الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 494/من القصص الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 494/من القصص الإسلامي

بتاريخ: 21 - 12 - 1942


جارية البصرة

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كانت الجمال تميس ميساناً هادئاً، تحمل الخليفة الرشيد إلى الحج. وكان لابد لها، وقد بلغت البصرة، من الوقوف بها ليتمتع الركب بما فيها من جمال وجلال؛ فقد كانت هادئة انيقة، تستفيق على همس النخيل كأنه وسوسة القبل، وتنام على دغدغات دجلة كأنها مناغاة ألام، وزغردة الوليد. وكان أهلها، إلى ذلك، من أكثر الناس اقتناء للعاج والديباج، وكان نساؤها مشهورات بالدلال، وبيوتها ضاحكات بالفضة باسمات بالذهب. . . ونهرها يفيض متدفقاً صخوباً يتساقط في أوله الرطب، ويتمايل على حفافيه النخيل والقصب.

ونزل الخليفة، ومعه جعفر بن يحيى، ووراءهما حاشية عريضة من الملهين والمغنين والزهاد.

ولم ير الرشيد أن يتحول عن هذه المدينة قبل أن يعلم أحوال الناس فيها؛ فدفع جعفراً إلى الطواف بها، ليتحسس اخبارها ثم يعود فيخبره بما سمع وبما رأى.

فلما عاد عشية ذلك اليوم قال له الرشيد: (إيه يا جعفر! حدثني بعجيب ما رأيت. . .)

قال جعفر: (لقد طوفت في المدينة يا أمير المؤمنين، فسمعت من ناسها ما يشكون وما يرغبون. وكنت اعلم كل شيء من غير عناء لتنكري. فلما كنت في إحدى الأسواق، اقبل علي نخاس يبيع الجواري والقيان، وهمس في أذني أن لديه جارية مغنية تباع، وأن مولاها ممتنع من عرضها إلا في داره؛ فتطلعت نفسي إلى معرفة أمرها، وتاقت لرؤيتها، فمضيت معه. . . حتى وقف عند باب شاهق يدل على نعمة وثراء، فطرقه؛ وإذا شاب حسن الوجه، دقيق العود، عليه قميص ممزق، يفتح لنا. فدخلنا إلى دهليز طويل مظلم. . . وانتهينا إلى دار واسعة خراب. فاخرج لنا الفتى من غرفة قطعة متآكلة من حصير، ففرشها لنا، وجلسنا عليها، ثم مضى ليحضر المغنية، فأخذت أفكر في أمر هذه الجارية، وتساءلت لم تعيش في هذه الخرائب؟ ومن تكون. . .؟ وما شأن هذا الفتى معها؟. . . وإذا بها تخرج علينا، زهراء غيداء، وعليها القميص الممزق الذي كان يلبسه الفتى منذ لحظات. فرايتها صبيحة الوجه، مياسة القد، حلوة العينين، ناهدة الثديين، وأدهشتني ببراعة جمالها ونضارة جسمها؛ فأمرتها بالجلوس وتقدمت إليها بالغناء. فضربت على عود ضرباً ما سمعت ارق ولا أحلى حلاوة منه، واندفعت تغني:

نمّتْ علينا زفرةٌ صاعدهْ ... وملّني العائدُ والعائدْ

فلم اسمع يا أمير المؤمنين أشجى ولا افجع ولا اطرب من غنائها. ثم أخذت تبكي، وذرفت دمعاً هاج حزني ولكم قلبي، وأرسلت آهات ناعمات من صدر ملوع وقلب مفجع. ثم سمعنا فجأة بكاء الفتى من الغرفة المجاورة. فقامت الجارية إليه. وطرق آذاننا صوت بكاء محزن، وشهيق اليم؛ ثم سكنت الأصوات حتى حسبنا انهما ماتاً. فعجبنا من أمرهما، وقلت للنخاس: (ويحك! قم فانظر ماذا أصابهما. . .) وإذا بالفتى يخرج قائلاً: (عفواً يا سادتي. . .!) ثم غلبه البكاء فلم يستطع الكلام. فأشفقت عليه وقلت: (ما حالك يا فتى؟) فبكى. فأعدت عليه السؤال وألححت في الطلب، فتحرك وقال:

(نشأت نشأة فريدة مغمورة بالعطف والدلال. وكان أبي موسراً، أزهرت النعمة في دياره وتدفقت الدنانير عليه. وكنت ألهو في بستان يحيط بالقصر مع هذه الجارية التي ربتها أمي. فكنا نرتع فوق العشب، ونغوص في الماء، ونتسلق النخيل، ونطلق أنفسنا في لهو الطفولة الحلو. على أني كنت أحس بانقباض في صدري إذا ابتعدت مني؛ واشعر بالوحشة تغمرني كلما غابت عني، فلما بلغت السابعة وبلغتها، جيء لي بمؤدب يؤدبني، واتى لها بمغنية تتخرج عليها. أما أنا فتوفرت على الأدب التقط النوادر، واحفظ الفرائد، واروي الأشعار والأحاديث. وأما هي فقد انقطعت إلى الغناء لتمهر في طرائقه وتبرع في أصواته. فلما أورق غصني ورف صباي، ازداد حبها في قلبي؛ وخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهم، وذاع صيتي في البيوتات، وأصبحت أمنية العذارى والفتيات، ورغبن فيّ لفصاحتي وأدبي ووفرة مالي. فأعرضت عنهن جميعاً وصبوت إلى هذه الجارية التي كان الجمال يرتع في جسمها، والفتنة تسجو في عينيها، فيتحرق قلبي ويتألم، ويضؤل جسمي ويرق

