مجلة الرسالة/العدد 487/يوم من أيام دمشق الخالدة
→ الأزهر والإمام محمد عبده | مجلة الرسالة - العدد 487 يوم من أيام دمشق الخالدة [[مؤلف:|]] |
ذكرى أم كلثوم ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1942 |
وفاة الإمام ابن تيميه
في 20 ذي القعدة سنة 728هـ
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
- 3 -
لم يكن ثبات القلعة بدمشق وعودة الجند ليزيلا القلق من النفوس، فقد أقسم عاهل التتار هذه المرة أن يملك الشام ويفتح مصر عنوة، وملأ الدنيا بإشاعته والناس أشد ما يكونون ذعراً؛ كل هذا وابن تيميه لا يبالي، يقعد بمجلسه كالعادة في الجامع يحرض الناس كل يوم على القتال، ويسوق الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى، ويحرم الفرار ويرغب الناس في إنفاق الأموال، وأن ما ينفق في الهجرة إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً
اضطرت السلطات إزاء هذه الهجرة نحو مصر والكرك والشوبك أن تمنع الخروج بغير ترخيص خاص، وكانت الأنباء قد وصلت بوصول التتار إلى الشمال مرة أخرى، وتراجع جند الممالك الحلبية، ثم الأمطار فأعاقت السير إلى الجنوب وإلى الشمال
- 4 -
كان موقفاً رائعا فذاً في التاريخ أقرأه ونفسي تضطرب حينما خرج الشيخ في صباح السبت من مستهل جمادى الأولى سنة 700 هجرية وقابل نائب الشام بالمرج فواجه الجنود وثبتهم وقوّى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم بالنصر والظفر على الأعداء وتلا قوله تعالى: (ومن عاقب بمثل ما عوقب به، ثم بُغى عليه، لينصرنه الله إن الله غفور رحيم)
وبات ليلته وسط العسكر وهم يحيون هذه الروح التي وضعوا آمالهم فيها
أتدري ماذا يطلب منه أمير الشام ونائب السلطنة فيها؟
يطلب إليه أن يركب على البريد إلى مصر ليستحث السلطان على المجيء إليهم. ويس الشيخ على خيل البريد إلى القاهرة، وهو أينما يحل يستحث الناس إلى المبادرة
أقام الشيخ في قلعة مصر ثمانية أيام، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروج، وكان فيما قاله لهم: (إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه - لو أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم نصره - فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وأنتم مسئولون عنه؟)
ثم عاد كما أتى على البريد من مصر، وقد أدى أمانته ونفخ في النفوس روحاً للكفاح جديدة
- 5 -
استمر المد والجزر بين الفرقين والرسل تتوالى إلى أن دخلت سنة 702 هجرية؛ وقد قدم جيش مصر وعلى رأسه الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وزحف التتار من جهتين من الشمال فوصلوا إلى البقاع واحتلوا بعلبك، ومن الشرق وصلت طلائعهم القريتين. كل هذا والتتار لا يعلمون بقدوم السلطان من مصر.
ولما وصل دمشق قرر أن يكون المصاف في جنوب دمشق بقرية شقحب، وأتم التعبئة والحشود ومشى السلطان والخليفة بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن، ويحثون على الجهاد، ويشقون إلى الجنة.
في هذا الموقف العصيب يقوم الطابور الخامس بدعايته فيقول: كيف تحاربون قوماً أسلموا وهم إخوان لكم؟ وهنا برز الشيخ بقوته ومضاء فكره فألهمه المولى هذه العبارة:
(هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي وعلى معاوية ورأوا أنهم أحقبالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ويعيبون على الناس ما هم فيه من المعاصي والظلم، ولكنهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، والله لو رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني) فقويت النفوس وانقطعت دعاية الضلال.
فلما تم الترتيب أخذت كراديس التتار تزحف كقطع الليل والتحم القتال على طول الجبهة قتالاً هائلاً رائعاً بيعت فيه النفوس بغير حساب. كل هذا والجاشنكير يسيطر على المعركة بجند مصر والشام. وهنا مال قطلوشاه القائد التتري إلى جبل قريب ونظر إلى السهل والجبال المحيطة فإذا المسيرة السلطانية ثابتة لا تتزعزع، والأعلام خافقة. وجئ إليه الأسرى فسأله من أنت؟ فقال من أمراء مصر. فعلم بأنه قد خسر المعركة.
معركة فاصلة دامت أربعة أيام أظهرت فن القيادة والتعبئة لدى القواد المصريين والشوام، واختتمت بالنصر الباهر الذي نفخ فيه ابن تيميه من روحه.
وقبل اختتامها حاول قطلوشاه للمرة الأخيرة أن يجازف فقذف بما بقي لديه من جنده فرساناً ومشاة. وقد ترجل الخيالة فلقيتهم المماليك السلطانية من البرجية بسور من الفولاذ مزقهم شر ممزق وحلت بهم الهزيمة فانتشروا منهزمين إلى القريتين وقد تتبعهم العامة
وتقهقر قائدهم عائداً إلى بلاده فلم يعبر الفرات إلا في شرذمة قليلة من هذا الجيش اللجب الذي عبأ لفتح مصر والشام.
