الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 48/الانقلابات السياسية المعاصرة وأثرها في تطور

مجلة الرسالة/العدد 48/الانقلابات السياسية المعاصرة وأثرها في تطور

مجلة الرسالة - العدد 48
الانقلابات السياسية المعاصرة وأثرها في تطور
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 06 - 1934

التفكير والآداب

للأستاذ محمد عبد الله عنان

من المبادئ الخالدة أن الفكر تراث الإنسانية، وأن ثمار التفكير البشري ملك حق لجميع الأمم والناس. وأن العلوم والآداب والفنون لا وطن لها ولا تعرف فوارق الجنس والقومية. وقد كانت هذه المبادئ وما زالت هي الغالبة في توجيه الفكر الإنساني؛ وإذا كان التفكير يتأثر في أحيان كثيرة بالعوامل والاعتبارات القومية فالمفروض دائماً أن هذه المؤثرات لا تجني على المبادئ والحقائق الخالدة. فقد مجدت الحرية مثلاً في كل العصور، واعتبرت أعز أمنية للشعوب والأفراد وأجدرها بالتضحية، وقدست حرية الفكر واعتبرت دائماً عنوان الكرامة البشرية؛ واعتبر الإخاء والمساواة منذ الثورة الفرنسية من أقدس المثل الإنسانية. ولكنا نرى اليوم هذه الحقائق تهدر في أمم عظيمة، فالحريات بأنواعها تسحق وتذم، وتعتبر العبودية نظاما، والخضوع الأعمى وطنية، والقومية المتعصبة تطغى على كل المبادئ والمثل الإنسانية؛ ونرى التفكير والآداب في هذه الأمم تنزل على وحي السياسة وإرادتها، وتغدو ألسنة مصفدة لتتأيد المبادئ والدعوات الجديدة.

وهذه ظاهرة خطيرة في عصرنا تستحق الدرس العميق. فمنذ الثورة الفرنسية لم يشهد العالم المتمدن انقلاباً في النظم الاجتماعية والفكرية كالذي نشهده اليوم كأثر للانقلابات السياسة التي وقعت منذ نهاية الحرب في كثير من الأمم الأوربية. وقد كانت الحرب الكبرى ذاتها وما ترتب عليها من النتائج السياسية والعسكرية أكبر عامل في التمهيد لهذه الانقلابات، فقد هزت الحرب دعائم المجتمع كله، وقوضت كثيراً من نظمه وآرائه ومعتقداته القديمة، وعصفت ويلاتها وأزماتها المتوالية بالنفوس والعزائم، وبعثت اليأس والاستكانة إلى كثير من المجتمعات، وظهر أثر ذلك كله واضحاً في آداب ما بعد الحرب. ونلاحظ في هذه الفترة أن النزعات الحرة والثورية تغلب على معظم ألوان التفكير والأدب، وأنها تتجه غالباً إلى الثورة على المبادئ والآراء القديمة، سواء في النظم السياسية أو الاجتماعية، أو تقدير الفضائل والأخلاق. على أن هذه الآثار العامة ليست كل شيء في هذا الانقلاب الفكري العميق الذي نريد أن نتحدث عنه. وإنما يمتاز الانقلاب بآثاره المح والخاصة، فهذه الآثار تذهب اليوم في بعض الأمم إلى إنكار الماضي كله والمثل الفكرية والأدبية والإنسانية كلها.

