الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 473/أطوار الوحدة العربية

مجلة الرسالة/العدد 473/أطوار الوحدة العربية

مجلة الرسالة - العدد 473
أطوار الوحدة العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 07 - 1942


للأستاذ نسيب سعيد

(اغتبط قراء (الرسالة) - وما أكثرهم - للنبأ العظيم الذي

أذاعته عليهم في أعدادها الأخيرة من تخصيص بعض أعدادها

لخدمة الوحدة العربية، والقضية العربية، وقديماً عرفت

(الرسالة) بخدمتها لرسالة العروبة وفضلها الجزيل على الثقافة

العربية، مما جعل لها المقام الأول في قلوب أبناء العرب في

سائر الأقطار، وجعل صاحبها محبباً إلى القلوب جميعها،

كريماً على النفوس كلها. أدامه الله للعرب فخراً وللإسلام

ذخراً. . .)

القضية العربية

البحث عن (القضية العربية) طريف، والحديث عن العروبة ذو شجون وبخاصة في هذا العصر، عصر القوميات. ونحن نريد اليوم في حديثنا الأول نبحث للقراء في تاريخ الفكرة العربية الحديثة، ونستعرض لهم أدوار هذه الفكرة وأبطالها في التاريخ المعاصر، ثم ننتقل بهم بالحديث عن الخدمات الجلي التي قدمها العراق للوحدة العربية وعن أثره في القضية العربية الأخرى، وبخاصة عن المعاهدة العربية الأولى التي عقدها العراق عام 1936 مع المملكة العربية السعودية؛ وقد كانت هذه المعاهدة نواة الوحدة العربية، ثم كيف سافر جميل بك المدفعي رجل العراق من بغداد إلى صنعاء بطريق القاهرة في شهر أغسطس سنة 1937، وأشرك دولة اليمن السعيدة في معاهدة الوحدة، فأصبح الحلف العربي ثلاثياً بعد أن كان ثنائياً، وترك الباب مفتوحاً لسائر الدول العربية للدخول في هذه الوحدة، والانضمام إلى هذه المجموعة العربية، كما دخلها: العراق والحجاز واليمن.

حلم محمد علي الكبير

وإذا أردنا الحديث عن فكرة الوحدة العربية والبحث عن الدولة العربية الموحدة في العصر الحديث، فلا بد لنا من الانتقال إلى الوادي السعيد، إلى ضفاف النيل، فمصر العزيزة هي البلد الأول الذي فكر في الدولة العربية الكبرى؛ وللقطر العربي قصب السبق في بعث فكرة الوحدة العربية الأولى، وخلق الوعي القومي. ولغريزة محمد علي الكبير الفضل الأول في إيجاد الفكرة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

كان ذلك في القرن الماضي يوم ظهر محمد على الكبير مؤسس البيت المالك المصري في وادي النيل، وسعى لتأسيس دولة عربية جديدة، وفكر في قلب المملكة المصرية إلى إمبراطورية عربية إسلامية كبرى تستطيع الظهور بين الدول الأوربية الحديثة. كذلك حارب الوهابيين في الجزيرة ليبسط نفوذه على سائر بلاد العرب، ويحقق حلمه الذهبي الجميل، ثم استولى على بلاد الشام وأعاد إلى سورية الإخاء والرخاء والخيرات، ومنع الجيش المصري الباسل قبائل البدو من الاعتداء على القرى والمزارع، ووضع حداً للصراع الذي كان لا ينقطع بين الدروز والمسيحيين في ديار الشام.

فالنتيجة التي نستطيع أن نقررها إذن، هي أن محمد علي الكبير عزيز مصر هو أول من فكر في الوحدة العربية، وأول من حلم بتأسيس دولة عربية جديدة مكان الرجل المريض أمين الدولة العثمانية، تعيد إلى دنيا العرب ذكريات الأمويين والعباسيين والفاطميين؛ ولكن الظروف السياسية القاهرة، والعوامل الدولية المختلفة، وقفت في وجهه، واضطرته إلى الانسحاب من سورية، فاقتصر حكمه بعد عام 1840 على مصر وحدها كما حدث التاريخ، وتبدد ذلك الحلم الذهبي الجميل في مصر.

