الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 46/بين المعري ودانتي في رسالة الغفران

مجلة الرسالة/العدد 46/بين المعري ودانتي في رسالة الغفران

مجلة الرسالة - العدد 46
بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 05 - 1934

5 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة

بقلم محمود احمد النشوي

لقد وعدنا في العدد الماضي أن نذكر أحراس الجحيم من الشياطين في خيال دانتي. وفي الحق انه افتن في وصفهم. وجعل منهم أولى أذناب يطوقون بها المعذبين مثنى وثلاث ورباع. وآخرين في صورة كلاب تعددت رؤسها وأفواهها. وجعل منهم من يصرخ ويصيح بصوت تنبو عن جرسه الأسماع. .

جمهرة من المردة استغل الشاعر مواهبه إلى أقصى حدودها في وصفهم محتفلا بذلك الوصف حتى جعل لهم مدينة تخصهم لا يلجها سواهم ففي بعض طبقات الجحيم، وعلى ضفاف نهر اكرونتي يقف الشيطان بزورقه ينقل فيه المعذبين من مكان إلى مكان ضاربا بمجدافه كل من أبطأ به ضعفه أو تمرده. وفي بعض جنباتها يرى الشيطان شربيرو في زي كلب ضخمت جثته، وتعددت رؤوسه وأفواهه ترسل الصراخ والنباح عاليا تنكره الآذان. وفي بعض نواحيها يرى الشيطان بلوطو ملحا في هذيانه بصوته الذي لا تبين نبراته. ويبعث رنينه في القلوب الفرق والرعب والهلع. ثم يحدثنا مرة أخرى عن شيطان له زورق يعبر عليه أهل النار بركة سوداء قاتمة يتقلب في أوحالها وأقذارها المتكبرون والحاسدون. ذلك الشيطان هو حدثنا عن الشيطان مينوتاورو الذي تراءى في ظلمات الجحيم متخذا هيئة ملفقة من الإنسانية والحيوانية نصفه ثور ونصفه ادمي إلى كثير من زبانية ومن شياطين افتن شاعر الطليان في وصفها افتتانا جعله يختصها بمدينة (ديتي تلك التي اشرف دانتي منها على أبراج وقباب يلفحها لهب الجحيم. وينعكس عليها ضوء النيران. ولم يكد يخطو نحوها يريد اختراقها حتى اعتراضه ألف من الزبانية يحتجون على دخوله مدينتهم واختراقه حرمتهم. ولقد كانت الشياطين كلما اعترضته في طريقه أو أرادت إلحاق الأذى به هرع إلى فرجيل فاستنصر به، فأقنعها فرجيل بالإرادة السماوية التي تأمره بالمسير فخلت له السبيل. بيد ان المردة من (ديتي) أبوا إلا إعراضا وعصيانا فأغلقوا من دونه أبوابهم، فوقف الشاعر مشدوها يعجب لمئات الشياطين من حوله. ولثلاث من إناث الجن وقفن فوق اكبر البروج مولولات صائحات. وليس خضابهن الحناء يصطبغن بالدماء. وتدور على أوساطهن الثعابين وتنسدل على أعناقهن ورؤسهن الأفاعي مكان الشعر متكاثفة يركم بعضها بعضاً. ولا زال دانتي تحيط به المرعبات من كل الجوانب حتى جاءه ملك كريم أهوى نحو الشياطين بعصاه ففتحت له أبوابها. واخترقها دانتي ذاهبا لطيته واستكمالا لرحلته بين حراس الجحيم وعذاب العاصين مسهبا في الحديث عنهم. بيننا المعري لم يسهب في وصفهم فلم يكن له غرض في ذلك بله الافتتان فيه فهو لم يرد ذكر لعصاة والمجرمين يصف للناس عذابهم عظة وذكرى حتى يفتن في وصف ذلك العذاب. وفي وصف الزبانية والأحراس الموكلين بالعذاب وإنما هو رجل لغة وأدب وشعر. يتلمس الطرق الشائقة ليبرزها طريفة محببة للنفوس. فلم يعرض لخزنة النيران إلا قليلا على حين أنك ترى دانتي همه وصف المجرمين والخائنين: خائني أوطانهم وإخوانهم وأهليهم، معملا خياله فيوصف المعذبين، وفي وصف الموكلين بعذابهم حتى ينفر الناس من الخطيئة، ويتجافوا عن المعصية.

