مجلة الرسالة/العدد 48/حمار بوريدان
→ من ذكريات العراق | مجلة الرسالة - العدد 48 حمار بوريدان [[مؤلف:|]] |
الانقلابات السياسية المعاصرة وأثرها في تطور ← |
بتاريخ: 04 - 06 - 1934 |
بقلم السيد محمد روحي فيصل
لعل أشد الأدواء فتكاً في النفوس، وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، وأعمقها أثراً وتغلغلا، هذا الضعف في الإرادة أو التردد في العمل. يقعد بالمرء عن تحقيق رغائبه وآماله، ويمسكه عن تنفيذ مشاريعه وخططه، ويحول بينه وبين الإنتاج المتصل الذي يفيد الأمة ويفيد الإنسانية ثم يدفعها نحو المثل العليا الثلاثة: الخير والجمال والحقيقة
ومن العجب أن التردد على شدة فتكه وكثرة ذيوعه وعمق تغلغله لا يحسب ولا يلتفت إليه كأنما هو عرض من هذه الأعراض الهينة اليسيرة التي لا قيمة ولا وزن، أو كأنما هو شذوذ خفيف ضئيل في اتجاه مجرى الإرادة الصحيحة القوية!! ولعمر الحق ما شيء أنكس للرقى والمدنية وأدعى إلى الجمود والموت مثل التردد والإحجام (يصيب المرء في حياته العملية فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه في صغار الأمور وكبارها، فيكون في انتقاء الثوب واختيار الحالة، وفي الإقدام على الزيارة القصيرة والرحلة الطويلة، ويدخل في لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل في إدباره وإقباله)
أجل! يكون التردد في زورة الصديق، وافتتاح الحانوت، وارتياد المقهى كما يكون في طلب العلم والقوت والمال. وسواء أدخل في حقير الأمور أم جليلها فإنما هو يقف النهضة، ويبطئ الحركة، ويعوق عن التجدد والإبداع
لقد كشف السيكولوجيون عن نفسية المتردد، وأوضحوا المظاهر المتباينة العنيفة التي تطغى عليه وتأخذه بالحيرة والقلق فقالوا إن كل فعل إرادي لابد أن يجتاز على التوالي أربعة أطوار:
1 - تصور غاية الفعل، وإدراك المقصود من تحقيقه
2 - طور الموازنة والمفاضلة. ذلك بأن كل فعل إرادي له بواعث قلبية وجدانية تخلقها الأهواء والميول، وتغذيها العواطف والنزعات، وتنميها المشاعر والأحاسيس. وعوامل عقلية ذهنية مصدرها المنطق والمحاكمة والمعرفة. فالمرء في هذا الطور يوازن بين البواعث القلبية والعوامل العقلية ويفاضل بينهما، ويقوم بعملية حسابية يزن بها قيمه 3 - طور التقرير، ذلك أن المفاضلة بين البواعث والعوامل لابد أن تسفر عن نتيجة هي حل الفعل وتقريره
- طور التنفيذ - والتنفيذ تاج يزين هام الفعل الإرادي، ويتم محاسنه
شاء بعضهم أن يحذف من هذا التقسيم طور التنفيذ لأن الفعل الإرادي في نظره مرتبط من الوجهة النفسية بالتنفيذ أو عدمه. على أنه ينبغي أن يكون ثمة بداية في تحقيق الفعل واتجاه نحو العمل. لذلك قلنا إن التنفيذ (تاج يتمم محاسن الفعل الإرادي ويزين هامته)
فالتردد إنما يكون في الطور الثاني، طور الموازنة والمفاضلة. والمتردد إنما تتجاذبه البواعث والعوامل، يوازن بينهما ويفاضل بين قيمهما ثم لا ينتهي من موازنته ومفاضلته، ولا يضع حدا لهذا الاضطراب والفوضى. تناجيه بواعث القلب فيتفيأ ظلاله ويطمئن إلى أفنانه، ثم لا تلبث عوامل العقل أن تخرجه من طمأنينته وتغزو نفسه كلها. فهو ساحة حرب ما تكاد البواعث القلبية تنتصر فيها حينا إلا لتنخذل وتتراجع أمام قوة العوامل العقلية. وشدة منعتها، وعظمة سلطانها.
هكذا كتب الله على المتردد أن يقف بين بين، لا يقرر ولا ينفذ وإنما يخضع لطائفة من الاعتبارات النفسية المتعاكسة. وهذه الاعتبارات قد تنشأ عن خصب في الخيال، وسعة في المعرفة، وقوة في التفكير. وقد تنشأ عن تيقظ في الحيوية الانفعالية، واشتداد في الميل والهوى، وتدفق في الرغبة والعاطفة.
