مجلة الرسالة/العدد 498/الحضارات القديمة
→ إلى الأستاذ البشبيشي | مجلة الرسالة - العدد 498 الحضارات القديمة [[مؤلف:|]] |
عندما فاض النيل. . . ← |
بتاريخ: 18 - 01 - 1943 |
في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
ظهر الإسلام بين أمة وصلت في البداوة إلى أبعد حدودها، وكانت طبيعة بلادها تجعلها بداوة قاسية، يشتد فيها النزاع والخصام بين الأفراد والقبائل، ويكون السلب والنهب أظهر عمل فيها لكسب العيش، وفي هذا تنتصر القوة الغاشمة، ويظفر الباطل بالحق
وكان يحيط بهذه البداوة الغاشمة حضارتان مختلتان، حضارة الفرس بالمشرق، وحضارة الروم بالمغرب، قد سرى الفساد فيهما حتى أنهكهما، فلم يكونا أقل ضلالاً من تلك البداوة، ولم يكن أهلهما أقل شقاء من أهل تلك الصحراء
فكان من أهم أغراض الإسلام القضاء على تلك البداوة وآثارها في بلاد العرب، وإنشاء حضارة جديدة صالحة للبشر عامة، يرتفع فيها لواء العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنتشر المساواة بين الشعوب والأفراد، فلا يظلم قوي ضعيفاً، ولا يأكل غني فقيراً، وبذلك يسود السلام بين الشعوب بالمساواة بينهم، ويجعلهم جميعاً عناصر لأمة واحدة لا يمتاز فيها على شعب، ولا تفرق بينهم الفوارق أيا كان أمرها
ولا غرو في أن يكون مثل هذا من أغرض الإسلام، بل لا غرو في أن يكون هذا من أهم أغراضه، لأن الإسلام يمتاز على غيره من الأديان بأنه لم يشرع للآخرة وحدها، ولم يعمل لسعادة البشر فيها فقط، بل شرع لسعادة الدنيا والآخرة، وعمل على أن يكون البشر سعداء في دنياهم، قبل أن يكونوا سعداء في أخراهم
وقد صرح القرآن الكريم بذلك الغرض العظيم في بعض آياته، فقال تعالى في الآية (55) من سورة النور (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) وقد بين في آية أخرى أهم شيء تمتاز به هذه الأمة في حضارتها الجديدة، فقال في الآية (110) من سو آل عمران: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باله؛ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)
ومما يتفق مع هذا كل الاتفاق ما جاء في القرآن الكريم عن البداوة العربية وأهلها، وما جاء فيه عن الحضارات القديمة وآثارها، فهو إذا ذكر الأعراب - وهم سكان البادية - يكون شديداً عليهم، ويجعل بداوتهم هي السبب في جهلهم وانحرافهم. وقد وصفهم الله بقلة الإيمان في الآية 14 من سورة الحجرات: قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم). وإنما سميت هذه السورة بذلك الاسم لأنها نزلت في نفر من الأعراب أتوا النبي ﷺ وهو قائل في أهله، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد أخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه، فأنزل الله فيهم من هذه السورة: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم) وقد قيل إن هؤلاء الأعراب كانوا من بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعُيَيْنة بن حصن، والزبرقان بن بدر، فنادوا على باب الحجرات قالوا: يا محمد، اخرج إلينا، فإن مدحنا زين، وذمنا شين. فخرج رسول الله صلى الله عليه وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين. فقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا، جئنا نشاعرك ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه، فقال النبي ﷺ لثابت بن قيس، وكان خطيب رسول الله ﷺ، قم فأجبه. فقام فأجابه.
ثم قام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البِيِع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتََّبع
ونحن نطعم عند القحطُ مطعمنا ... من الشواءِ إذا لم يؤنس القزَع
فننحر الكوم عبطاً في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أُنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حيٍّ نفاخرهم ... إلا استقادوا فكانوا الرأس يٌقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تُستمع إنا أبينا ولا يأبَى أحدٌ ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال النبي الله ﷺ لحسان بن ثابت: قم فأجبه. فقام فقال:
إن الذوائب منِ فِهرو اخوتهم ... قد بينوا سُنة للناس تُتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يُصطنع
قوم إذا حاربوا ضَرُّوا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدَّثةٍ ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
أعِفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يَطبعون ولا يرديهم طمعُ
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مَطمع طَبَعُ
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلعُ
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع
وقد جاء ذكر أهل البادية أيضاً في سورة التوبة، فوصموا فيها هذه الوصمة التي جاءت في قوله تعالى (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم)
ولكن الله تعالى بعد أن أطلقها كلمة فيهم، لأن ذلك شأنهم وديدنهم، وهو الطبع الغالب، والحال الظاهر، عاد فذكر أن قليلاً منهم يخالفهم في هذه الطباع؛ فقال: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول إلا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم)
فهذا اجاء في القرآن الكريم عن البادية وأهلها، وهو حرب ظاهر عليها، وقد جاهد الإسلام حتى قضي على آثارها بين العرب، وجعل منهم أمة عالمة متحضرة متآلفة متحابة، وموعدنا بما جاء في القرآن الكريم عن الحضارات القديمة الأعداد الآتية.
عبد المتعال الصعيدي