مجلة الرسالة/العدد 486/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
→ الراية المصرية | مجلة الرسالة - العدد 486 مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية [[مؤلف:|]] |
عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه ← |
بتاريخ: 26 - 10 - 1942 |
1 - حديث عيسى بن هشام
للدكتور زكي مبارك
فاتحة البحث - فوضى مزعجة - جنتمكان - الأمير - سبب الفوضى - تاريخ الكتاب - المويلحي الكبير والمويلحي الصغير - أصل الشبهة - سجين الفاقة والبؤس - الأديب المضطهد لنسبه وغناه - عصارة الشدائد - أغراض المؤلف - عقلية المويلحي - طبعات الكتاب
فاتحة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين. . .
أما بعد، فهذا بحث في كتاب (حديث عيسى بن هشام) المقرر للامتحان التحريري في مسابقة الأدب العربي، والمرجو - إذا وفق الله - أن يكون فيه ضمانة مؤكدة للنجاح في ذلك الامتحان، على شرط أن ينظر الطلبة في الكتاب نظرة جدية بعد قراءة هذا البحث، لأن الغرض من أمثال هذه البحوث هو التوجيه إلى الإطلاع عن بصيرة ويقين.
ويخطئ من يظن أننا ننوب عنه في قراءة ما يريد من الكتب، وفي استخلاص ما يشاء من الحقائق، ليواجه الامتحان وهو لا يملك غير ملاحظات لم يسهر له فيها جفن، ولم يقلق وساد!
هذه أبحاث نقدية، والنقد فن من التوجيه، وليس ضرباً من التحصيل؛ فليفهم أولئك الشبان هذا المعنى، وليقرءوا الكتب التي ننقدها قراءة فهم واستقصاء، بعد أن يستوعبوا ما فيها من المعاني والأغراض
فوضى مزعجة
هي الفوضى المحيطة بكتاب (حديث عيسى بن هشام)، فما يكاد القارئ يعرف في أي عام ألف، ولا يكاد يتصور أي مجتمع يصور، لولا عبارات تنطق بأنه كتب بعد موت (جنتمكان محمد علي): الجد الأكبر للملك فاروق، رحم الله الجد، وحرس الحفيد. . .
جنتمكان
وما (جنتمكان) التي ترد في الكتاب من صفحة إلى صفحات؟
لقد استبهمت علىَّ أول الأمر، وعجزت عن الاهتداء إلى نطقها الصحيح، ومدلولها الأصيل، ثم عرفت بعد لأي أنها كلمة تركية ركبت تركيباً مزجياً من كلمتين عربيتين: هما (جنة) و (مكان)؛ وإذن يكون: (جنتمكان) هو ساكن الجنان؛ وهي العبارة التي تذكرها الجرائد حين تتحدث عن كبار الأسلاف من البيت المالك؛ والظاهر أن (جنتمكان) كانت مفهومة عند تأليف الكتاب، فتركها المؤلف بلا شرح؛ وهل كان يخطر في باله أن معناها سيغيب عن رجل في مثل حالي؟!
اللهم إني أسألك السلامة من الجهل، فهو أخطر الأعداء!
الأمير
الألقاب نظمت في هذا العهد بطريقة واضحة الرسوم، فصرنا نعرف الفروق بين طبقة الأمراء وطبقة النبلاء من الوجهة الرسمية
فلنذكر أن كلمة (أمير) في عهد مؤلف الكتاب لم تكن تدل حتماً على أن الموصوف بها من أعضاء البيت المالك، وإنما كان الأمير هو الغني، ولو كان أجداده أبعد الناس من دماء الملوك
حدثني الشاعر عبد المحسن الكاظمي قال: كان محمود سامي البارودي أميراً بكل ما لهذه الكلمة من معاني
وقد توهمت في بعض ما سطرت من البحوث أن (إمارة) البارودي كانت رسمية أو شبه رسمية، لأن أجداده كانوا من أمراء المماليك، فالآن أعرف أن الإمارة في مصر كانت من نصيب أصحاب الثراء في جميع الأحوال
والكاظمي عراقي استمصر، وقد هال الرصافي أن يبكيه العراقيون بعد الموت فقال:
فيا عجباً بكتْك وأنت مَيْتٌ ... بلادٌ ضَّيعتْك وأنت حيُّ