لقد كان صوتها، يا مولاي، مسكراً ناعماً حلواً. كنت انتشى فاغمر فمها الحلو الصغير بقبلي. . . أو اجثوا أمام قدميها فيزداد طربي. . . لقد كان في صوتها شيء يداعب الروح لا أدري كنه؛ شيء فيه نعومة وشهوة وحنين. فكانت إذا فرغت من الغناء جلست أمامي لأطربها بالأشعار، وأضحكها بالنوادر، وأطرفها بالأحاديث فلم بلغ بها الغناء مبلغاً بعيداً، عزمت أمي على بيعها، وهي لا تدري ما في نفسي من وجد وشوق. فغامت الدنيا في عيني، ولجت نفسي في ألوان من الأفعال اقلها الانتحار. ثم قررت أن اصدق أمي خبري فأخبرتها. فأشفقت علي ووهبتها لي، وجهزها أبي كما يجهز أهل البيوتات بناتهن وجواريهن

ونعمت معها دهراً لهوت بها عن الدنيا وما فيها. وكنت احب سماع صوتها في ألاماسي والأصابيح تحت ظلال النخيل، وبين القصب؛ فكانت تغنيني فأتيه وأغيب. ولكني وا أسفاه! لم اصح من هدهدات الغناء إلا على نوح النائحات وبكاء الباكيات؛ فقد مات أبي، وأنا ما أزال في ريعان الصبا

وانتقل إليّ بوفاته ما لا أحصيه من الأموال. على أني لم أكد أسلو لوعة الفقد الأولى. حتى عاجل الموت أمي. فبكيت وحزنت، ثم أغواني الشيطان وقال: مالك وللحزن! إن شبابك يفنى وعمرك ينقضي، فانعم ولذ بجاريتك. فأسأت تدبير الأموال، وعكفت على اللهو والقيان، فتلفت نعمتي، وابتزت الحسان مالي، فعشت في هذه الخرائب كما ترى؛ بكاء على الماضي وحنين لأيام الهناءة والنعيم

وذرف دمعة، يا أمير المؤمنين، وصمت. فقلت له: ثم ماذا؟ أتمم. . . أتمم. . .! قال: (وبقيت على ذلك سنتين، لا نذوق طعم اللحم إلا لماماً. وكانت يا مولاي وفية، لا تستطيع مفارقتي رغم ما تلاقيه من ضنك العيش ومرارة الإقلال. وكانت تحبني حباً عنيفاً، فادركتني الشفقة عليها، وقلت لها: استمعي يا أختاه! لقد عبست لنا الأيام، فأصبحنا كما ترين، وأنت ما تزالين غضة الصبا، ريانة الشباب، وأنا آلم لما تكابدينه من البؤس والفقر، واعلم أني تالف متى فارقتك، ولكني أوثر أن أراك منعمة هانئة، فدعيني أعرضك على أصحاب الخليفة، فلعل واحداً يشتريك فتنعمي معه برغد العيش!

فبكت بكاء كله وله وحنين وقالت: (مالي وللطعام، مالي وللثياب، وأنت إلى جانبي. أنا أريدك أنت، أنت وحدك، لا أريد مالاً ولا ثياباً. . .!) فحزنت وقلقت، ولكني خرجت سراً إلى هذا النخاس فأطلعته طلع أمري، وأعلمته أني لا اعرضها إلا في داري لئلا تمتهن بالأسواق ويراها السوقة والعوام.

فلما جئتنا الساعة، بقيت في الغرفة، وألبستها ثوبي الممزق فما عندي ولا عندها غيره.

وجلست ابكي. ولما دخلت عليّ بعد غنائها قالت لي: (الست مللتني، وآثرت فراقي؟ فلم تبكي؟ بعد هذا علي!) فقلت لها: (إن فراق نفسي اسهل علي من فراقك، وإنما أردت أن أخلصك من هذا الشقاء!) قالت: (الست أنا راضية بهذا الشقاء؟) فاضطربت، وخرجت إليك يا مولاي لأخبرك أني عدلت عن البيع!)

واهتز الرشيد لطرافة الأحدوثة وحلاوة الكلام وقال: (إلا فليكن هكذا المتحابون. . .! فماذا حدث بعد ذلك يا جعفر؟)

قال: (تركتهما يبكيان، وأرسلت صاحب الشرطة ليبتاعها لي غصباً!) قال الرشيد: (ويحك! أهكذا تكون المروءة؟ كيف تفرق بينهما وتشتت شملهما؟ تعال يا غلام، قم يا حماد ثم يا جعفر، ردوا هذين المحبين إلى رغادة عيشهما وهناءة حبهما. اجمعوهما بالوئام، وأفرحوهما باللقاء والسلام، وانثروا هذه الآلاف الثلاثة من الدنانير أمامهما؛ فليس أثوب من جمع المتحابين! وإن شاءا فاحملوهما إلينا واخلطوهما بحاشيتنا، فانهما يستحقان معاشرة الملوك

(دمشق)

صلاح الدين المنجد