ومها يكن منشأ هذه الاعتبارات القوية فان المتردد عضو أشل (يعيش على هامش المجتمع البشري) كما يقول الدكتور بلوندل
قد تسأل بعد هذا: إذا كان الأمر ما تقول فما شأن الحيوان هنا؟ ومن يكون بوريدان هذا؟ وما هي العلاقة التي تصل عالم النفس الإنسانية بعالم (الحمير)؟؟
الحق إنه سؤال وجيه ممن لا يعرف وجه الاتصال والتقارب. فأما بوريدان فهو فيلسوف من فلاسفة اللاهوت والدين المسيحي في العصور الوسطى، ولد في مدينة بيتون من أعمال فرنسا الشمالية وتوفي عام 1360 ميلادية. ينتسب إلى مدرسة (السكولاستيك) المشهورة بالجدل الديني والتفكير الغيبي، والتي من رجالها (روجر باكون) و (القديس بونا فانتير) و (دونز سكوت). وأما الحمار فقد شاء بوريدان أن يوضح (حرية الاختيار) في الحياة والنفس بتشبيه طريف ومثل قريب فافترض وجود حمار جائع ظمآن على مسافة معينة واحدة من إناء فيه ماء عذب، ومعلف فيه تبن وشعير. . . وطفق الحمار يفكر على جوعه وظمئه بأي الأمرين يبدأ: أيملأ بطنه أولا أم يروي ظمأه؟ فما يكاد يتجه نحو الماء مثلا حتى ينكفئ راجعاً نحو التبن والشعير!! وقد كان في وسعه أن يختار الذي يريد ويلتهم ما يهوى، ولكن الحمار المسكين بقي يفكر على ذلك النحو من المنطق العقيم حتى سقط جثة هامدة، ومات جوعاً وظمأ!!
هذه القصة الموجزة الخيالية تصور، غير حرية الاختيار، طبيعة التردد وعاقبة المتردد. فأما طبيعة التردد فقد شرحناها من الناحية النفسية، وأما عاقبة المتردد فهي كما رأيت: الفناء والموت. ذلك بأن الحياة تتطلب السرعة والحركة والعمل لا الجمود والإحجام. وكل من لابس الحياة وخاض غمارها فإنما ينبغي له أن يعمل ويعمل، لا يأبه بالموانع والصعوبات التي قد يصادفها في طريقة وتتعثر بها رجلاه، وإلا فان مصيره المحتوم التخلف عن الحياة، والانحدار نحو التفكك والانحلال. يذهب غويو إلى أن العمل المستمر أو الفاعلية الشديدة إنما يجب أن تكون المثل الأعلى في الأخلاق، لأن الحياة ليست ترددا ومحاسبة وإنما هي عمل وإنتاج , ` , ` ,
ولسنا نحب هنا أن نقيد الفاعلية الشديدة بالخيرية والشرية، وإن شئت فقل إننا لن نتعرض للخيرية والشرية في صدد الحث على الفاعلية الشديدة والجهد الدائم.
وعلم الأخلاق الحديث المبني على التجربة والمشاهدة يأبى ذلك وينفر منه كل النفور. فما يدربنا أن الأمر الذي نحكم بخيريته وشرف غايته يصبح شراً كله إذا نحن طبقناه ومارسناه في الحياة العملية. فالخيرية التي نخلعها على طائفة من الأمور دون أخرى هي خيرية سابقة للتجربة ومتقدمة على المشاهدة , فلنزاول إذن كل الأمور ولنتصل بكل شيء، ولتكن حياتنا ملآى مستفيضة الجوانب، متصلة الحركة، قوية الإرادة
والإرادة العاملة المحركة كنه الوجود وأس الكون كما يقرر شوبنهور إذ يعتقد أن الأحياء جميعاً محكومون بإرادة باطنية لا شعورية عمياء، دائبة الهمة والنشاط، متجددة الشهوة والرغبة، تسيطر على الفكر والعقل سيطرة عظمى.
إن صاحب الإرادة القوية سيد عواطفه وآرائه، فرغائبه تنقلب آناً إلى إرادة فاعلة، ليس يعرف المستحيل ولا يقر بوجوده في قاموس الأعمال!!
وبعد. ما دواء التردد؟ وكيف السبيل إلى الشفاء من هذا الداء؟ ذكر أطباء النفس طائفة من العلاجات الناجعة، منها ما هو لمداواة الجسم ومنها ما هو لمداواة الروح: ينبغي قبل كل شيء ترويض الأعضاء وتقوية الحواس وامتلاك الصحة لأن للإرادة أساساً عضوياً، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن قوة العضلات هي الصورة الأولية الابتدائية لقوة الإرادة. فالمريض لا يستطيع تحقيق أمانيه لأن جسده فاتر العزم خائر القوى، وينبغي الطاعة وحب النظام، فالطفل إذا أطاع غيره فإنما يتعلم كيف تكون السيادة على الذات وقهر النفس، وهنا قد يكون للأسرة والمدرسة الأثر البليغ في ذلك
كذلك ينبغي تثقيف العقل وتهذيب الشعور. أما تثقيف العقل فيكون بالتفكير الصحيح، والانتباه الثابت، وتصور غاية الفعل بصورة محسوسة مسهبة، وإدراك مختلف المذاهب والنحل. وقد قال ديكارت (إن الإرادة القوية في العمل تقتضي وضوحاً شديدا في العقل). وأما تهذيب الشعور فيكون بالميل إلى المثل العليا الإنسانية، والاعتدال في الحب والهوى بحيث لا تطغى البواعث القلبية على العوامل العقلية فتجري الموازنة في جو هادئ ثم تسفر عن التقرير والتنفيذ ويسلم المرء مما وقع فيه حمار بوريدان.!
حمص
محمد روحي فيصل