سبب الفوضى
وسبب الفوضى التي يعانيها من يقرأ (حديث عيسى بن هشام) أنه خلا خلواً فظيعاً من التواريخ، وهل يوجد أعجب من أن تكون رسالة السيد جمال الدين الأفغاني إلى المويلحي بدون تاريخ؟
أستغفر الله، فالنص الزنكوغرافي ينص على أنها في 19 ربيع الثاني
ولكن من أي عام هذا الربيع الثاني، يا سيد جمال الدين؟
تاريخ الكتاب
يقول المؤلف إن كتابه مجموعة مقالات نشرت في (مصباح الشرق)؛ ومن السهل على المقيم بالقاهرة أن يراجع تلك الجريدة في دار الكتب المصرية، فما الذي يصنع المقيم بمدينة دمشق أو مدينة بغداد؟
في الصفحة الرابعة والثمانين نجد المؤلف يقول: (إنها أبدع نكتة في آخر القرن) فنعرف أن الكتاب ألف في آخر القرن التاسع عشر للميلاد
المويلحي الكبير والمويلحي الصغير
عرفت اللغة العربية في العهد القريب كاتبين عظيمين باسم المويلحي، ثانيهما محمد وأولهما إبراهيم، وكانت لإبراهيم مخاطرات سياسية دونها على صفحات (الرسالة) أحد أحفاده منذ سنين، فليرجع إلى تلك الصفحات من شاء، عساه يعرف كيف كانت مناورات ذلك الكاتب في ختل السلطان عبد الحميد
والمهم هو أن أسجل أن إبراهيم كان الكاتب الكاتب الكاتب، وإليه تنسب بالباطل أو بالحق رسائل ابنه محمد في (حديث عيسى بن هشام)، فقد مرت أزمان والناس يعتقدون أن محمداً ابن أبيه في كل شئ، حتى ذلك الحديث
أصل الشبهة
ولهذه الشبهة أصل، فقد سكت محمد بعد موت أبيه سكوت المريب، فتقول عليه الناس الأقاويل، وظنوا أدبه من الصنف المدخول.
وقوى الشبهة أنه استغضب فلم يغضب، ولو كانت التهمة باطلة لثار وهاج، وفعل بخصومه الأفاعيل.
سجين الفاقة والبؤس في سنة 1924 تفضل الدكتور منصور بك فهمي فوصلني بالمؤرخ الكبير أحمد باشا شفيق، وكانت مهمتي أن أدون مذكرات شفيق باشا بأسلوب مقبول. ثم جاء رمضان فدعاني الباشا لطعام الفطور مع جماعة منهم الكاتب العظيم محمد بك المويلحي، فكيف رأيت المويلحي؟
كان يلبس الردنجوت من غير موجب، وقد قضى الوقت كله في صمت، فصح عندي أن أدبه لا يخلو من تزييف
وفي صبيحة اليوم التالي واجهت أحمد باشا شفيق برأي في محمد بك المويلحي، فسكت لحظة ثم قال: هل تعرف كيف يعيش هذا الرجل وكان ابن ذوات؟
- كيف يعيش؟
- أتجهل كيف يعيش؟
- وهل أعلم الغيب؟
- إن محمد بك المويلحي يقضي الأيام والأعوام وليس له زاد غير الخبز والملح والماء، فهو أعظم من داوى الفقر بالتجمل في هذا الزمان
- أيعيش المويلحي هذا العيش؟
- هو غني افتقر، ولا تصلح هذه الهامة العالية لاستجداء الناس، ولو كانوا من الأمراء والملوك
الأديب المضطهد لنسبه وغناه
نشأ محمد المويلحي نشأة المياسير، فكان من حقه أن يستكبر على الناس كما يستكبر من يكون في مثل غناه، ولكن سليقته الأدبية فرضت عليه أن يدرس جميع الطبقات الاجتماعية بلا تفريق بين المرتفعين والمتضعين، فكان يغشى أماكن السوقية كما يغشى أماكن الأمراء
وفي ذات ليلة تطاول عليه سفيه في إحدى الحانات فضربه كفاً، كالذي يقع في أماكن الشبهات والظنون
فكيف كانت العواقب؟
أقام السخفاء من أدباء مصر موسماً سموه (عام الكف) عليهم غضبات صاحب الجبروت.
ومن العجب العاجب، والسخف الساخف، أن يكون شاعرنا إسماعيل باشا صبري أحد المشتركين في الشماتة بالأستاذ محمد المويلحي مع أنه مدح الشيخ أحمد الزين!