كلمة إبراهيم باشا

وعلى كل حال فإننا لا نرى قبل القرن التاسع عشر ما يشير إلى قومية العرب، والتفات إلى دنيا العرب، أو إلى أي فكرة عربية؛ فقد كانت تلك القومية في سبات عميق، وفكرة العروبة كسراب خادع، وأول من حاول إيقاظها وتأسيس دولة عربية مركزها القاهرة محمد علي الكبير، وقل كذلك ابنه إبراهيم باشا. ولئن كان المشروع لم يتم فإن النواة قد وضعت في الأرض، وترك للزمن إنباتها وإحياؤها، وكيفما كان الأمر فإننا لا نرى في الشرق العربي منذ أيام إبراهيم باشا المصري حتى أواخر القرن التاسع عشر حركة جديدة للانفصال عن السلطنة العثمانية والاستقلال بكيان عربي منظم سوى تلك الحركة المباركة التي انبعثت في وادي النيل السعيد؛ لأنه ما من شك في أنه لم يكن لقطر عربي من الأسباب المهددة لظهور فكرة قومية عربية ما كان لمصر في القرن التاسع عشر؛ فهي أسبق البلاد العربية إلى إنشاء وحدة إدارية ذاتية، وحكومة شرعية صحيحة؛ بل هي أول تربة بعثت فيها الروح العربية الاستقلالية القدسية، بل روح العزة والكرامة والمجد كما يستدل عليه من سياسة إبراهيم باشا التي كانت ترمي إلى فصل بعض الأقطار العربية عن جسم الدولة العثمانية واستقلاله بها، فقد صرح (للبارون بوال كونت) بقوله: (ما أنا بتركي، بل أنا ابن مصر. إن شمسها قد غيرت دمي فجعلتني عربياً قحاً. . .).

وقد سارت مصر بعد ذلك بخطى ثابتة في ذلك السبيل فتأسست فيها عدة جمعيات عربية، ومنظمات سياسية تعمل للعروبة وللوحدة الكبرى؛ منها (الجمعية القحطانية) التي تأسست عام 1909، (والجامعة العربية) التي أنشئت سنة 1910، و (حزب اللامركزية) الذي تأسس في سنة 1912. وكذلك يجب إلا ننسى (جمعية العهد) التي أنشأها في الأستانة عزيز علي المصري يوم 28 أكتوبر سنة 1913 فقد خدمت القضية العربية كثيراً، وسنتحدث مفصلاً عن فضل مصر على القضية العربية وعن أثرها في الوحدة العربية يوم تخصص (الرسالة) الكريمة الكلام عنها ولكل حادث حديث.

المنظمات العربية

وكما تأسست في القاهرة جمعيات عربية تعمل للعروبة كذلك أنشئ في كل عاصمة من عواصم العرب: في العراق، والشام، والحجاز، واليمن، وفي كل بلد من بلدانهم ناد يضم الصفوة المختارة من أبناء العروبة. وكذلك على أثر إعلان الدستور العثماني سنة 1909 يوم تغير الحال غير الحال في البلاد العثمانية فأطلقت الألسنة من عقالها والأقلام من سجنها.

والواقع أنه لم يكن اغتباط العرب بالعهد الدستوري الجديد يقل عن اغتباط الترك؛ فقد ملئوا الجو هتافاً وصياحاً في بغداد والشام وغيرها، ونظم شعراؤهم القصائد، وحبر كتابهم المقالات، في التغني بمزايا العهد الجديد، وانضم رجالهم ومفكروهم من عراقيين وسوريين وحجازيين إلى الاتحاديين موالين ومؤيدين لاعتقادهم أن دولتهم ستجدد شبابها وتسترد مقامها، وأن الأمة العربية ستنصف، وكرامتها ستصان.

ولكن حينما بدرت بوادر الخلاف العنصري بين العرب والترك تحول الحال، إذ ظهر أن الاتحاديين يسيرون على سياسة قومية سداها ولحمتها تعزيز الجامعة الطورانية وتأييدها، وأن الفكرة العربية قد عفا أثرها؛ لذلك أقفرت أنديتهم وتفرق أنصارهم، وضعف نفوذهم، كما تخلى عنهم نواب البلاد العربية المؤمنون بالعروبة وأنشئوا كتلة مستقلة اتحدت مع النواب المعارضين للاتحاديين؛ وختم هذا الدور بإعلان الحب البلقانية في خريف عام 1912؛ وتألفت في خلال هذه الفترة جمعيات عربية عديدة كما قلنا، في مصر، وبغداد، ودمشق، وبيروت، والآستانة، لحمل مشعل الفكرة العربية، وتأدية رسالة العروبة، وتعزيز شأن العرب، وبعث الوعي القومي العربي، فأثرت هذه الجمعيات أثراً بليغاً في تكوين (الرأي العام العربي) وإليها يرجع معظم الفضل في إنشائه وإعداده بالتعاون مع الصحافة العربية في مصر والعراق والشام والآستانة؛ فقد ساعدت على تنمية الشعور القومي وإيقاظه وبعثه، كما ساعد الشعراء العرب بقصائدهم الحماسية والكتاب والخطباء بدررهم النثرية على خلق النهضة الوطنية العربية الجديدة.

