مجلة الرسالة/العدد 465/رسالة الطالب
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 465 رسالة الطالب [[مؤلف:|]] |
في الفلسفة الإسلامية ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1942 |
(مهداة إلى طلاب العرب في جميع الأقطار)
للأستاذ سعيد الأفغاني
(سلمني طالب في طريقي كتاباً باسمي ففضضته فإذا هم يطلبون مني أن أجيب كتابة على هذا السؤال: ما هي السبل التي ترونها ناجعة فيتجه إليها الطلاب ليكونوا الجيل الجديد: عماد البلاد الحقيقي؟ وقد آثرت نشره هنا في مجلة العرب تعميما للفائدة، وسلكت في الإجابة طريق التبسيط والمثل، متجافياً عن القواعد والنظريات، وكل ما يحول دون فهم الطلاب لها الفهم الجيد)
أراد أحد كبار المحدثين أن يختصر الطريق على طالب يتخرّج عليه في الحديث، فحفَّظه مدة عشر سنين أربعمائة ألف حديث بأسانيدها. فلما أتقن الطالب الحفظ وودع أستاذه قبل سفره إلى أهله، لم ينس هذا الأستاذ أن يخبره: أن هذه الأحاديث أربعمائة الألف كلها موضوعة لا تصح. فأسقط في يد الطالب وقال: (أضعتَ يا سيدي عمري في حفظ ما لا يصح. أساغ في ذمتك إهدار عشر سنين هن أنضر العمر؟). فابتسم الأستاذ، وهدَّأ من حزن تلميذه قائلاً: (لم يضع شيء، الآن يا بني أبصرت الطريق، وصرت آمناً عليك كل تدليس، مطمئناً إلى دخولك غمار هذا المجتمع الزاخر بالوضع والكذب والتلفيق، ولن تعجزك بعد هذا معرفة الصحيح)
أعجبتني طريقة هذا المحدث، ووضحت لي حكمة الأصوليين القائلين: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة). والخير في أن نحكم الوسائل السلبية لكل أمر قبل العناية بوسائله الإيجابية، وأن نعني بدفع الضار أضعاف ما نعني بجلب النافع. فهل من حرج علي إذاً، إن أنا عدلت عن بيان ما يجب لبناء الجيل الجديد إلى بيان أسباب إخفاقنا نحن أبناء الجيل الحاضر فلعل أول النجاح لأبناء المستقبل أن يتوُّقوا ما ارتطم فيه مَن قبلهم
تسألون - أيها الطلاب - عن السبل الناجعة في تكوين الجيل الجديد؛ ألا فاعلموا أنها سبيل واحدة فقط، خطوتها الأولى أن تتجنبوا ما تورطنا فيه نحن أبناء الجيل الحاضر، من عبودية لكل تقليد ضار في أخلاقنا وعاداتنا ونظمنا وتعليمنا. ولقد كان من أعظم الأسباب في إخفاقنا أمور ثلاثة: خلق منحل تستره دعاوٍ عريضة من الكمال والفضيلة والوطنية؛ وعلم مزيف كاذب خير منه الجهل الصريح؛ وفقر في وسائل كسب العيش من طرقه الشريفة، هو أحد المظاهر في فقدان الرجولة. لم يثبت لنا - ولا حكم للنادر - أثر نافع في باب من أبواب الجد، ولم نستطع أن نحرر مما غرسوا في أفكارنا فأكثرنا مقلدون ببغاوات.
فإن رأيتمونا بعد هذا - والعالم من حولنا يجدّ - أحلاس الملاهي والمقامر والحانات، مبددين فيها دم الشعب وثروته، نصف نهارنا ومعظم ليلنا، حاملين لأنظاركم أخنث الهيئات و (أميع الموضات) من تلميع وجوهنا وأحذيتنا وتصفيف شعورنا حتى إطالة أظافرنا. . . إن رأيتمونا كذلك فاغفروا لنا هذه الإضاعة وهذا الانتحار، فلعلنا ضحايا خطط خفية محكمة
لا تمقتونا على إهانة الخلق وتبديد الثروة وقتل الوقت ووأد الكرامة والرجولة، فما ينتظرنا من مقت الله والوطن أكبر من مقتكم.
لا تقلدونا، فإنكم مخلوقون لزمان غير زماننا، لزمان صعب كله جد، لا مكان فيه لغير المجدين العاملين. . . وما كان زماننا لعباً، ولكنا طبعنا على غرار واحد: أن نكون أطفالاً كباراً عالة في كل شيء، لا نهتف إلا بما يوحي إلينا، معطلين عقولنا وضمائرنا، أبواق دعايات نموهها بالعلم أحياناً، وبالنهوض بالوطن والدين أحياناً، ثم نروغ إلى حيث نؤدي الحساب ونأخذ الأجر ونتلقى التعليمات لنعيد تمثيل الدور كرة أخرى
منا الذين ورثوا الثروات الطائلة، ولم يكن آباؤهم قد أخذوهم بتثقيف ولا تهذيب اعتماداً على غناهم، فلما آلت إليهم الثروة كانوا على جهل تام بطرق تنميتها وحفظها فوكلوا أمر تدبيرها إلى مرتزقين خانوهم، وانصرفوا إلى حاناتهم ومقامرهم ومحال رذائلهم فما زالوا بها حتى خرجوا عن آخر قرش منها؛ وألحت الرذيلة، ولم يكن بدٌ من كسبٍ ما بعد أن ركبتهم الديون، وكان هناك من يحتاج إلى أسماء أسرهم الفخمة فباعوه ضمائرهم ومصالح وطنهم وكانوا شر قدوة لمن دونهم
ومنا الذين آلت إليهم الضياع الواسعة والقرى الغنية، فأنفوا المكوث فيها ومباشرة الأعمال الزراعية، والزراعة لا تدر خيرها إلا على من يمنحها جهوده كلها، وهؤلاء استكبروا أن يكونوا (فلاحين) كآبائهم وأرادوا أن يعيشوا (بكوات) فما زالت زراعتهم تخسر حتى رهنوا القرى والضياع في مصارف أجنبية، تخلق بيدها الرهن، ثم صاروا إلى مآل أرباب الثروات
ومنا الذين أرسلتهم أممهم ليأتوها بعلم الغرب وثقافة الغرب ومحاسن الغرب؛ وأنفقت عليهم من أموال فقرائها ومساكينها، ولم يمنعها فقرها من السخاء بالإنفاق، رجاء أن يعوضوا عليها بعلمهم وخبرتهم أضعاف ما خسرت. . . ثم رجعوا. . . فإذا بعضهم عمى عن ذلك كله، وأتانا بمفاسد الغرب وانحلال الغرب وأزياء الغرب وخموره ورقصه. . . وأنا أقسم غير متحرج، أنك لو طفت الغرب كله لما رأيت من يعكف على الملاهي والقمار والخمور عشر الوقت الذي يعكفونه. . . وهؤلاء - كما تعلم - أرباب أعمال لو قاموا بواجباتهم لما فرغ أحدهم لغير طعامه يلتهمه التهاماً، ونومه يقطعه تقطيعاً
ومنا الذين أخفقوا في أن يعرف لهم أثرٌ ما في علم أو أدب، وأصر عليهم من منحهم الوظائف والشهادات أن يذكروا بشيء من الأشياء، فراموا شهرة من أخصر طريق. وهل أخصر من أن ينكر امرؤ الوحي حتى يسمى بيننا مفكراً، ولو جهل أين ولد الرسول، وأين تقع مكة من الشام؛ أو أن ينتقص من النبي والخلفاء فيكون مؤرخاً، ولو اعتقد أن فاتح بغداد هو عمر ابن الخطاب؛ أو يشتم الدين فيكون حر الأفكار. . . فيشتغل بعض الطلبة بالرد عليه في الصحف، فيشغل الناس بأمره ولو ساعة من نهار
ومنا الذين إذا كانوا في وظيفة لم يفهموا ما يفهمه كل موظف في العالم المتمدن من أن الموظف أجير لأرباب المعاملات، إذا قصر في الواجب عليه كان خائناً كالأجير الذي يسرق الوقت المأجور عليه. . . فهم لا يفهمون الوظيفة إلا كرسياً ينتفخون عليه مصعرين خدودهم، بأيديهم لفائفهم يدخنون ويتماجنون، وأرباب المصالح وقوف يتألمون!
ومنا المتبطلون المأجورون لكل دعاية أجنبية: يروجون لها ويؤلفون لها الجمعيات والأحزاب. . . فمنا بحمد الله دعاة الفاشية والشيوعية والديمقراطية والدكتاتورية والإباحية، وما شئت من مذاهب ونحل ودول. . . كل ذلك يجد من يخدمه ويتعصب له وينافح عنه؛ فإذا رحت تبحث عمن يخدم قضية بلاده خالصة، رجعت خجلاً من ضآلة عددهم في هذا الخضم الزاخر!
