الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 472/ترتيب القرآن

مجلة الرسالة/العدد 472/ترتيب القرآن

بتاريخ: 20 - 07 - 1942


للأستاذ أبو طالب زيان

في العدد 470 من (الرسالة) سؤال الأستاذ عبد الله رشيد الكاتب عن القاعدة التي رتبت السور القرآنية بموجبها. أو روعي في ترتيبها كبر السورة أو سبق النزول. والأديب يوّجه الأدباء والمفكرين لبحث هذا الموضوع الخطير أسوة بالمواضيع الفذّة التي تتناولها الرسالة الغراء. ونحن مع تقديرنا لصاحب الرسالة نرجو أن يتسع المجال لمناقشة هذا الموضوع، والاهتداء إلى نتائجه القويمة عليها الباحث الفطن، وتأخذ الناشئة إلى البحث النبيل والطريق المستقيم.

ولا بد لنا من لمحة يسيرة حول ترتيب الآيات قبل الخوض في ترتيب السور ليستبين للقارئ الغرض الذي يرمي إليه الباحث. فقد أجمعت الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على النهج الذي نراه اليوم في المصاحف كان بتوقيف من النبي ﷺ عن الله تعالى. ولا مجال للرأي والاجتهاد في هذا، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بآيات القرآن منجمة فيوحيها إلى النبي عليه السلام ويدله على موضع كل آية من سورتها، فكان عليه السلام يبلغها للصحابة، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها ويقول: (ضعوا هذه الآية في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا. وكان جبريل يعارضه بالقرآن في رمضان من كل عام مرة، فكان الرسول ﷺ يقرؤه في مدارسته له مرتب الآيات على النحو الذي نراه اليوم في المصاحف، حتى إذا تم نزول القرآن كانت كل آية مرتبة في سورها، وقد حفظها عنه الصحابة بترتيبها. فلما كان زمن أبي بكر وأراد جمع القرآن لم يكن عمله متناولاً لترتيب الآيات، وإنما كان مقصوراً على جمع القرآن بين دفتي مصحف واحد خشية عليه من التفرق والضياع إذا استمر القتل في حفاظه، ثم نسخ المصحف من عهد عثمان إلى عهدنا هذا مرتب الآيات كما تلقاها الصحابة عن الرسول صلوات الله عليه. وقد نقل الإجماع عن هذا كثير من العلماء منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر ابن الزبير في مناسباته. وروى ابن وهب عن مالك قال: إنما ألف قرآن على ما كانوا يسمعون من النبي ﷺ. ويؤيد هذا الإجماع ما ورد من النصوص الدالة على أن ترتيب آياته توقيفي، تفصيلاً وإجمالاً.

فمن هذه النصوص ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عثمان ابن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله ﷺ إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) إلى آخرها. فهذا الحديث صريح في أن جبريل علمه موضع هذه الآية من سورتها وكذلك كان دأبه في كل آية.

ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان ابن عفان (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً) نسختها الآية الأخرى فلن تكتبها أو تدعها. قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً من مكانه. فهذا الحديث صريح في أن إثباتها في مكانها من سورتها توقيفي، وأن عثمان وجدها مكتوبة في المصحف المنقول مما كتب بين يدي رسول الله ﷺ فلم يغيرها من مكانها لأن هذا أمر لا مجال فيه للرأي. ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: بإصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. فهذا الحديث يدل على أن آيات السور كانت مرتبة معلومة الترتيب في حياة رسول الله ﷺ. وكان معلوماً ما هو مقدم منها وما هو مؤخر؛ ولذلك قال النبي لعمر: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء فعين موضعها من السورة. وتلك الآية هي قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. . . الخ) ويدل على أن ترتيب الآيات توقيفي أيضاً ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءته عليه السلام لسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والنساء، وما ورد في البخاري من قراءته سورة الأعراف في صلاة المغرب. وروى النسائي أنه قرأ سورة قد أفلح المؤمنون في صلاة الصبح. وقد كان عليه السلام يقرأ هذه الصور مرتبة الآيات بمشهد من الصحابة فتلقوا عنه ترتيب الآيات. وما كان الصحابة ليرتبوا القرآن ترتيباً مخالفاً لترتيب الرسول وهم أحرص الناس على أتباعه. فثبت بهذه النصوص أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال فيه للرأي وعلى ذلك انعقد الإجماع، فليس لأحد أن يغير في ترتيب الآيات فيقدم بعضها على بعض فإن ذلك بدعة ضالة لا يجوز الإقدام عليها.

أما ترتيب السور وتقديم الطوال منها، تم تعقيبها بالمئين، ثم بالمثاني، ثم بالمفصل، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ وأشهر مذاهبهم في ذلك ثلاثة: الأول: أن ترتيبها كان باجتهاد من الصحابة. وقد مال إلى هذا الرأي الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، والقاضي أبو بكر في أحد قوليه.

الثاني: أن ترتيبها كان توقيفاً من رسول الله صلى الله علية وسلم ما عدا الأنفال وبراءة، فإن وضعهما في موضعهما كان باجتهاد عثمان رضي الله عنه ووافقه عليه الصحابة. ومن ذهب إلى ذلك البيهقي المحدث المشهور في كتاب المدخل، والسيوطي في كتاب الإتقان.