وأهم تلك المنظمات العربية التي تأسست يومئذ هي: جمعية الإخاء العربي، المنتدى الأدبي، الجمعية العربية، (الفتاة)، الجمعية القحطانية، العلم الأخضر، حزب اللامركزية، جمعية بيروت الإصلاحية، جمعية العهد، مؤتمر باريس العربي، الجامعة العربية، النادي الوطني في بغداد، وجمعية البصرة الإصلاحية. ونتحدث اليوم عن هاتين الأخيرين فقط لأنهما نشآ في العراق وعملا فيه

الجمعيات العراقية

أما المؤسسة العربية الأولى في العراق فهي النادي الوطني في بغداد فقد أنشئ في الزوراء عام 1913 على أثر تأسيس حزب اللامركزية في مصر ليكون فرعاً له، وكان رئيس هذا النادي مزاحم الباجة جي صاحب جريدة النهضة العراقية أول جريدة في العراق خدمت القضية العربية الكبرى. وانتسب إلى هذا النادي كثير من الشباب العراقي المثقف، فنشر المبادئ القومية العربية وعززها. وكان يستظل بظل الزعيم العراقي حينئذ السيد طالب النقيب رئيس جمعية البصرة الإصلاحية الذي نشطه لإصدار جريدة النهضة فكان يصدرها مزاحم نفسه، فلما عطلها الاتحاديون الترك ولم يصدر منها سوى (12) عدداً وأمروا بالقبض على صاحبها فَرّ إلى البصرة ودخل في حمى السيد طالب النقيب

والمؤسسة العربية الثانية في العراق هي جمعية البصرة الإصلاحية التي أنشأها السيد طالب في مدينة البصرة، وقد كان يومئذ نائبها في مجلس النواب العثماني وأحد زعماء حزب الائتلاف، فانضم إليها عدد من كبير من رجالات البصرة وشبابها الناهض، كما انضم إليها أحرار العراق وزعماؤه المخلصون، فأصدرت جريدة النهضة في بغداد لتكون لسان حالها ولكنها لم تعش طويلاً كما قلنا. وحينما عقد مؤتمر باريس يوم الأربعاء في 18 يونيو عام 1913 في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر أبرق إليه في تلك الساعة السيد طالب الزعيم العراقي مؤيداً ومشجعاً، فخاف الترك العاقبة، ولذلك انتدبوا أحد رجالهم وهو القائمقام فريد بك وعينوه قائداً للبصرة، وناطوا به مهمة اغتيال السيد طالب؛ فجاء البصرة ومعه حاشية كبيرة فأسرع هذا وأرسل إليه من اغتاله. فرأى الترك أن من أرسل مصلحتهم الجنوح إلى المسالمة، فاستمالوا السيد طالب وأرسل إليه طلعت بك وزير الداخلية التركية يومئذ برقية مفرغة في قالب المجاملة، فأذاع على الأثر البيان التالي: (أعلن بكمال الفخر إلى عموم أهالي العراق (الولاية والملحقات) بأننا قد اتفقنا في أمر تشريك المساعي وكأننا روح واحدة، وجسد واحد، لأجل رفع شأن وشوكة حكومتنا السنية التي قدرت صداقتنا رسمياً، ولم يبق خلاف بيننا بأي صورة كانت، وقد زال ما كان من سوء التفاهم زوالاً قطعياً، وصرنا كتلة واحدة نعمل على سعادة دولتنا العلمية، ونسعى في محافظة وحدتنا العثمانية بكل قوانا حتى لا يبقى من فرد واحد، وللبيان حررت الكيفية وأعلنت في 7 ربيع الأول سنة 1332).

إلى هنا اكتفي اليوم بالبحث عن تطور (الفكرة العربية) وعن الجمعيات العراقية، وسأحاول في حديثي المقبل تصوير رجالات العراق الذين خدموا قضية العروبة، وحملوا رسالة (الوحدة العربية) وخاصة أولئك الذين اشتركوا في الثورتين: ثورة العراق وثورة الحجاز؛ وعملوا في الدولتين: دولة بغداد ودولة الشام، مع أقوالهم والوثائق والمستندات التاريخية التي تؤيد ذلك؛ فإلى اللقاء. . .

(دمشق)

نسيب سعيد

المحامي