الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 473/جيل وجيل

مجلة الرسالة/العدد 473/جيل وجيل

بتاريخ: 27 - 07 - 1942


الحيوية الفكرية

للأستاذ محمود البشيسشي

تعدد المواهب والحيوية - الحيوية تحدد الاتجاه - جناية الحيوية على أربابها - إسحاق الموصلي - الحيوية الفكر التي تسبق الزمن وتقرر المستقبل - الشاعر البدوي عبد المطلب والرواية الشعرية تبعث إلى التأمل في أحوال المجتمع - حيوية الفكرة الدينية - حيوية الفكرة في الفنون.

نصل حوارنا اليوم في حيوية الفكرة ليكمل البحث، ويتم الغرض، ويستقيم المعنى، ويدرك الهدف. فليس أقبح من أن يجعل المرء بالحكم قبل استيفاء الحجة، ويبرم القضاء قبل امتحان الشهادة. وإن الاقتضاب في معالجة الأمور مدرجة الضلالة، والإسراع في الكشف عن منبهم الأسرار طريق العماية. . . وخير الباحثين من نهج سبيل التأني والاستقراء ليعقل ويفهم ويدرك تفاصيل ما يعالجه، وتراكيب ما يعرض له. . .

. . . قال ولدنا حسين: عرفنا من أسرار الحيوية الفكرية شيئاً وبقيت أشياء. فقد تتعدد المواهب وتكثر الاتجاهات للشخصية الواحدة؛ كأن يكون المرء شاعراً ضرب في الشاعرية بسهم وافر، وناثراً طلع في القدرة على بيان أفكاره مطالع عالية، وخطيباً بلغ من عبقرية الفصاحة الغاية التي تتقطع دونها الأعناق. . . ويكون له في مذهب من هذه المذاهب المتعددة المتباينة جودة واستواء، وموافقة وكمال، ورونق وعذوبة، واستيعاب وفهم.

فما كان الحيوية هنا؟ وهل تكون في كل ناحية على قدر معلوم؟ وهل لصاحبها القدرة على توجيهها والسيطرة عليها أو يكون موقفه منها موقف الأرض من الغيث. . . لا تستطيع إلا أن تنتظر وروده!

قلت: أما تعدد المواهب يا بني فأمر قد يكون إلى الفطرة أقرب منه إلى الاعتياد والدربة. على أن المواهب مهما تعددت ألوانها، وتشعبت مذاهبها، لا يمكن أن تكون في كل ناحية ومذهب على نسق واحد من القدرة، وفي قوة واحدة من الحيوية. . . ولا بد يا بني من تدفق الحيوية قوية عاتية في ناحية دون أخرى، وحينئذ يكون لها وحدها تقدير المصير، وتحديد الشخصية، وبيان موضع صاحبها وفنه الأصيل في معترك الحياة الصاخبة الدوّارة. فأنت يا بني تدهش من تعدد مواهبك، وتعجب من تباينها، وتحار في تعليل ميلك إليها، وتوفرك على أسبابها؛ ولكن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من التأمل في منابت هذه الاتجاهات وأصولها، فأنت تميل إلى الرسم وتمارسه، وتجيد الشعر وتطرب له، وتندفع وراء العمق في الفكرة جرياً وراء الفلسفة وطلباً لمنبهم الأسرار. . . وكل أولئك لو تأملت يا بني من مصدر ومبعث واحد يرجع إلى حساسية الشعور، وشفافية الوجدان، ويقظة التفكير. على أنك لو تأملت طويلاً لرأيت أن هناك حيوية خاصة غالبة على كل هذه الاتجاهات. . . تلك هي عمق الفكرة والجنوح إلى التأمل العميق. وإنك لتجد الصدق هذا القول صوراً من الشخصيات في مطاوي الزمن. فقد كان إسحاق الموصلي متعدد المواهب بعيد مدى الآمال، متباين الميول. وكان إذا ناظر أهل الكلام انتصف منهم، وإذا تكلم أو عالج الفقه أحسن وقاس واحتج وبلغ في قياسه واحتجاجه الغاية. وإذا أخذ بأسباب الشعر واللغة فاق وارتفع، ولكنه كان في الغناء أكثر حيوية، وكان الغناء أدنى ما يوصف به وإن كان الغالب عليه. على أنه كان أكره للاشتهار بالغناء والتسمي به!

