مجلة الرسالة/العدد 499/مسابقة الأدبي العربي
→ ضحك كالبكي | مجلة الرسالة - العدد 499 مسابقة الأدبي العربي [[مؤلف:|]] |
مطالعاتي حول المدفأة ← |
بتاريخ: 25 - 01 - 1943 |
3 - ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
فن جديد ابتكره حافظ - هجريات حافظ - الشعر السياسي قبل الاستقلال - عبقرية حافظ في مقاومة الاحتلال - الشاعر المظلوم - بقية القول
فن جديد ابتكره حافظ
لم تكن المواسم الدينية ملحوظة في الشعر العربي على نحو ما نرى في هذا العهد؛ فقد كان يتفق أن يهنئ الشعراء ممدوحيهم بقدوم شهر الصيام وحلول العيدين. وتفرد الشيعة بإقامة المآتم يوم عاشوراء بكاء على الحسين
وما أذكر أن الشعراء كانوا يهتمون بالعام الهجري فينظمون القصائد في استقباله، كما كانوا يصنعون في استقبال النيروز، وإنما هي سنة حسنة نشأت في مصر منذ ثلاثين عاماً. سنةٌ دعا إليها فريق من شباب الحزب الوطني وعلى رأسهم (إمام واكد)، وقد استطاع أولئك الشباب أن يحملوا الحكومة على جعل اليوم الأول عطلة رسمية، وهي الفرصة التي أتاحت لحافظ أن يبتكر هذا الفن الجديد
وإنما أعد هذا ابتكاراً من ناحية الالتزام، وأعني أن حافظاً جعل هذا الفن من الفنون الموسمية، فكان يستقبل هلال المحرم بقصيد جديد. ثم عصفت الحوادث فشغلت مصر عن الاحتفال بعيد الهجرة عدداً من السنين، وتناسى حافظ واجبه فلم يقل في عيد الهجرة شيئاً يذكر بالعهد الذي انتفع به في صباه يوم كان قيثارة الحزب الوطني
ثم كان التوجيه الجميل الذي صدر من قلب الملك الشاب فاروق ابن فؤاد، التوجيه الذي يوجب أن تحتفل الحكومة المصرية احتفالاً عاماً تظهر آثاره في جميع البلاد، وتُطلَق فيه المدافع، وترن أصوات الموسيقى في الحدائق والبساتين، وتعد فيه دفاتر التشريف بقصر جلالة الملك، ويتبادل فيه الناس التهاني بأسلوب لم يألفوه قبل هذا العهد
المهم هو النص على هذه الظاهرة الجديدة في الحياة المصرية لنعرف متى ابتدأ الشعراء هذا الفن الجديد، راجين أن تكون لهم تحليقات يفوقون بها مبتكر هذا الفن الج هجريات حافظ
ولكن ما طريقة حافظ في تلك الهجريات؟
لا تظنوها قصائد دينية يبين فيها الحكمة من هجرة الرسول - وإن ألمع إلى شيء من ذلك - وإنما هي قصائد يسجل بها حوادث العام الماضي ويسطر فيها ما يرجو في العام الجديد، ومن أجل هذا يستبيح الهجوم على هلال العام السابق إن أخلف الرجاء، كأن يقول في هلال سنة 1327
هللت حين لمحت نور جبينه ... ورجوت فيه الخير حين تألقنا
وهززته بقصيدة لو أنها ... تُليت على الصخر الأصم لأغدقا
فنأى بجانبه وخص بنحسه ... مصراً وأسرف في النحوس وأغرقا
لو كنت أعلم ما يخبِّئه لنا ... لسألت ربي ضارعاً أن يمُحقا
وبهذا تجرد هلال المحرم عند حافظ من حليته الدينية، واحتفظ بصبغته الزمانية، فهو بدء مرحلة جديدة من مراحل التاريخ يسعد بها قوم ويشقى بها أقوام
وهجريات حافظ تمثل اتجاهات الرأي العام المصري في الوقت التي قيلت فيه، وتدلنا على أن المصريين كانوا يسايرون الحوادث في الأقطار العربية والإسلامية، فهم يعرفون أشياء من أحوال الترك، وأشياء من أحوال الفرس، وأشياء من أحوال الأفغان، وعندهم أخبار عن الجزائر ومراكش وجاوة والهند، ويتأثرون بما يقع في تلك الأقطار من حوادث وخطوب. ومراجعة الرائية والقافية تؤيد ما نقول. ولنقرأ معاً هذه الأبيات في الموازنة بين حال الترك وحال الفرس عام 1908
سلو الترك عما أدركوا فيه من منىً ... وما بدَّلوا في المشرقيْن وغيَّروا
وإن لم يقم إلا نيازي وأنورٌ ... فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور
تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجا ... سيوفاً وجدُّوا جدهم وتدبروا
سلو الفرس عن ماضي أياديه عندهم ... فقد كان فيه الفرس عمياً فأبصروا
جلاَ لهم وجهَ الحياة فشاقهم ... فباتوا على أبوابها وتجمهروا
ينادون أن منِّى علينا بنظرةٍ ... وأحيي قلوباً أوشكت تتفطر
