مجلة الرسالة/العدد 46/استيلاء المغول على بغداد
→ مختار دائما. . .! | مجلة الرسالة - العدد 46 استيلاء المغول على بغداد [[مؤلف:|]] |
بين المعري ودانتي في رسالة الغفران ← |
بتاريخ: 21 - 05 - 1934 |
لنصير الدين الطوسي
صفحة تاريخية لم تنشر
ذكر الؤرخون على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم (حادثة سقوط بغداد) على يد المغول وافردوا لها المجلدات الضخام، ولكن الأمر الذي يستحق الاعتبار اكثر من كل شيء هو ان نقرا تفاصيل هذه الحادثة بقلم البحاثة (الخواجه نصير الدين الطوسي) الذي رافق الحملة التترية إلى بغداد وحضر الواقعة بنفسه وكتب ما رآه وما سمعه بدون تحزب كما سيتضح لك من هذه الوجيزة التي أخرجها حديثا من بين رسائل العلامة الطوسي الخطية (رسول النخشبي) أحد كتاب إيران، رأينا ان نرسل بترجمتها للرسالة لأهميتها أولا ولمناسبة ما أورده الأديب فرحان شبيلات في عددي الرسالة 33 - 34 - ثانيا (لما عزم السلطان (هولاكو خان) على أن يلج بلاد الملاحدة (الباطنة) سير من قبله مندوبا إلى الخليفة ليطلب منه النجدة حتى يستأصل بذلك شأفتهم ويمحو سطوتهم فبلغ الرسول الخليفة فحوى الرسالة بقوله يقول السلطان. . (إننا بعاداتنا البدوية وأسسنا القومية نستنجد بموالينا على أعدائنا، وبالنظر إلى الحب والولاء القائم بيني وبينك أرجو معونتنا بخيلك وإمدادنا برجلك، حتى ندرأ شر هذه الفئة الباغية التي أريقت بكيدها الدماء وأزهقت بغدرها أرواح الأبرياء) فاختلي الخليفة بحاشيته وائتمر مع أصحابه، فأجابه الجمع من الجنود والأمراء، بأن (هلاكو) يريد بهذه الحيلة إخلاءبغداد من العدد والعدة لتصبح في وجهه مفتحة الأبواب، خالية من الخيل والركاب، فيستولي آنئذ على المدينة بلا توجس خوف وارتياب، ونمسي على ما فعلنا نادمين. فانصاع الخليفة لرأي الجلساء وتواني في إمداد السلطان ورجع الرسول إلى سيده بخفي حنين.
ولما أن فرغ السلطان من فتح بلاد الملاحدة عائب الخليفة عتابا مرا وانذره إنذارا أليماً، فارتأى الخليفة أن يستشير وزيره - العلقمي - فأشار عليه هذا أن يحمل ما في دار الخلافة من فاخر الأثاث وزخرف الرياش على البغال المسرجة والخيل الملجمة ويقدمها هدية للسلطان، وينجو بهذه الواسطة مما يوشك أن يحدث في ملكه من التدمير والهوان، فقبل الخليفة ما شار الوزير إليه وأمر بتسجيل ما يلزم انتقاءه من الأشياء، وعين لإيصالها نفر من أركان دولته لعرض المعذرة عند تقديم الهدية، فاجتمع أحد الأمراء المدعو (الدوات دار الصغير) مع عدة من صحبه وقال لهم إن هذه مكيدة أراد بها الوزير قتل أعواننا ونهب أموالنا، فإذا جيء بالأموال إلى ظاهر البلد ننقض عليها برمتها ونستنقذهالتكون ذخرا ليوم شدتنا، فنمى الخبر إلى الخليفة واضطر إلى إبدال الكثير بالقليل، والوافر اليزر، فاغتاظ السلطان وأرسل إليه أن يحضر بنفسه أو أن يبعث إليه أحد الذوات الثلاثة: الوزير أو الكاتب أو سليمان شاه، فتواني الخليفة في إنجاز ما أراد السلطان أيضا، فاشتد من اجله غضب السلطان وعقد النية على فتح بغداد، فأرسلالخليفة الأزبكي مرة وابن الجوزي بن محي الدين مرة فارتدا خائبين. لأن السيل قد بلغ الزبى، وحان الوقت الذي لا ينفع فيه الندم.
