مجلة الرسالة/العدد 506/نظرة جديدة
→ غروب. . .! | مجلة الرسالة - العدد 506 نظرة جديدة [[مؤلف:|]] |
البَريدُ الأدبيّ ← |
بتاريخ: 15 - 03 - 1943 |
في (ليالي الملاح التائه)
بمناسبة طبعته الجديدة
للأديب حسين محمود البشبيشي
من حيوية الفن الحق أن يتجدد أثره في النفس برغم تقادم العهد، بما يبعث في نفس المتأمل من أحاسيس. وإني لأجد اليوم في الحديث عن (ليالي الملاح التائه) نشوة المقبل على شئ جديد وما ذاك إلا لتجدد ما يهيجه الديوان من بوارق الحس. وسنحاول في هذا المقال أن نسبر غور هذه النفس الشعور ونرجع عبقريتها الفنية إلى أسسها الأصلية. تنهض شاعرية الليالي على أساسين: سعة العقل المطلع، ومضاءة الشور الفني. فانك لتلمح أثر العامل الأول في مسايرة الشاعر لكل ما يضطر في عالم الإنسانية من أفراح وأحزان. فقد طلع علينا الشاعر الفنان في كثير من المناسبات وسجل الكثير من المرائي الفاتنة، وإن ذلك ليظهر جلياً في قصائده مصرع الربان، وبحيرة كومو؛ وليس أدل على أصالة هذا الأساس في نفسه من مسايرته له في كل الأحايين، وما عهدنا بقصائد: عيد الميلاد، وستالينجراد ببعيد!. . . مثل هذا يدل على أن الشاعر قد نزع قيود الشخصية المحدودة وحلق في جو الإنسانية الفسيح فأطلع طائره يمجد مصرع الربان، وداعب قيثاره يخلد ثبات ستالينجراد، وذاب لهفة وتقديراً وإعجاباً بفتنة فينسيا. ورأى بحيرة كومو وراقه منها:
بهج في كنوزها ... للمحبين مدّخر
بابل أم بحيرة ... أم قصور من الدرر
أم رؤى الخلد في الحياة تمثلن للبشر
هاله السحر منها فهتف:
لا تقل أخصب الثرى ... فهنا أورق الحجر!!
وما كان ليستطيع أن يقول سوى هذا وهو العابد للجمال والقائل:
هاهنا يشعر الجماد ... ويوحى لمن شعر!
تلك لمحة تكشف عن انطلاق شاعرنا من قيود البيئة المحدودة ونظرته إلى مفاتن ومباه الكون كوحدة تنعكس في قلبه الشاعر!
أما الأساس الثاني فهو وضاءة الشاعرية التي توشك أن تطبعه بطابع خاص يكسب قصيدة عذوبة في الجرس، ورقة في الصياغة، وأناقة في اختيار الكلمات التي تطالعك كالعروس في جلوتها. ومن منا لم يطرب لروعته الموسيقية وفتنة التركيب وحسن الاختيار الموفق للبحر الذي نسج منه الجندول والروعة اختتامه بعض أبياتها بكلمات توشك أن ترقص من رقة النغم. . . مثل (خمرة، ثغرة، عبرة، أثرة. . .) إن القارئ ليوشك أن يجد نفسه مترنما مرتلاً لتلك الأبيات التي تتوجها هذه الكلمات في غير ما شعور وبغير إرادة
تلك هي الحيوية الموسيقية عند ملاحنا التائه. وإنها لتملك عليه حواسه وتنظمها وتسيرها فتراه وقد تأمل في مظاهر الجمال، وبواعث الشعر تتوافر على حسه المشاعر، وتتوالى على قلبه العواطف فلا يسعه إلا أن يعبر عن هذه العواطف المنثالة المتدفقة في أنغام تجمع بين صدق العاطفة وتدافق الحس. . . وهو حينئذ يحس أن يعبر في مقاطع رنانة قصيرة تعطي للقارئ فكرة سريعة الانتقال النفسي الوجداني. . . أنظر إليه وقد تدفق قائلاً في عاطفة متدفقة تظهر جلية في تدافع النغمات في كلمات. . . (دعوات) و (فرحة) و (نشيد). . .
مهرجانٌ ممالك الشرق فيه ... دعوات، وفرحة، ونشيد!!
وإن ذلك ليظهر أيضاً في قوله:
وسلمت يا مولاي للوطن الذي ... بك يستظل، ويستعز، ويسلم
فقد تزاحمت وتواترت الخواطر والأحاسيس فهتف قائلاً (بك يستظل)، ثم تدفق مغرداً (ويستعز)، ثم صاح منشد (ويسلم). ومن هذا قوله:
صوامع رهبان، محاريب سجَّد ... هياكل أرباب، عروش قياصر
وثمة ناحية أخرى جديرة بالتأمل أخطأ فهمها بعض الناس. . . وهي ميل ملاحنا التائه إلى تكرار بعض الصور والألفاظ مما جعل بعض مراض القلوب يتوهمون أن ذلك وليد قصور في التخيل وضيق في الأفق. . . وما ذلك من الحق في شئ. بل إننا لننظر إلى الأمر نظرة المتأمل فنقول: التكرار عندنا نوعان. . . تكرار يوشك أن يقتصر على مرتين أو ثلاث، وتكرار لا تحدّه أرقام فهو طليق طلاقة الحس المعبر. . . والأول نراه من مظاهر القصور، والثاني نعتقد أنه من أثار الاتصال بين مظهر التعبير وجوهر الشعور. وعلي طه في تكراره فنان يساير مشاعره ويعجب بفنه؛ وهيهات أن يستطيع الخلاص من قيد عواطفه. وإذا كان في قراراته حبُ لشيء أو معنى فلا أقل من أن ينطلق مردداً له مستطيبا لتكراره. . . ولكنة حين يكررها يبدل في عرض مشاعره ويلبسها ثوباً جديداً تستشف من خلاله اتصالها بوشائج قوية مع أصولها الثابتة في أغوار نفسه. ولعل المسألة تظهر جلية إذا علم القارئ أن أهم صفة في خلق شاعرنا هي الوفاء. . . فما يستغرب إذا منه الوفاء لبعض أحاسيسه. . .! وما تلك الأحاسيس والصور التي يطيب للملاح أن يكررها. . .؟ هي: (الحلم، الأشباح. الزورق. الكأس) نعم إن المتأمل ليهوله كثرة ما ردد شاعرنا العبقري هذه الكلمات. . . ولكننا بقليل من التأمل نقول إن هذه الكلمات وإن اختلفت في الدلالة فقد اتفقت في الباعث الأصيل لها. . . وإليك الدليل. . . إن الانفعال الذي عند تصورك الحلم وانطلاقه هو بلا ريب ما تحسه عند توهمك الشبح وتهاويله. وما يصدق على الأحلام والأشباح يصدق على الكأس وعصيرها. وهل كانت الكأس إلا الوسيلة للانطلاق في جواء سحيرة فسيحة؟ وإن ما يصدق عن الأحلام والأشباح والكأس ليصدق على حيرة الزورق، فإن حيرته لتعطيك رهبة الرياح الهوج والأمواج الرعن. . . هذا وإلى القارئ بعض هذا التكرار الفني الجميل الذي يرتكز على طبيعة حق فقد كرر كلمة الحلم قائلاً:
(حلم مثلته في خاطري)، (يا عروس البحر يا حلم الخيال)، (غرقان في حلم عذب تسلسله) و (أحلام الليالي الكواعب) وتكراره لكلمة الكأس (لو سقى مثواك بالكأس الصبيب)، (هي الكأس مشرقة في يديك)، (هيئ الكأس والوتر). وتكرار لكلمة الزورق (وضمنا فيه زورق يجري)، يسري عليها للملائك زورق)، (نرقب النيل تحت زورقه).
. . . وثمة ناحية أخرى تلمحها خلال ديوانه وهي أن أصدق ما صاغه في حب وطنه كان وهو في غربة عنه؛ وتلك بارقة نفسية عميقة تدلنا على أن الفاقد للشيء هو خير من يقدره. . . أنظر إليه كيف تذكر النيل ومصر وهو على ضفاف (كومو) وفي جلوة الجندول بفينسيا. وبعد فلا يسعنا إلا أن نهتف أن هذا الشاعر المغرم بالأشباح والحيرة والشرود والأحلام والزورق خير مثال لتأثر الشاعر وتقيده بأحاسيسه الأصيلة. . . أفلم يخضع لهذه الحيرة السابحة والأحلام والأشباح فأبى إلا أن يكون ملاحاً تائهاً. . .
حسين محمود البشبيشي