والشاعر يطيل القول في فوز الترك بالدستور، وحرمان الفرس من الدستور. فإذا حال الحول وجاءت تحية العام الجديد كانت الفرس ظفرت بالدستور، وكان على الشاعر أن يقول:
أولَى الأعاجم منَةً مذكورةً ... وأعاد للأتراك ذاك الرونقا
وتغيرتْ فيه الخطوب بفارسٍ ... حتى رأيت الشاه يخشى البيدقا
ثم يلتفت الشاعر فيرى مصر لم تظفر بشيء، لا بالدستور ولا بالاستقلال، وفي ذلك العام نُفِّذ قانون المطبوعات فقَصَّتْ أجنحة الجرائد المصرية، وجاز للشاعر أن يقول:
فتقيدت فيه الصحافة عنوةً ... ومشى الهوى بين الرعية مطلقا
كانت تواسينا على آلامنا ... صُحُفٌ إذا نزل البلاء وأطبقا
كانت لنا يوم الشدائد أسهماً ... نرمي بها سوابقاً يوم اللقا
كانت صِماماً للنفوس إذا غلت ... فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا
كم نفّستْ عن صدر حرٍَّ واجدٍ ... لولا الصمام من الأذى لتمزّقا
مالي أنوح على الصحافة جازعاً ... ماذا ألمّ بها وماذا أحدقا
قصّوا حواشيها وظنوا أنهم ... أمِنوا صواعقها فكانت اصعقا
ثم يتكلم عما وقع في ذلك العام من محاولة تجيد امتياز قناة السويس، وهي محاولة أثارت الجمهور المصري في سنة 1910، ثم يوجه القول إلى الشبان:
لا تيأسوا أن تستردّوا مجدكم ... فلربّ مغلوبٍ هوَى ثم ارتقى
مدْت له الآمال من أفلاكها ... خيط الرجاء إلى العُلا فتسلقا
فتجشَّموا للمجد كل عظيمة ... إني رأيت المجد صعب المرتقَى
من رام وصل الشمس حاك خيوطها ... سبباً إلى آماله وتعلقا
عارٌ على ابن النيل سّباق الورى ... مهما تقلب دهره أن يُسبَقا
أوَ كلما قالوا تجمّع شملهم ... لعب الشقاق بجمعنا فتفرقا
إلى آخر ما قال من هذا النصح الثمين.
الشعر السياسي قبل الاستقلال
سياسيات حافظ وقعت في عهد الاحتلال، السياسيات التي جعلته شاعر النيل، أما سياسياته بعد إعلان الاستقلال فهي مشوبة بالضعف، لأنه كان تعب من النضال، ولأنه كان استراح إلى مطارحة الأحاديث في الأندية والبيوت والقهوات
فما سياسيات حافظ في عهده الأول؟
كان يشارك الجمهور المصري في مقاومة الاحتلال بعبارات هي الغاية في صدق الوطنية، ولكنه كان يقول كلاماً نَعدُّه اليوم من الكفر بالوطنية، فقد كان يطالب المحتلين بإصلاح البلاد، ويدعوهم إلى التحرز في اختيار الوزراء. . . أليس هو الذي يقول في مخاطبة السير جورست:
إذا ما شئت فاستوزر علينا ... فتىً كالفضل أو كابن العميد
ولا تُثْقِل مطاه بمستشارٍ ... يحيد به عن القصد الحميد
ولم يفت حافظاً أن يدعو جورست إلى إنشاء الجامعة المصرية فيقول:
وأسعدْنا بجامعةٍ وشيّدْ ... لنا من مجد دولتك المشيد
وإن أنعمتَ بالإصلاح فابدأ ... بتلك فإنها بيت القصيد
وقد أخطأ شارحو الديوان حين قالوا إن الجامعة المصرية لم تكن أُنشِئت بعدُ، فقصيدة حافظ في استقبال جورست نُشرت في وقت كانت فيه الأمة استعدت بقوتها الذاتية إلى إنشاء الجامعة المصرية، كما يشهد التاريخ الذي سنسطره بعد حين.
عبقرية حافظ في مقاومة الاحتلال
لن نعفر لحافظ أنه استنصر بجورست فقال:
تَداركْ أمةٍ بالشرق أمست ... على الأيام عاثرة الجدودِ
وأيِّدْ مصر والسودان واغنمْ ... ثناَء القوم من بيضٍ وسود
فهذا كلامٌ لا تقوله اليوم، ولن نقوله بعد اليوم، لأنه كلامُ لا يقاوم له ميزان
ولكنّ حافظاً له عبقرية في مقاومة الاحتلال لم نجدها عند غريمه شوقي، فما تلك العبقرية؟
إنها تتمثل في البيت الطريف:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهُذِّبتْ ... حواشيه حتى بات ظُلماً منظّما
وتتمثل في الأبيات التي نص فيها على تدريس العلوم باللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية إضراراً باللغة العربية، وتتمثل في قصائده في وصف مأساة دنشواي، وهي مأساة لم تغب فجائعها عن الإنجليز أنفسهم، فسمعوا صوت الزعيم الوطني (مصطفى كامل)، ونقلوا لورد كرومر إلى حيث لا يريد. وسيقول التاريخ إن صوت قَرَع سمع الاحتلال هو صوت المنوفية روضة البحرَيْن وزينة الوجود.
