواني، وقد أطال الجبرتي في ترجمته. ثم نشأ ولده الشيخ محمد أمين عالماً حنيفاً وتولى الفتوى بمصر زمناً، وتوفي سنة 1247.

وولد المترجم بإسكندرية سنة 1243 فقرأ بها بعض القرآن، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1255 فأتم حفظه، واشتغل بالعلم سنة 1256 فقرأ على الشيخ إبراهيم السقاء الشافعي، والشيخ خليل الرشيدي الحنفي، والشيخ البلتاني وغيرهم، ثم صدر أمر إبراهيم باشا بن محمد علي بتوليته إفتاء الديار المصرية في منتصف شهر ذي القعدة سنة 1264 وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، ولم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير، ويقال انه السبب في ذلك عارف بك الذي تولى القضاء بمصر، وكانت له الصلة بأبي المترجم. فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر قابله عارف بك، وكان إذ ذاك شيخاً للإسلام وأوصاه خيراً بذرية الشيخ المهدي، وان يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، فكان همه السؤال عنهم عودته لمصر، وطلب المترجم لحضرته فصادفوه في درس الشيخ السقاء يحضر مقدمة مختصر السعد، فركب إليه وهو بين الخوف والرجاء، ولما قابلة أثنى عليه لاشتغاله بالعلم، ثم أنباه بأنه ولاه منصب الفتوى بمصر، وعزل عنه الشيخ احمد التميمي الخليلي وخلع عليه خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلساً بالقلعة حضره حسن باشا المنسترلي والشيخ مصطفى العروسي وغيرهما، فأقروا على إقامة أمين للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل صاحبها لها ويباشرها بنفسه، واختاروا له الشيخ خليلاً الرشيدي الحنفي بدل الشيخ علي البقلي أمين فتوى التميمي، ونزل المترجم من القلعة بموكب كبير من العلماء والأمراء ووفد الناس على داره للتهنئة، ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول الشيخ محمد شهاب: عز يا عزة الحمى أن تقاسي ... بمهاة الصريم فيما تقاسي

ومنها قوله:

تب مفتي الهوى وتبت يداه ... ضل شرعي نهجه والسياسي

فدعيه يا عز اصطباري ... إن فتواه فتنة للناس

ولئن قلت أي فتوى البرايا ... حكمت بالنصوص دون التباس

وارتضاها الزمان قل لي وأرخ ... قلت فتوى مهديه العباسي

1264

وهي قصيدة طويلة ألحق بها هذه الأبيات الثلاثة مشيراً فيها إلى التميمي وإلى الرشيدي أمين الفتوى الجديد.

قلت لما أن تمبدر التميمي ... واعتراه نقص الخسوف الشديد

رجع الدر بالفتاوى إلى ما ... كان فيه من المكان المشيد

فلنعم الرشيد يا ابن أمين ... ولنعم الأمين يا ابن الرشيدى

وروى الفاضل محمد أفندي التميمي في الترجمة التي جمعها لأبيه الشيخ احمد التميمي أن سبب عزله عن الإفتاء أحقاد قديمة كانت في صدر إبراهيم باشا منه بسبب معارضته له في أمور تخالف الشرع كان يريدها ويعارضه الشيخ فيها، فلا يجد بداً من الإذعان بسبب إقبال أبيه محمد علي على الشيخ، فلما تخلى عن ولاية مصر وتولاها إبراهيم كان اكبر همه عزله عن الإفتاء. انتهى.

ثم أكب المترجم على الاشتغال بالعلم خصوصاً الفقه حتى نال منه حظاً وفيراً، وجلس للتدريس بالأزهر لاقراء الدر المختار فقرأ منه إلى كتاب الطلاق وأكمل قراءته في داره، وقرأ الأشباه والنظائر في داره أيضاً، وباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتهر بين الناس بالحزم والعزم وعدم وممالأة الحكام، وحسبك وقوفه في وجه عباس باشا الأول وتعريضه نفسه للتهلكة صيانة لما استودع من أمانة العلم، وسبب ذلك ان هذا الوالي أراد أن يمتلك جميع ما بيد ذرية جده محمد على مدعياً انه ورد مصر لا يمتلك شيئاً، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة يجب رده إليها، ووضعه بيد أمينها المتولي شؤونها، واستفتى المترجم فلم يوافقه وأصر على الامتناع، ولم يحفل بوعيده وتهديده حتى طلبه فجأة إلى بنها فسافر إليها وهو موقن بالهلاك، وكان معه عند طلبه الشيخ أبو العلاء الخلفاوي، فسافر معه لمؤانسته ومواساته، فلما وصلا قصر بنها روجع المترجم في الفتوى فأصر على قوله الأول، فأُمر بهما فانزلا إلى سفينة بخارية سافرت بهما ليلاً لنفي المترجم إلى أبى قير؛ واعتراه لشدة وجله زحير كاد يودي به وهو مع ذلك مصر على قوله، والشيخ أبو العلاء يهوُن عليه الأمر ويؤانسه بالكلام إلى أن صدر الأمر بإرجاع السفينة، وانزلا منها وأمرا بالسفر إلى القاهرة وسلم الله. فكانت هذه الحادثة سبباً لعلو المترجم في النفوس وأعظام الولاة فمن دونهم لشأنه؛ وتسبب منها إقباله على الشيخ أبي العلاء المذكور وسعيه له في المناصب التي تولاها وعظم بها أمره بعد ذلك.