وبات السلطان بالكسوة ثم دخل دمشق وقد فتحت قلبها وتلقته لقاء الأبطال بعد أن أزال الهم والغمة عنها.
وفي مكان المعركة وبغير غسل ولا كفن جمع من استشهد من أبطالها فدفنوا في موضع واحد وبنيت عليهم قبة أرجوان تكون باقية إلى اليوم.
وكان الشيخ أول من فرح قلبه لهذا النصر المبين.
- 6 -
مرت ابتداء من سنة 705 سنوات كفاح للشيخ من أجل المبدأ يقارع الأيام وتقارعه، وتغمره موجة من الدسائس فيخرج منها سالماً، وتعقد المجالس لامتحان عقيدته فيخرج من هذه المغامرات أحياناً إلى الحرية وحيناً إلى السجن. وطلب إلى مصر، فلما أزمع السفر ازدحم الناس لوداعه. وفي إبان سفره لم يترك فرصة تمر دون أن يقف واعظاً للناس. ولما وصل القاهرة واجتمع له العلماء واختلف معهم أدخل في أحد أبراج القلعة وبقي بها محبوساً. وكلما نجحت محاولة لإخراجه أبي إلا أن يبقى، والناس تقصده وترسل أليه المشكل من الأمور لاستفتائه فيه
- 7 -
انتقل ابن تيميه إلى الثغر الإسكندري في صفر سنة 809 بصحبة أمير من الأمراء فأدخل في دار السلطان وأنزل في برج فسيح منها. ووصلت أخباره إلى دمشق بعد عشرة أيام من سفره من القاهرة، فقلقت الخواطر عليه وتألم أنصاره وخلفوا سطوة أعدائه الذين عقدوا النية على النيل منه. وكان الشيخ يحضر الجماعات ويقيم الوعظ فيأتي إليه الناس من أهل الإسكندرية أفواجاً ينصتون إليه ويقرءون العلم عليه، وقد ازدادوا تعلقاً به ومحبة له وتقرباً منه
ووصل إلى دمشق كتاب من أخيه يقول: (. . . إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط فإن أعداء الله قصدوا بذلك أموراً يكيدونه بها. . . وقد انقلب أهل الثغر أجمعون إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له في وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقربه أعين المؤمنين، ولقد استتاب جماعة منهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه)
ويقول ابن كثير - وهو من المراجع التي اعتمدنا عليها مع غيره -: (إن الشيخ أقام بالإسكندرية ثمانية أشهر، وكان سكنه في برج متسع مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر والآخر إلى جهة المدينة، وكان ينزل عنده من شاء ويتردد عليه الأكابر والأعيان والفقهاء يقرءون عليه ويستفيدون منه وهو في أطيب عيش وأشرح صدر)
- 8 -
دارت الأيام دورتها وعاد الملك الناصر إلى عاصمة ملكه بعد زوال حكم أعدائه، وكان ذلك في عيد الفطر المبارك من سنة 709 وقد استقبلته في القاهرة، وقبل ذلك بدمشق، دنيا من الأفراح إذ استبشرت العاصمتان بعودة ابن قلاوون إلى ملكه وحيته الجماهير وهتف له ذلك الهتاف المحبوب: (يا ناصر يا منصور).
ولم ينس المليك الشاب في أفراحه الشيخ المجاهد ابن تيميه فأرسل أليه وحضر إلى القلعة معززاً مكرماً مبجلاً. وكان قدومه في 18 شوال، وقد خرج مع الشيخ خلق عظيم من الثغر الإسكندري يودعونه بالبكاء لتركه مدينتهم. ولما دخل على الناصر تلقاه ومشى إليه وأنس به في محفل كبير جمع قضاة مصر والشام فأصلح السلطان بينه وبينهم. ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من المشهد الحسيني والناس يترددون عليه من الأمراء والجند وهو يقول لكل من يعتذر أليه: (أنا حللت كل من آذاني)؛ وجدد الشيخ سابق عهده بدمشق ولكن بمدينة القاهرة المعزية - قلب العروبة - فأخذ يقيم حلقات الدروس وبدأ حياة كفاح وجهاد في سبيل العلم
هذا هو الشيخ الذي يضم عظامه قبر بسيط بفناء الجامعة السورية، والذي كان يمثل دنيا وحده وكانت شخصيته فذة جديرة بالبحث والدرس
إننا في حاجة إلى أن نستلهم الماضي ونستوحي صفحاته؛ وابن تيميه رجل من رجال الماضي وشخصيته تطل علينا من وراء القرون
كان ابن تيميه دمشقياً مائة في المائة، وكان مصرياً مائة في المائة؛ فهو حلقة الوصل بين البلدين في عصر مضى. وأنني كلما دققت النظر في تاريخه وعمقت التأمل في أقواله أجد نفسي إزاء رجل أقف أمام ذكراه والاحترام يملأ نفسي
والآن في أرض هذه العاصمة الخالدة وفي فناء جامعتها المباركة أقول: (هنا يرقد رجل).
أحمد رمزي