الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 465/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 465/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 01 - 06 - 1942


للدكتور زكي مبارك

أغرب ما قرأت - نهاية فلان - بين الكفر والإيمان

أغرب ما قرأت

في بعض الأحيان نقرأ أشياء تلفت النظر لسبب أو أسباب، ثم نراها أهون وأصغر من أن يجري القلم فيما تنطوي عليه من غرض بعيد أو قريب

وآفة الأدب العربي لهذا العهد أنه لا يلتفت إلى الجزئيات، بحجة أنها في الغالب من توافه الشؤون، مع أن الحوادث الصغيرة قد تضمر في طياتها متاعب خطيرة، ومع أن العقل يوجب أن ندرس جميع الأشياء دراسة نقد وتشريح

وأنا اليوم أسوق خبراً تافهاً جداً، وإن كنت أعتقد أنه أغرب ما قرأت، فما ذلك الخبر التافه الغريب؟

للشركات الأجنبية في مصر أسلوب ظريف في اختيار اللغة التي تعامل بها الجماهير، فهي تكتب باللغة العربية في حال، وبإحدى اللغات الأوربية في أحوال، فإن كان ما تكتبه نوعاً من الإعلان جعلته باللغة العربية ليفهمه الجمهور بلا عناء، وإن كان ما تكتبه متصلاً بالعقود جعلته بلغةٍ أعجمية، لتخفي دقائقه على أكثر الناس!

هذا هو الخبر، فهل ترونه من التوافه؟ وهل ترون أنه على تفاهته يستحق الالتفات؟

نهاية فلان

هو كاتبٌ فصيح يعرفه قراء اللغة العربية من أعوام طوال، ثم تحوّل فجأةً إلى كاتبٍ عاميّ اللغة والمذهب، فما سببُ هذا التحول المزعج؟

كان في بداية حياته الأدبية يرتاب في قدرته على الإنشاء الفصيح، فكان يبحث عمن يقومون عباراته، ويرفعون عنها آصار العُجمة والتهافت، وبهذه الخطة كانت ثقته بنفسه تضعُف من يوم إلى يوم، ثم رأى أن يتحرر من سيطرة المراجعين والمصححين فأعلن أن اللغة العامية أحسن اللغات وأنه سيجعلها لغته المختارة إلى أن يقضي الله في أمره ما هو قاض.

كان فلان ولن يزال من أهل الرأي وأصحاب الخيال، وكذب من ادعوا أنهم قولوه ما لم يقُل وأنهم مصدر الوحي لأدبه الجميل

فهل نرجو أن ينظر فلان من هذه الكلمة الخالصة لوجه الأدب والحق، فيكتب اللغة الفصيحة على سجيته وفي حدود ما يطيق ليصبح بعد قليل وهو من أساطين البيان؟

فلان شخصية كريمة الجوهر، وضياعُها على الأدب الفصيح ضربٌ من الخُسران، فهل يرفق بنفسه فيروضها رياضةً جديدة على أساليب الفصحاء بلا تكلف ولا افتعال؟

القليل من وحي الطبع أجدى وأنفع من الكثير المصنوع، فارجع إلى طبعك يا فلان، وانتفع بما فيه من ثروة أصيلة، قبل أن يصعُب انتشالك من هُوّة مذهبك الجديد، صانك الله وحَماك!

بين الكفر والإيمان

قِيل وقيل: إن الأدب سيجوز فيه ما يجوز في جميع الصناعات، فيحترفه من يشاء حين يشاء، ولو كان صغير الرأس أو نحيل الوجدان

وأقول: إن الأدب شريعة ربانية لا يصلُح لها غير المصطفَين من أرباب القلوب، فمن العسير أن يضاف إلى أهل الأدب من لا يخطُ حرفاً إلا وهو مَسُوقٌ بإرادة خارجية، على نحو ما يصنع الفارس الذي رسمتْه يد البهلوان في أحد الأشرطة السينمائية

الأدب إيمانٌ وثيق لا يعرف الأشخاص ولا الأزمان ولا الظروف، فليس بأديب من يفرح لأن صدراً يحتضنه بلؤم أو بشوق، ليجعل من أنامله أداةً يلتقط بها الأشواك، وليس بأديب من تخدعه الخوادع الوقتية، فيتوهم أن الخلود نعمةٌ يجود بها أهل الفناء

الأدب فوق ما يتوهم الأصاغر من طلاب المنح الذواهب، الأدب قوةٌ ذاتية يتوحّد بها صاحبها توحد الليث، فليس منا من يرى الحياة أو الجاه في التشرف بخدمة هذا المخلوق أو ذاك، وليس منا من يعقّ إخوانه ليظفر بالزاد المأدوم بالزور والبهتان. . . الأدب الحق منحة ربانية يجود بها الله على أرباب القلوب

زكي مبارك