ثم لما كانت سنة 1287 والمتولي على القطر الخديو إسماعيل باشا، وكان انحرف عن الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، فأراد عزله ولكنه خشي الفتنة، لأنه شيء لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ في جس نبض العلماء وسبر غورهم في ذلك، فهون عليه الشيخ حسن العدوى الأمر، وأوضح له انه وكيل الخليفة أن يعزل من يشاء والوكيل له ما للأصيل، فسر الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسي في أواخر السنة المذكورة، وكان العدوى يطمع فيها، وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه فأخلف الله ظنه، وصدر أمر الخديو في منتصف شوال بتولية المترجم والجمع له بين منتصب الإفتاء ومنصب الأزهر، فاستدعاه وخلع عليه وأنزله من عنده بالموكب المعتاد. فباشر شؤون منصبه بحزم وعزم وتؤدة وتعقل، وكان أول ما صدر منه سعيه لدى الخديو بإعادة ما كان لأهل الأزهر من المرتبات التي أبطلت زمن عباس باشا، فوافقه على ذلك وأعيدت المرتبات الشهرية والسنوية، ثم استصدر أمراً من الخديو بوضع قانون للتدريس، فأجابه إلى ذلك ووضع قانون الامتحان، وكانوا قبل ذلك لا يمتحنون بل كان من تأهيل للتدريس تصدّر له، فيحضر له، فيحضر أول درس له شيوخه وغيرهم من كبار العلماء، ويناقشونه فان وجدوه أهلاً أقروه وإلا أقاموه.

ولم يزل المترجم سائراً في طريقة المحمود، ملحوظاً بعين التبجيل من الحكام، وبين الخاص والعام، حتى ثارت الثورة العرابية المشهورة، ورأى فيه العرابيون أنه ليس بالرجل الذي يوافقهم ويساعدهم في مطالبهم، فكان من جملة ما طلبه عرابي باشا من الخديو لما زحف بالجيش على قصر عابدين عزل المترجم من الأزهر، فعزل عنه المحرم سنة 1299، وتولى عليه بدله الشيخ محمد الانبابي، وانفرد هو بالافتاء، ثم تجسمت الفتنة وجاهر العرابيون بطلب عزل الخديو، وكتبوا قراراً بذلك اجبروا العلماء والوجهاء على التوقيع عليه، فامتنع المترجم من موافقتهم على ذلك، وقال لحامل القرار: أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غصب فان خاتمي معه خذوه ووقعوا انتم بأيديكم كما تشاءون.

فانحرف عنه العرابيون وضايقوه وبثوا عليه العيون حتى احتجب في داره التي على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحامى الناس زيارته، وصار لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه؛ ومرت عليه أيام وليال قضاها في انتظار حتفه في كل ساعة تمر به، حتى كانت الهزيمة الكبرى على العرابيين، وتشتت شملهم، وعود الخديو إلى مقر ملكه في 12 ذي القعدة من تلك السنة، فذهب المترجم فيمن ذهب للسلام عليه وتهنئته بالظفر، ودخل مع العلماء فخصه الخديو بترحيب ورعاية زيادة عمن معه من العلماء تقديرا لحسن بلائه في الإخلاص له مدة الفتنة؛ ولحظ الشيخ الانبابي شيخ الأزهر إغماضا عنه من الخديو، وخشي أن يعزله ليعيد العباسي، فقال بيدي لا بيد عمرو، واستقال بعد أيام؛ فأصدر الخديو أمره يوم الأحد 18 منه بإعادة المترجم إلى الأزهر، علاوة على منصب الإفتاء الذي بيده، ونصه موجها لرئيس النضار:

(انه بناء على استعفاء حضرة الأستاذ الشيخ محمد ألانبابي من وظيفة مشيخة الجامع الأزهر، ووثوقنا بفضائل وعالمية حضرة الأستاذ الشيخ محمد العباسي المهدي، قد اقتضت إرادتنا توجيه هذه الوظيفة لعهدته كما كانت قبلا، علاوة على وظيفة إفتاء السادة الحنفية المتحلي بها من السابق، وصدر امرنا للمومى إليه بذلك في تاريخه، ولزم إصدار هذا لدولتكم إشعارا بما ذكر في 2 أكتوبر سنة 82 الموافق 18 ذي القعدة سنة 99)

فتمت للمترجم رياسة الأزهر على رغم انف كثيرين، فان بعض علماء الأزهر سعوا لتنصيب الشيخ عبد الهادي نجا الابياري، وكتبوا كتابة بذلك واخذوا يوقعون عليها، ويطوفون بها علىالعلماء، فلم يشعروا إلا وقد فاجأهم الأمر بإعادة المترجم، وذهب سعيهم وتعبهم أدراج الرياح.

ثم استمر المترجم جامعاً للمنصبين قائماً بشؤونهما أتم قيام، حتى كانت سنة 1304 وفيها بلغ الخديو أن جماعة من الأعيان والتجار مثل محمد باشا السيوفي، وأخيه احمد باشا يجتمعون للسمر بدار المترجم في اغلب الليالي، فيتكلمون في الأمور السياسية ويظهرون أسفهم من وجود الإنجليز بمصر، وموافقة الحكومة لهم فيما يحاولون، وغير ذلك من هذه الشؤون، فحنق الخديو أرسل لمحمد باشا السيوفي بالحضور فلم يجدوه، بل وجدوا أخاه احمد باشا، فحضر إلى القصر وقابل الخديو، فوبخه توبيخاً شديدا وقال له: يخيل إليً أنكم تريدون إعادة الثورة العرابية، فتبرأ من ذاك وحلف أن اجتماعهم لم يكن إلا بقصد السمر واللائتناس، ثم قابل الخديو المترجم في إحدى المقابلات الاعتيادية فلم يهش له كعادته، بل قال له وقت الانصراف: يا حضرة الأستاذ، الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره. فلميجبه المترجم إلا بقوله: أطال الله عمر أفندينا وأدام عليه العافية، إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، فأساله أن يعفيني منه. ولم يكن الخديو يتوقع منه هذا الكلام، بل كان يظنه يجيب بجواب يصرف المسألة بسلام، فغضب وقال مستفهما: ومن الإفتاء أيضاً؟ فقال له نعم يا أفندينا ومن الإفتاء أيضاً، ثم انصرف.

ولم يكن المترجم ممن يعزب عنهم أن مثل هذا السبب لا يدعو إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الخديو صرفه بالحسنى مع من اتهم معه، ولكن كان هناك سبب أقوى أغضب رئيس النظار نوبار باشا الأرمني، وذلك لحادثة رفعت عنها دعوى أمام المحاكم الأهلية، واستدعى الأمر طلب كشف وجه إحدى المخدرات للتحقق منها فامتنعت عن الأسفار محتجة بعدم جوازه في الشريعة، واستفتى المترجم في النازلة، فأفتى بعدم الجواز وشدد في المسألة؛ فشكا رئيس النظار للخديو وأوضح له أن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء؛ ويقال انه طلب منه إما أن يقيله من الوزارة، أو يعزل المترجم. فلما قال الخديو للمترجم ما قال تيقن أن المراد عزله فاستقال. فأمر الخديو يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني من السنة المذكورة بإعادة الشيخ محمد الانبابى للأزهر، وإقامة الشيخ محمد البناء للإفتاء.

وبقى المترجم بداره التي على الخليج واشتغل بإصلاح قسم منها تشعث فأعاده إلى رونقه الأول، وصبغ حيطانه بالأصباغ، وهو القسم المطل على الخليج، وصار يمضي وقته بالنظر في شؤونه الخاصة والاشتغال بالعلم، إلى أن أعيد إلى الإفتاء فقط في. . .

فبقى به إلى وفاته، وأصيب في آخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلاً وصار يخرج في عجلته للتنزه بدون فرجية بل بعباءة بيضاء من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها، فانتقل إليها وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئاً، فعاد لدارهبالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب سنة 1315 عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزناً شديداً، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفاً، والمصلين عليه نحو خمسة آلاف، ثم دفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء جمعت مراثيهم في رسالة ألفها الشيخ عثمان الموصلي نزيل القاهرة، وسماها (المراثي الموصلية في العلماء المصرية)، لأنه أضاف إليها ما رثي بها الشيخ عبد الرحمن الرافعي مفتي الإسكندرية، والشيخ سليم القلعاوي شيخ مسجد القلعة، والشيخ محمد المغربي المتوفون هذه السنة أيضا.

