الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 486/الراية المصرية

مجلة الرسالة/العدد 486/الراية المصرية

بتاريخ: 26 - 10 - 1942


لكاتب كبير

هي راية الفكر والرأي والبيان، وهي أول هبة منٌ بها الوهاب على هذه البلاد، ولعلها أول هبة جاد بها الله على هذا الوجود

مصر بطبيعة الفطرة أمة سليمة الروح والوجدان، ومن أجل هذا المعنى كان فقراؤها أغنى من الأغنياء، وكان جهلاؤها أعلم من العلماء، فما عرف الناس في شرق ولا غرب بلداً يعيش على المواهب الطبيعية كما يعيش هذا البلد، ولا سجل التاريخ أمجاداً أشرف من أمجاد هذا البلد، ولا كان في الدنيا نهر أوفى وأكرم من نهرها الفياض بمعاني الخصب والثروة والشعر والخيال

عاصرت المدينة المصرية مدنيات كثيرة في القديم والحديث، فهل انهزمت أمام إحدى المدنيات؟ وهل خضعت لعبودية الروح في أي وقت، وإن جاز الزمن فنال من استقلالها السياسي في بعض العهود؟

صنع الدهر بمصر ما صنع في عهود الطغيان من الوجهة السياسة، ولكن الدهر عجز عن غزوها في الميادين الأدبية والروحية والعقلية، فظلت آية الآيات في سمو الفكر والرأي والبيان

إن مصر لم تخضع ولن تخضع لأي سيطرة تعتمد على الاستبداد، وهل كان من العبث أن تعرف مقابر من سيطروا على هذه البلاد، ثم تختفي مقبرة الإسكندر المقدوني، فلم يهتدي إليها منقب ولا باحث، مع أن صاحبها كان من أعاظم الرجال؟

كانت مصر لأبنائها، ولن تكون إلا لأبنائها، وستمضي أجيال وأجيال، وأزمان وأزمان، قبل أن يجوز في الوهم أن الذاتية المصرية معرضة لاستعباد الجهل والبغي والطغيان. في عصور الجاهلية الجهلاء كانت مصر مناراً يهدي اليونان والرومان، وفي عصر الإسلام كانت ملاذاً للعلوم الإسلامية، والحضارة العربية، وفي العصر الحديث كانت مصر درعاً يقي الشرق من طغيان الغرب، وستظل مصر إلى الأبد مصدر النور ومنبع الإشراق.

أكتب هذا وفي قلبي أشجان تعجز عن إثارة دموعي، فقد قيل وقيل أن أيام الحرب تصد العقول عن الرأي، وتمنع الأقلام من البيان هيهات ثم هيهات، فالينبوع القاهر يفتك بالحواجز والأسداد، والقلم العارم يصنع ما يصنع النور في تبديد الظلمات

لن تضام مصر، ولن يضام أهلوها، ولن تجف أقلامها، ولن يكون لها بين المظلومين مكان

لا أقول أن مصر باقية ما بقي النيل، ولكني أقول أنها باقية ما بقى الوجود

مصر شرعت لجميع الأمم مذاهب الفكر والرأي والبيان وستظل بإذن الله مصدر الفكر والرأي والبيان

قال الزعيم النبيل مصطفى كامل: (لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً) وأقول إني أكره الافتراض الذي يبيح التخيل بأني لم أكن من المصريين

إن الظلم الذي يلاحقني في وطني لا ينسيني جمال وطني لأنه عندي أعز من روحي ونفسي

أنا أرفع الراية المصرية حيثما توجهت، ولن تضام مصر ولها أسندة ودروع من أبنائها الأوفياء

وكم تمنيت أن أكون أول من هتف بهذه الآراء، ليكون لي فضل الابتكار والإبداع، ولكني أشرح آراء جادت بها عقول كان لها فضل السبق في إحياء المواهب المصرية والعربية والإسلامية، من أمثال: أحمد زكي باشا، ومحمد بك مسعود، والشيخ محمد عبده، والسيد جمال الدين

هي آراء بشر بها ودعا إليها أولئك الجهابذة الأعلام، ولكنها حلت من نفسي محل اليقين، فصرت أهتف بها هتاف المبدع الأصيل، والمريد الصادق لا يقل إيماناً عن أساتذته النبلاء نحن لا نعمل لليوم الحاضر وحده، وإنما نعمل للمستقبل القريب والبعيد، وستظل سواعدنا قوية ولو احتواها الفناء

نحن لا نهاب الرجعية الممثلة في أوهام الفنانين، ولا نهاب مصالحنا وهي جديرة بأن تهاب، وإنما نهاب الحق، ونراعي الوطن، ونخاف الله، وتلك معان توجب أن نظل أوفياء لكرامة العقل، وسماحة الروح، وشجاعة الوجدان

سنقف كراماً حيث يقفنا الواجب، ولن نرضى أبداً بأن يعرض الفكر في بلادنا للخمود وستذكر مصر طائعة أو كارهة أن في أبنائها من وفوا بالعهد، في أيام ألهت جماهير الناس عن الفكر والرأي والبيان. . .

(كاتب)