الشاعر المظلوم
هو حافظ إبراهيم الذي نحاكمه ظالمين، الشاعر الذي صرخَ فقال:
إلى من نشتكي عنَت الليالي ... إلى (العباس) أم (عبد الحميد)
ودون حماها قامت رجالٌ ... تهددنا بأصناف الوعيد
وكان هذا الأتهام ينشر بطريقة علنية في الجرائد المصرية، فكان شاهداً على خمود حاسة العدل هنا وهناك
ومما يُشرِّف الجيل الحديث أن نصرّح بأنه استطاع في عهد الشدة ما لم يستطع أسلافه في عهد الرخاء، فمصر التي كانت تقاوم الاحتلال وهي مؤيدة بالدولة العلية، لم تكن أقوى من مصر التي تقاوم جميع المكاره وهي مؤيدة بقوتها الذاتية
بقية القول
سياسيات حافظ ليس فيها كذبٌ ولا رياء، فقد عرفتُ من مسالك حافظ أنه لم يكن ينشر قصيداً إلا بعد أن يعرضه على جميع من يصادف من رجال السياسة والبيان، فشعره صورة صحيحة لزمانه، وهو زمان جمع بين الغرائب في الإفهام والأذواق، وكذلك تكون الأزمان التي تُعدُّ الأمم للنهوض والتحليق
مداراة حافظ للاحتلال لون من السياسية الوقتية، أما ضمير حافظ فهو ضمير الوطني الصادق، ضمير الشاعر الذي يدرك في سريره وطنه ما يدرك سائر الناس. أليس هو الذي أنبأنا أن مصر قالت:
وقف الخلقُ ينظرون جميعاً ... كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الده ... ر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشر ... ق ودرَّاته فرائد عقدي
أي شيء في الغرب قد بَهَر النا ... س جمالاً ولم يكنْ من عندي
فترابي تبرٌ، ونهري فراتٌ ... وسمائي مصقولة كالفِرِند أينما سرت جدول عند كرم، ... عند زهر مدنَّرٍ، عند رند
ورجالي لو أنصفوهم لسادوا ... عن كهول ملء العيون ومُرْد
لو أصابوا لهم مجالاً لأبدوا ... معجزات الذكاء في كل قصد
إنهم كالظُّبا ألحّ عليها ... صدأ الدهر من ثواء وغمد
فإذا صَيْقل القضاء جلاها ... كن كالموت ما له من مردّ
أنا إن قدر الإله مماتي ... لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
ما رماني رامٍ سليماً ... من قديمٍ عناية الله جُندي
كم بغَت دولةٌ عليّ وجارت ... ثم زالت وتلك عٌقبَي التعدي
وتلك قصيدة نفيسة أحب أن يلتفت إليها من يستعدون لمسابقة الأدب العربي، فقد يسألون عنها يوم الامتحان
في تلك القصيدة قال حافظ أبياتاً في تصوير الأخلاق التي ترفع الشعوب، وفيها أبياتٌ صوّر بها حافظ ما بيننا وبين الغرب من صلات، فقد أنبأنا أن مصر أوصت أبناءها فقالت:
إن في الغرب أعيناً راصداتٍ ... كحلتها الأطماع فيكم بسهد
فوقها مِجْهرٌ يريها خفايا ... كمْ ويطوى شعاعه كل بُعد
فاتقوها بجُنةٍ من وئامٍ ... غير رثّ العرا وسعيٍ وكدَ
وهذا القصيد موصول المعاني بالقصيدة الذي قال فيه:
- أبناؤنا وهمُ أحاديث الندى - ... ليسوا على أوطانهم بِشِحاح
صبروا على مُرّ الخطوب فأدركوا ... حُلو المُنَى معسولة الأقداح
شاكي سلاح الصبر ليس بأعزل ... يغزوه ربُّ عواملٍ وصِفاح
الصبر إن فكرت أعظم عُدةٍ ... والحق لو يدرون خير سلاح
وفي القصيدة السالف حدثنا حافظ أن الصبر هو عُدَّة من نطالبهم بالجلاء.
خُلُق الصبر وحده نصرَ القو ... مَ وأغنَى عن اختراع وعَدّ
شهدوا حومة الوغى بنفوسٍ ... صابراتٍ وأوجهٍ غير ربُد
فحما الصبرُ آيةَ العلم في الحر ... ب وأنحى على القويِّ الأشد وهذا أعظم ما قيل في الإنجليز، فما كانوا أذكي من الفرنسيس ولا أعلم من الألمان، وإنما اعتصموا بالصبر الجميل فظفروا بما ظفر به العرب القدماء
ثم ماذا؟ ثم بقي القول عما نظم حافظ في المراثي وفي شكوى الزمان، وأهمية هذين البابين أهمية ثانوية بالقياس إلى باب السياسيات.
ادرسوا سياسيات حافظ بعناية لتفوزوا، جعلكم الله جميعاً فائزين.
زكي مبارك