قال: إن في نفور إسحاق يا والدي من الغناء وهو ما اشتهر به وذهب له صيت ذكر، لطرافة وموضعاً للتأمل.

فإن للحيوية جناية كبرى على أربابها. ولقد أصاب إسحاق من الحيوية ألم عظيم وضياع للفرص السوانح؛ فقد كان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، وشُهر به من الغناء عندهم لوليته القضاء، فإنه أولى به، وأحق وأعف، وأصدق تديناً وأمانة من هؤلاء القضاة. . .! فما أشد ألم إسحاق لضياع ما كان يتطلع إليه! وما أخطر جناية الحيوية على أربابها! ولعل الهدف الأول لجناية الحيوية هو صاحب الفكر الحر من أنصار العقيدة، وأرباب المذاهب الفكرية. فكم رجل من حر العقيدة، صادق الإيمان، دفعت به حيوية الفكرة التي يعتنقها، ويتمسك بأسبابها، ويناضل في سبيلها إلى الخوض في مرابط الهلكة. . . لا تمنعه رهبة، ولا تقطعه هيبة، ولا يدركه نصب، ولا يتداخل جهاده تردد، فإذا رأيت في حياتك رجلاً قد طوقته الشرور، وترامت عليه النقم، وأقصى عن مواطن النعم، وحرم كل ما هو في متناول غيره، فلا تتردد في أن تنسبه إلى رجلين: رجل انسلخت حقيقته من معاني الإنسانية، فهو شر على نفسه وشر على غيره؛ ورجل ارتفعت حقيقته بمعاني الإنسانية إلى مرتبة عالية سامية ترقب العالم بعين الضمير الحي الذي لا يقيم وزناً للمظاهر الكواذب، ولا يحفل بالقوة إذا لم تقم على قواعد من الحق، وأسس من العدل. فهو بما طبعت عليه نفسه من حيوية الفكرة والعقيدة والحق عدو الباطل والقوة، وطريد الرياء والقسوة

قلت: وإن الحيوية يا بني لتقرر المصير، وتحدد الغاية، وتشير إلى مستقبل صاحبها من قبل أن يتأهب لغايته من الحياة وينتظرها، ومن قبل أن تستقر به الأيام، وتطمئن به الأسباب، وتصبح له يد باسطة في الناحية الأصلية من مواهبه واتجاهات شخصيته. فإنك لتلمح في طفولة الفنان العبقري بوارق من حيوية الفن والفكرة فيما يعرض له في سلوكه وأحواله ورغباته وآماله. فهو أبداً يميل إلى كل فاتن من الصور ورائع من الألوان. ويجد في الخيال المجنح نشوة تخفف على قلبه، وتتصل بروحه الفنية، وتقربه من غايته التي لم تزل في أكمام الغيب تناديه من وراء حجاب؛ ويجد لها في قرارة نفسه حنيناً لا يملك القدرة على بيان خصائصه في جلاء ووضوح، وإشراق وصفاء. ولكنه على رغم هذا يحس بدافع يسوقه إلى السير وراء كل ما هو أدنى بالقبول، وأحظى بطلاوة الفن، وأعلق بقلب الفنان. . . على أن صاحب الحيوية قد يدرك الغاية التي يسعى لها، وتدفعه حيويته إليها، وهو حينئذ يقصد أنبل المقاصد ولا يرهب أخطر المهالك، ويجد في نفسه الإيحاء الذي يقول في قوة وحيوية: هذا أمل واجب أن يكمل، وحقيق أن يوفى حقه، وليس يتحقق أبداً إلا بأن يتطلع المرء إلى أجل الأغراض مكاناً. والرجل الحي من كان في قوله وفعله كأنما أطلع على إرادة قومه وإرادة حيويته، فرمى عن قوس عقيدتهم وعقيدته

