الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 499/مطالعاتي حول المدفأة

مجلة الرسالة/العدد 499/مطالعاتي حول المدفأة

بتاريخ: 25 - 01 - 1943


الفنانون والمال

للأستاذ صلاح الدين المنجد

يذهب دافنيل ' في كتابه عن (تاريخ الملكية الاقتصادي. . .) أن العمل الفني الذي أخرجه أناس مجهولون أوتى، منذ القرن السابع عشر، ربحاً يعادل ثلاثة أضعاف الربح الذي قدر للآثار الفنية الرائعة التي أبدعها فنانون عباقرة عرفهم الناس فسار اسمهم، وشردت روائعهم في كل مكان

أفيكون للمال الذي يربحه الفنان، والرواج الذي يُقَدَّر لآثاره ورائعاته، أثر في قريحته ونبوغه؟ أيدب اليأس في نفسه عند رؤيته الغث يروج وينفق، والحسن يكسد ويهمل؟

هذا الأثر، كما أعتقد، يظهر في عدد المؤلفات، وفي شكل الآثار عند من يبتغي المال، ويتخذ الفن سبيلاً له، ويبدع، إن أبدع للسوقة لا للخواص

لا جرم أن هناك فنانين ذوي اقتصاد أو بخل أو تفتير، وأن هناك آخرين ذوي سرف وترف وتبذير، وأن فيهم جميعاً من يحب المال ويسعى إليه؛ ولكن ذلك كله لا يؤثر في عبقرية الفنان فيشلها أو يعلها. لقد كان من المقترين الموسيقي الإيطالي (باليسترينا وفيكتور هوغو، وميكيل آنج. . . وكان من المبذرين موزار، ولامرتين، ورامبراند. . . ولكن لم نر أن حبهم للمال أو تقتيرهم فيه أو حرصهم عليه، كان سبباً في خصب قرائحهم أو جديها؛ لأن الحقيقة هي أن هؤلاء، ونعني الفنانين الموهوبين، سواء أمبذرين كانوا أم مقترين، يجدون في الفن حاجة لا يتحولون عنها، لأن فيها متعة ولذة. فهم لا يعلمون، كل في فنه، ابتغاء المال، لكن إرضاء لأنفسهم. إذ ليس بهم سبيل إلى الصدوف عن الفن؛ فهم يعملون للفن، كما يعملون، بقدر، للحياة. ينظمون كما يبصرون، ويشعرون كما يأكلون؛ ويصورون كما ينامون. . . فإذا أشبعوا نفوسهم الجياع ورووا أرواحهم الظمآء بإبداع متع الفن الخالدات. . . تطلعوا إلى المال. فحاسة الفن، فما هي غير الرغبة في المال. لأن الرغبة في المال حاسة تساعد الفن، فما هي بالتي تبدع وتخلق، ولكنها تدفع وتهيج

وقد يكون من النزوع عن جدد العقل أن نقدر قيمة مؤلف من التواليف، أو أثر من الآثار، بما يقدم لصاحبه من الأموال. فقد يخرج الفنان آية من آيات الفن تتجلى فيها العبقر والنبوغ والسمو، فلا يقدِّر لها النجاح، ولا يقدِّم لصاحبها إلا فلوس غير كثار؛ وقد يخرج متأدب، من الأدب السوقي، ما يوافق عقل العامي ويطابق هواه. . . فينال النَّفاق والرواج. ولقد ربح كورنيل الكبير من مسرحيته (آتيلا و (تيت وبيرينيس ما لم يربحه من (السيد أو (هوراس فقد نال في كل منهما ما كان يعادل في القرن الخالي سبعة آلاف من الفرنكات. وهذا مبلغ في القرن السابع عشر، عظيم. رغم أن هاتين المسرحيتين لم تبلغا ذروة الفن. ونال (توماس كورنيل) من مسرحيته (تيموقراط ما يفوق هذا المبلغ، من أن توماس كان لا يجاري أخاه كورنيل الكبير في البراعة. وكانت الآثار التي جلبت لرسُّو الأموال، هي آثاره التي نسيها الناس في هذه الأيام. فلقد مهد معجمه السبيل للمال ليصل إلى جيبه. وربح هوغو من البائسين أربعمائة ألف فرنك؛ وما كانت بأروع آثاره. وقد أوتي الروائي الفرنسي (أوجين سو هذا المبلغ من كتابيه (خفايا باريس) و (اليهودي التائه وتخطاه ربح (بونسون داتيراي من كتابه (روكومبول

فمن أراد الفن لا يحفل المال. ويقول الدكتور لالو إذا أردت أن تعيش عيشة طيبة فاكتب وريقات، وميلدرامات وضع للتمثيل الموضوعات. . . أما إذا أردت أن تخدم الفن، وتخرج رائعات فاتنات، فاعزف عن العيش الناعم، والمال الكثير. فإذا كان عيشك الساذج آنئذ مترعاً بالفن والجمال، فإنه لعيش لا يقدر عليه من البشر غير أفراد قِلال.

وقد يخشى أن يسفل الفن إذا سعى وراء المال. ويقول (برودون في كتابه (ليس لدينا في مكان الأدب والفن، غير صناعة مقدّرة لخدمة الترف العامل على الفساد والخراب) ولقد احتج على الملكية الفنية وحقوق الفنانين في القرن الخالي، وقال إنه ليس من يكتب للفن، وليس من يبدع للفن، فهم جميعاً يبتغون التجارة؛ ويساعدون بما يكتبون على فساد البلاغة. . . وخراب الروح. وكان (شارل نوديير الروائي المعروف، يحسب عندما يكتب، أن كل ثماني كلمات تؤلف سطراً، وأن السطر ثمنه فرنك واحد. . . وقد عللوا وفرة حروف الاستفهام والتعجب. عند أبطال (دوماس الكبير) في رواياته كقولهم (أوه!) أو (آه!. . .) أو (آية!) بأن ثمن السطر كان فرنكاً ونصف فرنك؛ وهذه الحروف كانت تحسب في السطر من الكلمات التسع.

وقد لاحظ النقّادة الفرنسي (سانت بوف) هذا فقال: (إذا كنت تجد عند مؤلِّف بارع كهذا (يعني دوماس الأب) جملاً فارغة جوفاً، فذلك لأنه قد اعتاد منذ الصبا، أن يشوه جمله، فيضع أقلَّ ما يكون من الفِكَر في أكثر ما يكون من الكلمات. . .) وما ذلك الإسهاب إلا لإكثار عدد السطور، وإكثار عدد الفرنكات.

فبرودون يغضب ويثور، لأن الفن لا ينبغي أن يصبح سلعة يلتمس من ورائها المال فتبتذل، ولكن يجب أن يبقي متعة يلتمس فيها الجمال والخلود.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد