مجلة الرسالة/العدد 487/ذكرى أم كلثوم
→ يوم من أيام دمشق الخالدة | مجلة الرسالة - العدد 487 ذكرى أم كلثوم [[مؤلف:|]] |
إلى المعترضين علينا ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1942 |
للشاعر التركي إبراهيم صبري
(نشرت الرسالة في عددها (480) تعريفاً بالشاعر التركي
إبراهيم صبري وترجمة لقصيدة من شعره. وهذه القصيدة
التي ترجمها الأستاذ (محمود محمد شاكر) تعطي صورة
جديدة من الشعر التركي بل من الشعر التركي في غربته.
وفيها يصف الشاعر ذلك الصوت الشعري السامي الذي يسحر
السمع، ويسبح بالروح في جو ممتد كامتداده، مرتعش
كرعشته، منتحب كانتحابه: صوت أم كلثوم)
إلى أخي محمود محمد شاكر
انصرفت من دعوتك الماضية وقد احتفظت بشعور وإحساس كتب في ذاكرتي هذه الأبيات:
كان يوماً بديعاً مِلْؤُه السرور! واحسرتا لذلك اليوم! لقد مضى!
ألوان من الطعام لذيذة اتصلت بموسيقى السحر التي فاضت على شفتي أم كلثوم الفاتنة،
قصيدة وردية من أباريق اللحن انسكبت في أرواحنا.
حين يأخذني سكر الإبداع أجد قلبي نشوانَ،
وتذهب أعصابي في سُبات عميق من فرط ما ثملت.
حينئذ أشعر بعروج خيالي وحده إلى عالم الأرواح
تاركاً على الأرض كل ما هو نقيض لهذا الصوت السماوي.
أراني أصل بخيالي إلى قمر في آفاقه نغم ألحانه من عالم الحور والسحر:
هو ذرة أثيرية أخرى لا أبعاد لها، تكِّون هواء ذلك القمر وماءه وأرضه ونوره الشفاف.
إن هذا الصوت ليس للتراب، إنما حقه أن يسمع في السماوات.
في مصر التي تشعرك بالبقاء أدوارها التاريخية المديدة وفي مصر التي يشبه الأهرام فيها صوت أم كلثوم
لا أقف لأستمع بل أُبادر لأنظر وأشاهد.
(ليلى والدهر) في ذلك الصوت كلاهما كمومياء مذهَّبةٍ جديرة بالمشاهدة.
في هذا الصوت تتمزق صدور العشاق إرباُ إرباً،
وكيف لا تتمزق فيه صدور العشاق، وقد ورث نبئ موسيقار لوعة نايه من هذا الوادي.
وإن حفر البشر الهواء في المستقبل، فلعلهم يكتشفون في صوتها صوت المزامير.
حين تبدأ تغني ينبعث صوتها كأنهُ وسوسةُ ذاتُ ألوان من الحباب المنطفئ على النيل
الأخضر الذي يجري أمام الشمس النَّارنجِيَّة؛
ثم إذا بك تراه ينقلب إلى أمواج في بحر تندفع كل موجاته فترتطم على قلب؛
ثم إذا بك تراه ينتصر على البعد المطلق.
تخال رَجْع (نواه) آتياً من وراء الفضاء.
هذا الصوت يغرِد كتغريد البلبل في الجنة،
كأنما تفوح منه رائحة ماءِ الورد وشجرة العود؛
كأنه نطفة يجري فيها ماء الحياة، لو انصبت قطرة منها على أجساد الموتى لشعروا بها.
هذا الصوت يمسُّ خدَّ السمع كمنديل من الحرير في كف معطّرة،
كم من ناصية قد اعتمدت على هذه اليد الساحرة
تبكي وتنوح، غارقة في حنانها،
لذلك ينبعث ترديده منتحباً
ولذلك يحرق كما يحرق البكاء
حين غربت الشمس - انطفأ اللون الأحمر للرمال المتوهجة في جفون الصحراء فكأنها
استحالت رماداً،
وتردد في نفسي صدى النغمة الأخيرة لهذا الصوت فأثار وجدي فقمت للوداع من زاويتي
حيث كنت مستغرقاً في خواطر.
كأن ذاكرتي لم تكن معي
عادت كأنما عادت من وراء أفق بعيد؛ وكأنها يد وضعت على كتف روحي
وأعادتني إلى الحقيقة.
تذكرت حينئذ زمناً من الأزمنة الماضية:
اجتمعت ليلة في بيت صديق ومعنا (سامي)
ما كان أبدع ما غنى من (الغزل) والأصوات!
كيف كوى بها قلوبنا؟
وكيف امتلأت جفوننا بالدموع ككؤوس خمر؟
وكيف أصبح شيطان ألحانه ساقياً للعبرات؟
إذا فاضت دموع التأثر من هذه العيون التي كانت ترسل دموع اللذة في ذلك الزمن، فلا
بأس!
فإن في هذه الأرض أصواتاً تجعل الغربة أُنساً
وفها مودتك المخلصة الغالية
ترجمة
محمود محمد شاكر