الثالث: أن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كان بتعليم النبي عليه السلام. وقد ذهب إلى ذلك جمع كبير من العلماء منهم أبو بكر بن الأنباري، والكرماني، والطيبي، وأبو جعفر النحاس وآخرون غيرهم. . .

استدل القائلون بأن ترتيبها كان باجتهاد الصحابة بأن مصاحف السلف من الصحابة كانت مختلفة في ترتيبها؛ فمنها ما رتبت فيه السور على حسب نزولها فجعل أوله سورة اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل. وهكذا إلى آخر السور المكية، ثم السور المدنية على حسب نزولها كالمصحف الذي نسبوه إلى علي رضي الله عنه. ومنها ما رُتِّب على خلاف ذلك كمصحف ابن مسعود الذي جعل أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران، وكمصحف أبي بن كعب. ولو كان ترتيب السور توقيفاً لما كان بينها اختلاف في ذلك.

وهذا الاستدلال ضعيف من وجهين: الأول. أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن ترتيب بعض السور كان معلوماً في حياة النبي. الثاني: أن زيد بن ثابت الذي أسند إليه عثمان رياسة الجمع الذين رتبوا مصاحفه ونسخوها قد شهد العرضة الأخيرة للقرآن، وعلم ترتيب السور من رسول الله ﷺ. وليس من المعقول أن يحدث من عنده ترتيباً للسور غير ما علمه من رسول الله لأن ذلك لم يكن من عادتهم، فلا بد أن يكون ترتيبه للسور هو عين ما سمعه من رسول الله، ولذلك لم يرتض المحققون هذا الرأي.

واستدل أصحاب المذهب الثاني على أن ترتيب السور ما عدا الأنفال وبراءة كان توقيفاً بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان كان رسول الله تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: (ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من أواخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يُبَيّن أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال. فهذا الحديث صريح في أنه وضع الأنفال وبراءة في موضعهما من المصحف كان باجتهاد عثمان، لأنه نسب وضعهما إلى نفسه ولم يسنده إلى رسول الله ﷺ - وأما ما عداهما من بقية السور فلا بد أن يكون عثمان قد أتبع فيه ما علم من الرسول صلوات الله عليه.

وقد نازعهم أصحاب المذهب الثالث في الاستدلال بهذا الحديث. أما من جهة سنده فقد قالوا إن الترمذي - وهو أحد رواته قال فيه إنه أحسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس: 1هـ: والجزء الحادي عشر من تهذيب التهذيب لابن حجر يقول: إن المحدثين اختلفوا في يزيد هذا هل هو يزيد بن هرمز المشهور بأنه ثقة أو هو غيره؟ ثم قال والصحيح أنه غيره. وقد قال علي بن المديني: ذكرت ليحيى بن سعيد قول ابن مهدي إن يزيد الفارسي هو ابن هرمز فلم يعرفه. وكفى بذلك دليلاً على جهالة حاله. وقال أبو حاتم فيه لا بأس به أقول؛ ومثل هذا الرجل الذي لم يعرف حاله لا يصح الاعتماد على حديثه الذي انفرد به في ترتيب القرآن.

وأما من جهة متنه، فإن التمسك به يثير غبار إشكالات نحن في غنى عنها، لأنه يدل على أن آخر الأنفال لم يكن معلوماً بيقين؛ وكذلك أول براءة، بدليل أن عثمان ظن أن براءة من الأنفال، ولذلك لم يضع بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يفتح باباً واسعة لشبهة فرقة جوزت الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك باطل باتفاق السلف والخلف. ويبعد جدًّاً إلا يبين الرسول آخر الأنفال وأول براءة. ويضعف التمسك به زيادة عما سبق أن رسول الله ﷺ عارض جبريل بالقرآن في آخر سنة من حياته مرتين، فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته؟ فالتحقيق إذاً أن وضعهما في موضعهما توقيفي وإن فات ذلك عثمان أو نسيه؛ وإن بسم الله الرحمن الرحيم لم تكتب في أول براءة، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من بقية السور.

واستدل جمهور العلماء على أن اتساق السور كاتساق الآيات كلاهما توقيفي بأنه ورد في أحاديث كثيرة أن ترتيب بعض السور في عهد رسول الله هو عين ترتيبها في المصاحف التي نسخها زيد بأمر عثمان. . . منها ما رواه البخاري عن ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: أنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي؛ فذكرها نسقاً كما أسفر ترتيبها في المصحف.

وروى البخاري أن عليه السلام كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ (قل هو الله أحد) والمعوذتين، فذكرها مرتبة كما هي في المصحف. وروى مسلم أن ﷺ قال اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران. فهذه الأحاديث وما شاكلها تدل على أن السور المذكورة فيها كان ترتيبها مسنداً إلى الرسول، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه عليه السلام قرأ القرآن كله بمشهد من زيد بن ثابت، وأن زيداً اختاره أبو بكر لجمع القرآن لقوة الثقة به، وكذلك اختاره عثمان رئيساً لمن نسخوه في المصاحف، تبينا أن هذا الترتيب الذي عمله زيد هو ما علمه رسول الله. . . وهذا ما يطمئن إليه القلب، وهو ما جنح إليه جمهور العلماء. . .

(للكلام بقية)

أبو طالب زيان