مجلة الرسالة/العدد 493/ليالي القاهرة
→ خزانة الرؤوس | مجلة الرسالة - العدد 493 ليالي القاهرة [[مؤلف:|]] |
من أغاني الجسد ← |
بتاريخ: 14 - 12 - 1942 |
للدكتور إبراهيم ناجي
أليلايَ ما أبقى الهوى بيَ من رُشْد ... فرُدِّي على المشتاق مهجته ردِّي
أينسى تلاقينا وأنتِ حزينة ... ورأسك كابٍ من عَياء ومن سهد
أقول وقد وسدتُه راحتي كما ... توسد طفلٌ مُتْعَبٌ راحة المهد
تعالي إِلى صدر رحيب وساعد ... حبيب وركن في الهوى غير منهد
بنفسي هذا الشَّعر والْخُصَل التي ... تهاوتْ على نحر من العاج منقدِّ
ترامتْ كما شاءتْ وشاَء لها الهوى ... تميلُ على خدٍ وتصدفُ عن خَدِّ
وهذي الكرومُ الدانياتُ لقاطف ... بياضَ الأماني من عناقيدها الرُّبدِ
فيالكَ عندي من ظلامٍ مُحَبَّبٍ ... تَأَلَّقَ فيه الفرقُ كالزمن الرغد
ألا كلُّ حسنٍ في البرَّية خادمٌ ... لسلطانة العينين والْجِيد والقدِّ
وكل جمال في الوجود حياله ... به ذلة الشاكي ومرحمةُ العبدِ
وما راع قلبي منكِ إِلا فراشةٌ ... من الدمع حامتْ فوق عرشٍ من الوَجد
مجنحةٌ صيغتْ من النور والندى ... ترف على روض وتهفو إِلى وِرْد
بها مثلُ ما بي يا حبيبي وسيدي ... من الشجن القتَّال والظمأ المردى
لقد أقفرَ المحرابٌ من صلواته ... فليس به من عابد ساهر بعدي!
وقفنا وقد حان النوىَ أي موقف ... نحاول فيه الصبر والصبر لا يجدي
كأن طيوف الرعب والبيْن موشكٌ ... ومزدحِم الآلام والدمع في حشْدي
ومضطرب الأنفاس والضيقُ جاثمٌ ... ومشتبكُ النجوى ومعتنق الأيدي
مَواكبُ خرسٌ في جحيم مؤبَّد ... بغير رجاء في سلام ولا برْد!!
فيا أيكةً مَدَّ الهوىَ من ظلالها ... ربيعاً على قلبي، وفيْئاً من السَّعد
تقلَّصتِ إِلا طيفَ حب محيَّر ... على درَجٍ خابي الجوانب مسودِّ
تردَّد واسْتأْنَى لوعد ومَوْثق ... وأدبرَ مخنوقاً وقد غصَّ بالوعد
وأسلمني لليل والقبر باردا ... يَهُبُّ على وجهي به نفَس اللَّحد
وأسلمني لليل والوحش راقدا ... تمزقني أنيابه في الدجَى وحد كأن على مصر ظلامين: أعكرٌ، ... وآخرُ من خافي المقادير مُرْبد
رُكودٌ، وَإبهْاَمٌ، وَصَمْتٌ، وَوَحْشَةٌ ... وَقَدْ ضَمَّهَا الْغَيْبُ الْمُحَجَّبُ في بُرْدَ
كأن سماء النيل لم تلقَ حادثا ... ولا قصفتْ فيها القواصفُ بالرعدَ
أحقا تولَّى ذلك الهولُ، وأمَّحتْ ... خواطرُ ذاك الويلِ والرعب والحقد
فيا لَلْقُلوُبِ الصابرات وقد غفتْ ... على نعمةِ الإيمانِ والشكرِ والحمدِّ
ويا للقلوب المؤمنات وأمنها ... وضجعتها في رحمة الصمد الفرد
أهذا الربيعُ الفخم والروضةُ التي ... تَزُفُّ إِلى المستاف رائحةَ الخلد
تصير إذا رانَ الظلامُ ولفها ... بجنحٍ من الأحلام والصمت ممتدِّ
مباءةَ خمار وحانوتَ بائع ... شقي الأماني يشتري الرزق بالسهد