فيا بني آدم من أهل هذه البلاد، متى تعقلون؟
متى؟ ثم متى؟
عصارة الشدائد
تصدر عني من وقت إلى وقت آراء في غاية من الغرابة والشذوذ في نظر الناس، ثم تجئ الشواهد التي تؤكد أني لم أكن من المخطئين
ومن آرائي الشاذة في نظر الناس قولي بأن الأديب الغني أقدر على فهم الحياة من الأديب الفقير، وأشد إدراكاً لما في الحياة من مكاره وصعاب
وكان ذلك رأيي لأني أومن بأن الأغنياء تقع في حياتهم تعقيدات لا يعرفها الفقراء، وما يسيغ ذهني فكرة القول بأن الفقير يدرك معنى البؤس على الوجه الصحيح، لأن الفقر عصمة من مواجهة (الخطوب الثقال)، وقد نعرف بعد حين أن الفقراء هم الأغنياء
أقول هذا وقد صح عندي أن براعة المويلحي في كتابه أخذت مددها الأصيل من اضطلاعه بمتاعب الحياة في وقت مبكر، مع الاعتراف بأنه كان لا يزال في رعاية أبيه، ولم يكن عرف طعم القوت الدائم بالخبز والملح والماء
ومن حظ الأدب أن المويلحي لم يؤجل تسطير ملاحظاته إلى أن يشرب الصبابة من كأس البؤس، فما يستطيع بائس معدم أن يتبين ما يريد أن يقول
كان المويلحي في عافية حين سطر تلك الأحاديث، ثم عم الغم وطم، فآثر الانعزال إلى آخر الزمان
لم يعرف الأدباء الفارغون من أصحاب الجرائد الهزلية أن الأديب الحق لا يتوقد خاطره في كل حين، ولم يفهموا أن البلبل لا يغرد إلا وهو جذلان، فعدوا سكوت المويلحي بعد موت أبيه دليلاً على أن أدبه من ضروب الأدب المنحول، ولو عقلوا لفهموا أن الرجل أصابته بموت أبيه كوارث معاشيه تزلزل رواسي الجبال
إلى من يتوجه المويلحي وقد عادى جميع الطبقات باسم الأدب والبيان؟
وهل كان خصماؤه قبل عشرين سنة إلا كتبة مأجورين يأكلون النار طائعين أو كارهين؟ لقد مات المويلحي وظلوا أحياء، فمن الحي ومن الميت؟
تبارك من جعل الأدب الصحيح مهر الخلود!
أغراض المؤلف
للمويلحي من كتابه أغراض أدبية واجتماعية وتاريخية، فهو يريد اولاً أن يقدم للأدب صوراً من البيان الوهاج، وقد فاز من هذه الناحية فوزاً مبيناً، بغض النظر عما يقع من تكلف السجع في بعض الأحايين. ولا جدال في احتواء هذا الكتاب على صفحات يتمناها كبار الكاتبين
وهو يريد ثانياً أن يصور المجتمع، فهل أفلح في تصوير المجتمع؟
لقد وصل إلى أبعد الغايات في تصوير الطبقات العالية من وزراء وعلماء وتجار وقضاة ومحامين وأعيان وأوشاب، وللأوشاب في مصر مكان، ولكنه غفل عن تصوير الطبقة التي تمد الحياة المصرية بالغذاء السليم من الآفات، وهي طبقة الزراع والصناع.
وعذره في هذه الغفلة واضح، لأنه عاش عيشة لا تمكنه من التعرف إلى هؤلاء الناس
أما ملاحظاته التاريخية فهي من التفاهة بمكان!
عقلية المويلحي
عقلية هذا الرجل سليمة إلى أبعد الحدود، ولكنها تجود بالضحكات في بعض الأحيان، كأن يتحدث عن سور بابل فيقول: هو عدة أسوار متداخلة بعضها في بعض يتسع محيطها للإحاطة بسبع مدائن مثل مدينة باريس، وكان ارتفاعه ثمانية وأربعين متراً، وعرضه سبعة وعشرون متراً، ومن حوله خندق عميق، وعليه أبراج متعددة، وله مائة باب من حديد
يقول المويلحي هذا الكلام المضحك مع أنه نص على أن حدائق بابل المعلقة كانت في اتساع أربعين فداناً، ومع أن من المستحيل أن تسمح ثروة العراق بإقامة سور له ذلك الطول وذلك العرض، وفي محيط يسع سبع مدائن مثل مدينة باريس، باريس التي يسكنها نحو خمسة ملايين، مع اتساع الشوارع والميادين، ومع ابتلاع نهر السين
طبعات الكتاب ظهرت الطبعة الأولى سنة 1907، وظهرت الطبعة الثانية سنة 1912، والطبعة الأخيرة هي الرابعة مع الرحلة الثانية، وهي موضوع الدرس، وعليها المعول في الامتحان، وقد عني المؤلف بتنقيحها قبل أن ينتقل إلى عالم الخلود
وكلمتي هذه تمهيد وجيز يحتاج إليه المتسابقون بعض الاحتياج أو كل الاحتياج، أما البحث المقبل فأنا أرجو أن يكون عندما أريد، إن تفضل الله بالتوفيق.
زكي مبارك