وكان المترجم رحمه الله ربعة إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة وولدين هما الشيخ عبد الخالق المهدي والشيخ أمين، ماتا بعده الواحد تلو الآخر. ولم يؤلف من التأليف سوى مجموع فتاواه الذي سماه (الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية)، طبع بمصر سنة 1301 في ثمانية أجزاء كبار. وعاش في عز وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء مدة إبراهيم باشا وعباس باشا الأول وسعيد باشا وإسماعيل باشا وتوفيق باشا، أي أربعين سنة من سنة 1264 إلى سنة 1304 لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع، وسبب ذلك انه تولاه وهو صغير والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك ملكة فيه حتى صار معدوم النظير، لا يجاريه مجار في هذا المضمار وأضيف إلى ذلك ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام. ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل باشا أراد مره ان يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا رسائل في الحادثة وأكثروا من الجلبة. ولم يقتصر الولاة على مشاورته في الأمور الدينية المختصة بمنصبه، بل كانوا يستشيرونه في غيرها من معضلات الأمور لما عرفوه فيه من سعة المدارك وجودة الرأي، حتى أن إسماعيل باشا لما عزل عن مصر قال لولده توفيق باشا فيما أوصاه به: احتفظ يا بني بالشيخ المهدي فأنه رجل لا نظير له. وبالجملة فمحاسن المترجم كثيرة، ولم يكن فيها ما يشينه، سوى ما كان يرميه به بعض شانئيه من الإمساك والتقتير، ويضعون عليه النوادر الخارجية عن حد المعقول، والمعروف عنه المشاهد للقاصي والداني أن داره كانت مفتوحة للصادر والوارد، لا تخلو مائدته يوماً عنهم، وحسبنا أنه كان يخرج زكاة أمواله كل سنة ويفرقها على المستحقين رحمه الله رحمة واسعة وأكثر في الأمة من أمثاله.

وكان حائزاً لكسوة التشريف من الدرجة الأولى، ومنحه الخديو عباس باشا الثاني الوسام العثماني الأول في 21 صفر سنة 1310 وهو شيخ الأزهر الشيخ محمد الانبابي، وقاضي القضاة جمال الدين افندي، وسبب ذلك ان السيد توفيقاً البكري نقيب الأشراف سافر في هذه السنة إلى دار السلطنة، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، فلما بلغ مسامع الخديو أحب أن لا يكون ممتازاً من كبار الشيوخ وهم القاضي والمفتي وشيخ الأزهر، فأنعم عليهم بهذا الوسام، وأرسل إلى السلطان ملتمساً الأنعام على المفتي وشيخ الأزهر برتبة قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاة عسكر الرومللي، لأنه كان حائزاً لرتبة الاناضول، لكن طلبه لم يصادف قبولاً.

أحيل على المترجم قديماً أمر انتقال القضاة الشرعيين والمفتين الذين يقامون في ولايات القطر ومراكزه، فكان يختار ذوي الكفايات يتحرى فيهم النجابة والذكاء والديانة، ويحامي عنهم لدى الحكام، ويشد أزرهم، فحصل له بذلك مقام لدى أهل العلم المرشحين لهذه المناصب، وقصدوه ووجهوا وجوههم شطر داره، وهو مع ذلك لا يميل مع الهوى في تنصيبهم، ولو كان ممن يمد اليد لجمع من هذا الوجه شيئاً كثيراً، ثم رأت الحكومة أن يكون أمر تنصيبهم منوطاً بلجنة تؤلف من بنظارة الحقانية برياسة وكيلها إذ ذاك بطرس غالي باشا، وعرضوا على المترجم أن يكون من أعضاء تلك اللجنة فأبى.

وكان له في المحاماة عن أهل الأزهر ومساعدتهم القدح المعلى، ونروي عنه مواقف في ذلك: منها أن الشيخ مصطفى العروسي مدة توليه على الأزهر استصدر من الخديو إسماعيل باشا أمراً بنفي الشيخ حسن العدوى إلى أسنا وكاد ينفذ فيه لولا أنه استغاث بالمترجم فقام بناصره وذهب للخديو مستشفعاً، ولجّ وألحّ حتى عفى عن الشيخ.