وقد وقفَ المصباحُ وقفةَ حارسٍ ... رقيبٍ على الأسرار داعٍ إلى الجد
كأن تقيّاً غارقاً في عبادة ... يقوم الدجى أو يقطع الليل بالزهد
فيا عالَمِ الأسرار، في الحي نائم ... قضى يومَه في حومة البؤس يستجدي
وسادتُه الأحجارُ والمضجعُ الثرى ... ويفترشُ الإفريز في الحر والبرد
وسيارة تجري لأمر مغيَّب ... محجبةَ الأسرار خافَيةَ القصد
إلى الهدف المستور تنتهب الثرى ... وتلمعُ لمعَ البرق يومضُ عن بعُد
متى ينجلي هذا الدجى عن مسالك ... مرنَّقة بالجوع والصبر والكد
ينقِّبُ كلبٌ في الحطام، وربما ... رعى الليلِ هَرٌّ ساهر وغفا الْجُندي
أيا مصر ما فيك العشية سامرٌ ... ولا فيك من مُصْغٍ لشاعرك الفَرد
أهاجرتي طال النوى فارحمي الذي ... تركتِ بديدَ الشملِ منتثر العقدِ
فقدتُكِ فقدان الربيع وطيبه ... وعدتُ إلى الإعياء والسقم والسهد
وليس الذي ضَّيعتُ فيك بهيِّنٍ ... ولا أنتِ في الغُيَّابِ هينة الفقد
أتيتُك أستسقي فكيف تركتِني ... لهذي الفيافي الصُّمِّ والكثُب الْجُرد
أتيتك أستعدي فكيف تركتِني ... إلى هذه الدنيا وأحداثها اللدِّ
أتيتك أستهدي فكيف تركتِني ... لهذا الظلام المطبق الجَهم أستهدي
أتيتُكِ أستشفي فكيف تركتِني ... ولم يبق غير العظم والروح والجِلْد وهذي المنايا الحمر ترقصُ في دمي ... وهذي المنايا البيضُ تختالُ في فودي
وكنتُ إذا شاكيتُ خففتِ محمل ... فهان الذي ألقاه في العيش من جَهد
وكنتُ إذا انهار البناءُ رفعتهِ ... فلم تكنِ الأيامُ تقوىَ على هَدِّي
وكنتُ إذا ناديتُ لبَّيْتِ صرختي ... فوا حَربَا كم بيننا اليوم من سدِّ!
وقد كان لي العطف والحب مسلك ... فأغلقتِه دوني فبتُّ بلا رَدِّ!!
سلام على عينيك ماذا أجنتا ... من العطف والتحنان والحب والود
إذا كان في لحظيك سيف ومصرع ... فمنك الذي يحي ومنك الذي يردي
إذا جُرِّدا لم يفتكا عن تعمد ... وإن اغمدا فالفتك أروع في الغمد
هنيئاً لقلبي ما صنعتِ ومرحباً ... وأهلاً به لو كان فتكك عن عمد
فإنيِ إذا جن الظلام وعادني ... هواك فأبديتُ الذي لم اكن ابدي
وملتُ برأسي كابياً أو مواسيا ... وعندي من الأشجان والحب ما عندي
أقبِّلُ في قلبي مكاناًُ حَلّلْتهِ ... وجرحاً أناجيه على القرب والبعد
ويا دارَ من أهوى، عليك تحية ... على اكرم الذكرى، على اشرف العهد
على الأمسيات الساحرات ومجلس ... كريم الهوى عَف المآرب والقصد
تنادِمنا فيه تباريحُ شاعر ... على الدم والأشواك يمشي إلى الخلد
(فبودلير) محزونٌ و (فرلين) بائسٌ ... (وميسيه) مجروح الهوى عاثر الجد
(وللمتنبي) غضبة مضرية ... وثورةُ مظلومٍ وصيحة مستعدي
دموعٌ يذوب الصخر منها فإن مضوا ... فقد نقشوا الأسماء في الحجر الصلد
وماذا عليهم أن بكوا وتعذبوا ... فإن دموع البؤس من ثمن المجد
ناجي