إبليس في الروايتين

ذكر الجحيم يتتبع ذكر إبليس. وإبليس رمز الشر حتى عند عبدة الشيطان، فهم يعبدونه اتقاء لشره. فتحدث عنه المعري ولم يغفل دانتي ذكره. وكلاهما صورة في آلامه وأوصابه وفي عذابه وما يلاقيه. بيد أنك إذ تقرا وصف المعري له تغرق في الضحك وتعلم أي سخرية بلغها أبو العلاء. وأي دعابة اغرق فيها رهين المحبسين. وتعلم من بعد ذلك ان صاحب رسالة الغفران هو اشد كتاب العربية جرأة على ما لم يجروء عليه أحد غيره.

وسأنقل إليك ما ذكره عن إبليس متدرعا بالشجاعة أنا الآخر حتى في النقل، ولولا ان واجب الموازنة يضطرني للنقل. ولولا أن حاكي الخبر ليس بمسؤول عنه، لضربت صفحا عما سطره المعري عن ابليس. فقد ذكره وهو يحاور ابن القارح يسائله عن صناعته ويذم له حرفة الأدب. ويسائله عن أعمى البصرة بشار بن برد ذي اليد عليه كما يقول حين فضله على آدم. ثم يستفتيه في تحريم وتحليل. . وفي أحكامفقه ودين. . .

فدونك ذلك القصص أكتبه واترك للقارئ تفهم ما تحدث به المعري في خلاله. وقال المعري محدثا عن ابن القارح (ثم يطلع على أهل النار فيرى إبليس لعنه الله وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل، ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزبانية، فيقول الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله وعدو أوليائه، لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلا الله، فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان من أهل حلب. كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك، فيقول بئست الصناعة إنها تهب غفة من العيش لا يتسع بها العيال، وإنها لمزلة القدم وكم أهلكت مثلك، فهنيئا لك إذ نجوت، فأولى لك ثم أولى لك، وان لي إليك حاجة فان قضيتها شكرتك يد المنون، فيقول: إني لا اقدر لك على نفع، فان الآية سبقت في أهل النار، اعني قوله تعالى (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا أن الله حرمها على الكافرين) فيقول: إني لا أسألك في شيء من ذلك ولكن أسألك عن خبر تخبرنيه، أن الخمر حرمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة، أما شغلك ما أنت فيه؟! أما سمعت قوله تعالى (لهم فيها أزواج مطهرة وهم خالدون). .؟

فيقول: وان في الجنة لأشربه كثيرة غير الخمر فما فعل بشار ابن برد؟ فان له عندي يدا ليست لغيره من ولد آدم، كان يفضلني دون الشعراء، وهو القائل

إبليس افضل من أبيكم آدم ... فتبينوا يا معشر الأشرار

النار عنصره وآدم طينة ... والطين لا يسمو سمو النار

(لقد قال الحق: ولم يزل قائله من الممقوتين)

في تلك الصورة الهازئة الساخرة يرسم لنا المعري إبليس تضربه المقامع. ويضطرب في الأغلال وهو لا يني يسأل ابن القارح تلك الأسئلة السفسطية من ناحية، البذيئة من ناحية أخرى. ولكن المعري جمع به خياله في تلك الليلة النبوية فتكشف عما ترى

ودانتي بماذا وصف إبليس؟ وماذا تخير له من طبقات الجحيم؟ وعماذا سأله؟

لقد تخيله تعصف به الثلوج في ظلمات السعير. ويهلكه لزمهرير في الهاوية. وهو فيما بين الثلوج والعواصف كطاحونة الهواء تقلبه الرياح كيفما أرادت.

ثم اختار له الدرك التاسع من جهنم وهو اسفل طبقتها واشدها هولا وبلاء.

ولم يسأله في الأدب ولا عن أحد الشعراء ولا عن أحكام تحليل وتحريم. ولم يكن له سعة اطلاع المعري حتى يدخل في نحو ذلك النقاش. بل انساق يعلل ما أحاط به من عذاب اليم بأنه كان ملكا صوره ربه فاحسن صورته، وأعطاه جمالا يفرع فيه كل مخلوق بيد نفسه المليئة شرا وخبثاً جعلته يسرف في الغرور حتى تمرد على ربه فطرده من جنته وبقي طيلة عمره مذءوماً مدحورا وله في الآخرة عذاب شديد.

يتبع

محمود احمد النشوي