فقال: إذن فالحيوية الفكرية يا ولدي تسبق الزمن، فتحقق في التخيل والتصور ما يتمخض عنه الزمن بعد أجيال متعاقبة. فكم من مخترعات تفتَّق عنها زماننا وكانت في ألفاف الخيال سجينة من أزمان طويلة. فقد جالت فكرة الطيران بخلد الإنسان منذ تنف فجر الفكرة الحية في الإنسانية. وكم من أفكار كانت فطرية ساذجة ثم أصبحت مع الزمن فنوناً مع النظريات والعمليات الخالدة. . . أجل هذا حق لا يتداخله شك، ولا يشوبه إفراط. ومن طرائف هذه الحيوية التي تسبق الزمن ما عرض لي أثناء مطالعاتي يا والدي. . . فقد رأيت أن الشاعر البدوي الجليل (عبد المطلب) كان قد عالج الرواية الشعرية علاجاً استكمل شرائط الفن، واستوفي أوصاف الحيوية التي طالعتنا من فنون أمير الشعراء. . . فقد ألف عبد المطلب عدة روايات شعرية تمثيلية. وكان هذا منذ (29 عاماً) فعبد المطلب بذلك يتفرَّد وحده بفضل السبق في هذه الناحية الخطيرة من الفن الأدبي. فقد افترع هذا اللون من الشعر الروائي افتراعاً قبل أن تتفتح عنه عبقرية أمير الشعراء. ولا نسوق هذا القول من غير دليل ينهض شاهداً على صدقه؛ فإن الشاعر (البدوي) عدة روايات تمثيلية يوجد بدار الكتب منها روايتا (امرئ القيس) و (المهلهل): وقد قام - رحمه الله - بتأليف رواية اسمها (ليلى العفيفة) نشرت مجلة (المعرفة) جزءاً منها دليلاً على سبقه في هذا الفن. والمتأمل في هذه الرواية يرى كيف استطاع الشاعر أن يقنعنا بأنه كان مطبوعاً، حسن التصرف قد أغناه عفو قريحته عن التكلف، وبعد به عن التصنع. . . هذه بعض آثار الحيوية الفكرية يا والدي، وإنها لتدفع الناس إلى التأمل في حالهم، وربط ماضيهم بحاضرهم، والتطلع إلى مستقبلهم؛ وهذا التأمل والربط والتطلع، يجيء من بعده الرغبة في التقدم، والمطالبة بالحرية، والسعي وراء المجد. ويظهر هذا الأثر الأخير في حيوية الفكرة الدينية، وخاصة في حيوية الفكرة في الدين الإسلامي المجيد، فقد كانت الحقيقة المؤمنة تتطلق عزمة، وتتوهج رغبة. . . تنظر إلى أحابيل الشيطان نظرة القدرة القادرة، وتتأمل أضاليل الباطل بثقة الحكمة النافذة، فكان لها النصر المبين. بعثت حيوية الرسول في قلوب المؤمنين القوة التي قهرت الباطل، وبددت سحب الشيطان، وأقامت على أطلال الشرور والرياء والنفاق والفرقة والضلال مجداً عظيماً: قويّاً بالإيمان، ثابتاً بالعقيدة، صادقاً بكلمة السماء، خالداً بخلود الفضيلة والحق. وحيوية الفكرة في الفنون - يا والدي - هي دلالتها على زمنها، وعقلية أصحابها، وما يموج بأحاسيسهم، ويضطرب في ميولهم، ويختلج في صدورهم، ويساير نهضة علومهم وعقليتهم، ويلابس حقيقة مجتمعهم، ويرمي إلى مثلهم العليا في مفاتن الجمال، وروائع الحسن، وبدائع الفن، ومحامد الأخلاق. . . وحيوية الفن إذا اتسعت آفاقها، وعظم خطرها، بسطت حيويتها على فكرة وأمل وغاية، وخلعت على صاحبها أو الأمة التي نضجت فيها، لوناً خاصاً يحدد مكانها من عالم الفن. . . بل إنها لتجعل صاحبها يبعث روحه في كل ما يكتسبه من العالم الخارجي ويطبعه بطابعه الخاص. . . وهذه هي رسالة الحيوية الحق في الفن!

قلت: ما أحوجنا - يا بني - إلى هذه الحيوية، حتى لا نضرب في ظلمات التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، من غير أن نعمل التأمل في أسبابه وغاياته وملابسته لأحوالنا، ومسايرته لميولنا وأحاسيسنا وتقاليدنا!

محمود البشبيشي