وهذه الثورات الفكرية والاجتماعية العميقة ترجع كما قدمنا إلى الحركات السياسية والقومية العنيفة التي جاش بها كثير من الأمم عقب الحرب، فقد كان لهذه الحركات أكبر أثر في توجيه التفكير والآداب والثقافة. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نلاحظ مثل هذا الانقلاب العميق في مناحي التفكير والآداب إلا حيثما وقع انقلاب سياسي عميق يقوم على إنكار الماضي ومبادئه وآرائه القديمة. ففي روسيا السوفيتية حيث سحقت الثورة دولة القياصرة والمجتمع الروسي القديم بكل ما فيه من نظم ومبادئ وتقاليد، وقامت نظم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة البلشفية، نرى التفكير الروسي يتميز بلون ثوري عميق، ونرى نظريات الثورة العالمية، وسيادة الطبقات العاملة، والإخاء الدولي، ونضال الطوائف، وسحق الرأسمالية وغيرها تغمر الأدب الروسي المعاصر، ونرى الثقافة الروسية كلها تتجه إلى غرس هذه النظريات واعتبارها قوام الحياة الروسية العامة، وغذاء التفكير والآداب والفنون. ولم يبق من الأدب الروسي القديم ما يستحق التقدير في نظر روسيا البلشفية سوى آثار المفكرين والكتاب الأحرار والثوريين، مثل ترجينيف ودوستويفسكي وتولستوي والبرنس كروباتكن، تلك الآثار التي تصف شقاء المجتمع الروسي في عصر القياصرة، والتي كانت غذاء للحركة الثورية. وفي تركيا الكمالية نرى نواحي التفكير والثقافة تصطبغ بصبغة غربية جديدة هي أثر مباشر لاتجاه ثورة التجديد التركي ودفعها لتركيا نحو الغرب، بعد أن لبثت قرونا شرقية أسيوية، ونرى زعماء تركيا الجديدة يحاولون أن يخلقوا للشعب التركي عقلية جديدة تقوم على نسيان الماضي وبغض دول السلاطين، وتحقير العصبية الشرقية أو الإسلامية، وتمجيد الإصلاحات الجديدة، والاندفاع وراء التيار الغربي. ويذهب زعماء تركيا الجديدة إلي غرس النزعة القومية والتفكير والآداب إلى حدود الإغراق، فنراهم يغيرون قواعد اللغة التركية وألفاظها ويستبعدون منها الألفاظ المشتقة من لغة أخرى، ويضمون لتركيا تاريخاً جديداً تغفل فبه الحقائق العلمية والتاريخية الراسخة، ويقال لنا فيه إن الحضارة التركية هي أساس الحضارة البشرية، وأن اللغة التركية القديمة هي مصدر اللغات البشرية، وغير ذلك من المزاعم المغرقة التي تنقضها أبسط الحقائق التاريخية؛ وهذه المزاعم والنزعات كلها تمثل اليوم بقوة في الأدب التركي الجديد، ولا يسمح للمفكرين والكتاب الترك أن يعالجوا غيرها أو أن يعالجوها بما يخالف النظريات الرسمية؛ فالأدب التركي اليوم كالأدب الروسي، أدب حكومي تشرف عليه الحكومة وتوجهه إلى ما ترى فيه تحقيق برنامجها السياسي والاجتماعي.

وقد كانت الفاشستية بلا ريب أعظم حركة سياسية اجتماعية حدثت بعد الحرب؛ وكان لها في توجيه التفكير والآداب أعظم أثر. ونلاحظ أولاً أن الانقلاب الروسي في هذا التوجيه أبعد مدى من حيث كونه ينكر أسس المجتمع القديم كلها، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، ولكن الفاشستية لا تذهب في الهدم إلى هذا الحد؛ وبينما تذهب البلشفية إلى تقوية النزعات الثورية والحرة في حدود الطغيان البلشفي، إذا بالفاشستية تقمع كل نزعة ثورية أو حرة تتجه إلى محاسبتها. وقد كانت الفاشستية إلى ما قبل عامين حركة محلية إيطالية، ولكنها تغدو اليوم حركة أوربية عامة تحدث آثارها السياسية والاجتماعية والفكرية في ألمانيا وبولونيا والنمسا وغيرها. ولما كانت الفاشستية حركة طغيان شامل، فإنها تبسط سلطانها على الحركة الفكرية كما تبسطه على كل قوة معنوية أخرى، وتحاول أن تصفدها في حدود برنامجها، وأن تسيرها طبقا لوحيها وإرشادها. وهنا فرق جوهري بين موقف الديموقراطية وموقف الفاشستية من الحركة الفكرية؛ ذلك أن الثورة الديمقراطية تقع دائما في المحيط العقلي، ثم تحدث آثارها المادية بعد ذلك في الأنظمة السياسية والاجتماعية؛ ولكن الفاشستية تقوم بالعكس في المحيط المادي وبوسائل العنف المادية، ثم تحاول بعد ذلك أن تغزو الميدان العقلي وأن تجعل من الحركة الفكرية أداة لتوطيد سلطانها كما تجعل من الجيش والأسطول؛ ومن أهم الظواهر الفاشستية إنها تعمل على مطاردة القوى العقلية الممتازة التي لا تخضع لوحيها، ولا ترعى سوى الأذهان الضئيلة المتواضعة التي تهرع لخدمة كل سلطة جديدة وكل نظام جديد

