الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 48/اختلاف المزاج وأثره في الأفراد والأمم

مجلة الرسالة/العدد 48/اختلاف المزاج وأثره في الأفراد والأمم

مجلة الرسالة - العدد 48
اختلاف المزاج وأثره في الأفراد والأمم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 06 - 1934


وفي السياسة العامة

إذا رجعت معظم أسباب حوادث الطلاق التي تنشرها الصحف الإنكليزية، وجدت أن في مقدمتها اختلاف المزاج، وهو ما يعبرون عنه بقولهم ولا نفهم تماماً كيف يؤدي اختلاف مزاج الزوجين إلى تنغيص عيشتهما حتى يطلبا الخلاص منه بالافتراق.

نريد أن نقول: هل إذا كان الزوجان من أهل المزاج العصبي يكونان أقرب إلى الاختصام مما لو كان الواحد عصبياً حامياً والآخر بلغميا بارداً؟

قد يخيل إليك لأول وهلة أن الأمر كذلك، أي أن العصبي سريع الانفعال إذا لقي مثله تطاحنا وتقاتلا حتى يغلب أحدهما الآخر. ويبقى ذلك ديدنهما حتى يفرق بينهما تفريقاً لا اجتماع بعده.

ولكن العكس صحيح أيضاً. أي أن العصبي - وحدته ونزقه معروفان - لا يطيق أن يرى أمامه بلغمياً بارد الطبع، لأن الأول شعاره السرعة والثاني البطء، فيؤدي اختلافهما هذا إلى تخاصمهما بشدة لا تقل عن شدة تخاصم الأولين.

وصحيح كذلك أن العصبي حاد المزاج يطلب تنفيذ إرادته بلا تهاون، فإذا لقي أمامه صفراوياً أو بلغمياً بطيء الانفعال والتأثر فالغالب أنهما لا يعارضانه فيتم له ما يريد بلا خلاف ولا احتكاك ولا قتال

ويظهر أن هذا الحكم الأخير هو الرائج في السياسة، فقد تبدلت محالفات الأمم المختلف المزاج وتغيرت، وبقيت محالفات الأمم المتشابهة الأمزجة. فمن القبيل الأول محالفات أوربا في القرن الماضي كالمحالفة الثلاثية بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، والمحالفة الثنائية بين فرنسا وروسيا. فقد زالت هاتان المحالفتان ولم يبق لها أثر.

ومن القبيل الثاني تحالف بلدان ألمانيا وتحالف ولايات أميركا. وهما تحالفان يبقيان على الدهر لأن (الدم أكثف من الماء) كما يقول المثل الإنكليزي. وعلى هذه النظرية يقدرون تحالف الأمتين الإنجلوسكسونيتين في مستقبل الزمان - أريد بهما أميركا وبريطانيا.

وقد وجد الإنكليز والفرنسيون بالاختبار الطويل أن كل سعي في التقريب بين الأمتين نجح حتى حين، ثم لم يلبث أن فشل لأن المزاج الأولين الصفراوي مضاد لمزاج الأخيرين العصبي. ومن ذلك كانت سلسلة حروبهما الطويلة التي بلغت أقصاها في عهد نابليون، ثم انتهت حروب نابليون ولم ينته عداؤهما. وقد تمكن الملك إدوارد السابع بكياسته وحسن سياسته من عقد الاتفاق الودادي بينهما، وظهر أن هذا الوداد ازداد توثقاً بتحالف الأمتين في الحرب العالمية وانضمام أميركا إليها بعد ما تلكأت نحو ثلاث سنوات عنها. ثم لما انتهت الحرب إذا هما كانتا في تاريخهما الطويل - أمتان دائمتا النفار إذا اصطلحتا اليوم فلتختصما غداً.

وهذا شأن الفرنسويين مع أميركا، ولكن بعد الشقة بينهما وقلة تصادم المصالح حالا دون بروز وجوه الخلاف. وحالت (مديونية) فرنسا لأمريكا دون إبداء مزاجها العصبي، وكانت خير شكيمة لتمادي جماحها على رجاء أن حسن سلوكها وكظم مزاجها العصبي وإحلال المحاسنة محل المخاشنة - تؤدي كلها إلى تجاوز أميركا عن مالها من الدين على فرنسا.

ولكن الأميركيين متصلبون في عزمهم على ما يظهر تصلب شيلوك في اقتضاء رطل اللحم من غريمه مما حمل فرنسا على التظاهر بشيء من الخلق العصبي الذي طالما أخفته المحاسنة والملاينة والمجاملة. فلما احتفلوا بعيد لافاييت في الأسبوع الماضي أوعزوا إلى وزير حربيتهم المارشال بتاين العسكري العبقري أن يخطب فخطب عاتباً، والعتاب أول درجات الخناق.

ذكر في خطبته مقاتلة الجنود الفرنسوية تحت لواء وشنطن دفاعاً عن استقلال أميركا وما كان من الود القديم بينهما ثم نعاه فقال أن الأمتين ليستا من الود الآن على ما كنتا في قديم الزمان

ولكن هذا الغضب المقنع بقناع العتاب اللطيف والغمز الظريف، لابد أن يكون صاحبه قد ندم عليه بعد ما وردت أنباء أميركا بأن الأميركيين لم ينسوا جميل لافاييت، بل قاموا قومة رجل واحد يعقدون الاحتفالات في جميع أرجاء فرنسا، ويدعوا مجلس أمتهم سفير فرنسا إلى احتفال عظيم في وشنطن يكون السفير ضيف الحكومة فيه، ورئيس الجمهورية خطيب الحفلة فيها خطبة مؤثرة، ويذكر مآثر فرنسا في شخص لافاييت.

ولكن ذلك لا ينقع غلة ولا يشفى علة، ما دامت أميركا تطالب برطل اللحم منقوص، هذا كله يجيء مصدقاً للقول أن اختلاف الأمزجة هو بيت الداء بين الأمتين كما هو بيت الداء بين الزوجين.

ق. س