ومنا الذين خرجوا من حيث يدرسون، تحلقوا حلقاً في حانات موبوءة، وخيمة الهواء، منتنة الريح، إلى جانب مدارسهم، على مرأى من طلبتهم، يلقنونهم بذلك أقبح المثل وأحط الأخلاق وأبذأ الوقاحات. . . حتى إذا كان للمعارف يوماً من الأيام وزير قوي الخلق غيور ذو نخوة، وأذاع على موظفيه بلاغاً يحظر فيه رجال التعليم ارتياد مباءات السقوط، أمضى هؤلاء البلاغ، وهرعوا من فورهم سراعاً إلى حاناتهم تلك، فشربوا نخب البلاغ معربدين معطعطين، وأصابت فيهم الوقاحة المتسفلة أحط دركاتها
أجل. . . أيها الأعزاء. . . منا كل ذلك، ومنا شر من ذلك مما لا أستطيع التصريح به. . . فإن كنتم لا تتوقعون من هذه الجراثيم الطفيلية خيراً، لا لأنفسهم ولا لبلادهم ولا لأمتهم، فهذا هو الذي وقع، وإن قدّرتم أنهم يأتون على أمتن القواعد من أساسها، فهذا ما أريد منهم، وهذا ما عصف ببنائنا من قواعده. وإن عزوتم ما في البلاد من كرامة وفضيلة إلى غمار الشعب وطلبته المعصومين وبعض خاصته المهذبين فأنتم على صواب
وإياكم أن تظنوا أن هذه السموم التي حملناها - شاعرين أو غافلين - هي محصول وطنكم، أو أن بلدكم مما ينبت هذه الرذائل، وفي فطنتكم غنىً عن التصريح، وصدق الله العظيم
وبعد، فاحسبني عددت - بأوجز لفظ - بعض الأسباب في إخفاق جيلنا، مما تسمح به الظروف، وعسى أن ينفّس الله الخناق فأعود ببعض التفصيل لما أجملت؛ فإن وقاكم الله - أيها الطلاب - هذه الشرور، وحمى جيلكم من هذه الآفات وتوابعها، كونتم بأيسر سبيل عماد البلاد الحقيقي قوياً سليماً
وإن كان لا بد من نصيحة إيجابية بعد ما تقدم، فهي في أن تأخذوا من مدينة الغرب أسباب القوة المادية كلها: في العلم والتنظيم والصناعات. . . أما غذاء أرواحكم وقانون أخلاقكم، فانشدوهما في تراثكم المجيد. . . وحذار حذار أن تخدعوا عما مدت لصرفكم عنه الأحابيل، وتنوعت المكائد، ولطفت الحيل، ودقت الأساليب، وخفيت الحظوات. . . ألا وهو: دينكم وثقافتكم؛ عُضُّوا عليها بالنواجذ، ففيهما - أيها الناشئون - كل قوتكم وعماد سلامتكم، أفراداً وجماعات. . .
لا تحيدوا عن سماحة القرآن وسمّو الإسلام وتعاليمه قيد شعرة، وكونوا في ذلك رجالاً كل الرجال
وتضلعوا جهد طاقتكم من تاريخكم المجيد ولغتكم الكريمة، ساميين عظيمين كما خلقهما الله، لا كما ينشرهما أبواق الدس من الجاهلين الأدنياء. . . وإن آنستم من بعض مرشديكم انتقاصاً لأبطالكم، أو تزهيداً في تاريخكم، أو تحقيراً لكريم تقاليدكم، أو تهويناً للغتكم، فانبذوا إليه على سواء، واعلموا أنه مأجور جاهل، فلا تهتموا به، فإنه يزاد أجره، ويعلى مقامه على قدر ما يحدث من فتنة أو ضجة. . . دعوه يمت بدائه، واعكفوا أنتم على دراسة تاريخكم ولغتكم ودينكم في دور الكتب منقبين ممعنين فلكم على ذلك أجر المجاهدين الصابرين
ثم لا تسمحوا لأيٍ كان، مهما عظمت مكانته أو طغت سطوته، أن ينال من هذه الثلاث: كرامتكم ورجولتكم وعروبتكم. . . فإنه لا خير لنا ولا لبلادنا في شاب: لا كريم ولا عربي ولا رجل!!
وكل ما أسأل الله: أن يعزكم ويعز وطنكم بكم، وأن يجعلكم ممن قال فيهم: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)
(دمشق)
سعيد الأفغاني