ويبدو أثر الثورة الفاشستية في الحركة الفكرية الألمانية بشكل قوي واضح. ففي إيطاليا تسود المبادئ الفاشستية الرجعية في توجيه التفكير والآداب والفنون والحياة العقلية كلها كما تسود الحياة السياسية والاجتماعية، وتغمر الثقافة الإيطالية في جميع نواحيها، وتحاول أن تحدث أثرها في توجيه الثقافة العالمية. ولما كانت الفاشستية تنكر الحريات العامة، فهي لا تعترف بحرية الفكر بل تبغضها وتسحقها بكل قواها، لأنها ترى في وجودها خطراً على كيانها؛ وحرية الفكر أسمى مزايا الإنتاج العقلي والفني، وإذاً ففي ظل هذا الطغيان الذي يسلب الفكر أقدس حقوقه، لا يمكن أن يزدهر التفكير الرفيع، ولا أن تصل الآداب والفنون إلى ذرى القوة والصقل؛ وتغدو الحياة العقلية مطبوعة بطابع التماثل الممل، لأنها تسير وتسخر طبقاً للوحي القاهر. هذا إلى أن التفكير والآداب في هذا الأفق المصطنع قد جردت من أقدس المثل التي استرشدت بها في كل العصور، فأصبحت تمجد العبودية لأنها أسيرة الطغيان، وتمجد الحرب لأنها جردت من المثل الإنسانية الخالصة. وهذه الظواهر هي وليدة الطغيان قبل كل شيء تتجلى اليوم بأوضح ألوانها في ألمانيا على حداثة عهدها بالفاشستية؛ فإن الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية ما كادت تظفر بقلب نظم الحكم في ألمانيا، وإقامة الطغيان على أنقاض الديموقراطية، حتى أخذت تفرض مبادئها ونظرياتها على التفكير والآداب والثقافة الألمانية؛ وهي اليوم تمثل في الحياة الألمانية بقوة، ونظرياتها القومية والجنسية المغرقة تطبع التفكير الألماني في جميع نواحيه العلمية والأدبية والفنية، بل هي تذهب في الجرأة إلى حد محاولة التأثير في العقيدة النصرانية وصبغها بصبغتها. والعلم والتفكير والآداب والفنون في ألمانيا تسخر كلها لخدمة الدعوة الوطنية والاشتراكية وتمجيد مبادئ هتلر، واثبات نظرياته المغرقة في تفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى، وتفوق السلالة الألمانية على سائر المخلوقات؛ واثبات صلاحية الحكم المطلق وفشل الحكم الديموقراطي؛ وتمجيد الخضوع المطلق للزعامة، والانتقاص من قيمة الحريات العامة، وغير ذلك مما تضمنه برنامج الوطنية الاشتراكية (وإنجيل) هتلر. وقد ذهب الوطنيون الاشتراكيون بعيداً في السيطرة على زمام الحركة العقلية في ألمانيا، فبسطوا إشرافهم على الجامعات، وأصدروا تشريعاً يصفد الصحافة ويجعلها مهنة شبه حكومية، ويجعل الكتاب دعاة للوطنية الاشتراكية وطغيانها. وكما أن الفاشستية الإيطالية بعثت إلى الأدب الإيطالي بصور رومة القديمة وذكريات الإمبراطورية الرومانية ومجد القياصرة، وبالطموح إلى إحياء هذه الذكريات والصور في حياة إيطاليا وآمالها، فكذلك بثت الوطنية الاشتراكية في الأدب الألماني مثل الإمبراطورية المقدسة الذاهبة، وصور ألمانيا العسكرية الظافرة الزاهرة تحمل زعامة الجنس الآري كله، وتملي على أوربا القديمة إرادتها ومثلها.

وقد كان للانقلابات السياسية والقومية دائماً أثرها في توجيه التفكير والآداب في جميع الأمم والعصور؛ ولكن لعل التاريخ لم يشهد عصراً غمرت فيه القومية المتطرفة والنزعات الرجعية التفكير والآداب كعصرنا؛ ذلك أن التوجه القومي المعاصر يذهب إلى حد الإغراق ويتخذ صوراً من العنف لم يسمع بها، ويحاول أن يسيطر على جميع نواحي الحياة العامة، وأن يتدخل في صوغ العقلية العامة. ولا ريب أن الحركات القومية تكسب من وراء ذلك قوة، وربما كست الأمم في بعض نواحي الحياة المادية حيوية جديدة، ولكن الحركة العقلية تعرض بالعكس لأخطار كثيرة. ذلك لأن الثورات القومية العميقة تقوم على العوامل السياسية قبل كل شيء، وتستخدم في سبيل مآربها سلاح الدعوات المغرضة والنظريات الموضوعة التي لا تقرها المثل الإنسانية دائماً، ولا يقرها العلم الخالص والحقائق المنزهة. والثقافات التي تطبعها أهواء السياسية والنظريات المغرضة، والآداب التي ترغم على تصوير ألوان مصطنعة من الحياة العامة والحياة الفردية، وتحمل على تمجيد البطولة الزائفة، وتمجيد العبودية في عصر النور والحريات، وامتهان المبادئ والمثل المقدسة، وتزييف حقائق العلم والتاريخ الراسخة، هذه الثقافات والآداب ليست جديرة بأن تقود الأمم العظيمة، وليست جديرة بالأخص بأن تتخذ مكانها بين تراث الإنسانية الرفيع.

إن تطور التفكير والآداب على هذا النحو في أمم عظيمة كإيطاليا وألمانيا، هو بلا ريب ظفر جديد للمبادئ والاعتبارات المادية، ولكن ظفر المبادئ والاعتبارات المادية على حساب الحياة العقلية والروحية من ظواهر انحلال الحضارات والأمم؛ وإن حضارة تمجد فيها العبودية، وتطارد فيها العلوم والآداب لأجدر بالعصور الوسطى منها بعصرنا.

محمد عبد الله عنان

المحامي