ففي شهر شوال سنة 655 هـ نهض السلطان - هلاكو - من همدان موليا وجه شطر قاعدة الخلافة العباسية. على أن الأمير (صوغنجاق) والسردار (تايجنوئين) كانا قد ذهبا مع مقدمة الجيش الأيمن على الميمنة مما يلي أربيل عن طريق جبال (شهر زور) كما أن القائد (دقوق) وزميله (كبد يوقائين) و (انكتانوئين) كانوا على الجناح الأيسر من الميسرة التي زحفت إلى (تكريت) و (بيات) وكان فيلق القلب من الجند السلطاني تحت أمرته الشخصية يسير من كرمنشاه وحلوان إلى بغداد. هذا وقد سار (الدوات دار) من بغداد بجيش الخليفة وأتى إلى بعقوبة فخيم بجوارها. أما السلطان فكان قد أوعز إلى أحد قواده المدعو (تايجورا) أن يعبر دجلة ويدخل بغداد من جانبها الغربي - وقد تخلى هو عن رحله وسرادقه عند ما وصل حلوان وخرج منها بسرية من جيشه، وأول حادث حدث هو أن طلائع الجيش الملكي أسرت طليعة من جند الخلافة، ولما مثلوا بين يدي السلطان اقسموا الإيمان المغلطة على أن يخلصوا الخدمة من يومهم للملك ويؤدوا له ما يجب عليهم من الصدق والامانة، وكان في جملتهم أمير من بقايا الملوك الخوارزشاهية فأرسل هذا كتابا من قبله إلى العسكر العباسي مخاطبا به (قرانسقور) أحد أمراء جيش الخلافة بالعبارة التالية: -
(إنني وإياكم من جنسية واحدة، وأديت الطاعة واتصلت بالخدمة فصرت من المكرمين، فإذا ارتم أن تبرئوا أنفسكم وتشفقوا على أرواحكم فاعتصموا بحبل الطاعة وتمسكوا بذيل العبودية لأني لكم من الناصحين.) وبعدما قرأ (قرانسنقور) الكتاب أجاب الأمير المذكور بما يلي: - (متى صارت لهلاكو تلك المكانة التي يتمكن بواسطتها بلوغ هذه الغايات، ولعمري ان هذه الدولة (العباسية) قد شاهدت كثيرا من أمثاله وأقرانه، هذا وان مجيئه بهذه الصورة إلى بلاد الخليفة وتدميرها بهذه الصفة لدليل على انه يريد في الأرض علوا وفسادا، وان أراد غفران ذنوبه وقبول أعذاره فليرجع إلى همدان حتى أتشفع له بواسطة (الدوات دار) لدى الخليفة ليعفو عما سلف منه)
وبعد ما وقف السلطان على فحوى الرسالة ضحك ضحكة المتهكم وقال (نعم الأمر بيد الله وانه فعال لما يشاء) وبعد ما عبر القائدان دجلة ظن البغداديون إن هذه الجيوش والعساكر ما قطعت النهر إلا تحت قيادة هولاكوخان الخاصة ونمى الخبر إلى (الدوات دار) فقفل راجعا من بعقوبة إلى بغداد، وعبر دجلة فالتقى (بصو غنجاق) الذي كان في مقدمة الجيش المغولي، ووقعت بينهما معركة انكسرت فيهما عساكر (صوغنجاق).
وإلتجأ الأخير إلى الفرار، ولكن الذي حصل لعسكر (الدوات دار) عند اشتباكه بالحرب مع (تايجونوئين) القائد الثاني دعا لضياع النتيجة، ضاقت عليه الأحوال فآب (الدوات دار) راجعا بجمعه المتفرق إلى بغداد.
أما السلطان فامتطى جواده وعبر (ديالى) مع جمع من عسكره إلى أن بلغ ظاهرة بغداد في منتصف شهر محرم سنة ستمائة وست وخمسين، وأرسل (بوقاتيمور) مع جيش ليحط من جانبها الغربي، وأمر أن يقيم الجند حائطا يحتضن المدينة من كل الجهات ثم نصبت عليه المجانيق وهيئت المؤن والمعدات اللازمة للحرب والقتال.
ولما أحس الخليفة بذلك اجتمع بأصحابه ليتشاورا في الخطب، فقال بعضهم إذا أردنا أن نقدم لهم الهدايا الفاخرة ونفتدي المدينة بالدرهم والدينار فعسى أن يحملوا هذا دليلا على الخوف والهوان، والأصلح إيفاد الوزير (صاحب الديوان) مع (ابن الدربوس) بقليل من التحف والرياش فاستحسن الجميع قوله فلما احضر صاحب الديوان وزميلاه إلى السلطان قال: لماذا لم يحضر عندنا (سليمان نشاه) و (الدوات دار)؟ فاجيب بان السلطان كان قد كتب للخليفة أن يبعث واحد من هؤلاء الثلاثة فأرسل الخليفة الوزير الذي هو أكبرهم، فقال السلطان نعم. ولكن أردت ذلك في همدان، وهاأنذا في بغداد، هذا وبعد أحد ورد ظهرت بوادر القتال ظهورا تدريجيا، وابتدأت العساكر المغولية الحرب في 22 محرم وحمل السلطان بنفسه على بغداد من جانبها الشرقي تجاه برج العجم، وحاربت عساكر (كبة بوق) بالسهم والنشاب، وكان القائدان (بلغاي) و (سناي) يتقاتلان في الجانب الأيمن لمدينة. وأما (بوقاتيمور) فانه انهال بجيشه على بغداد من الجانب الغربي في ارض كانت تعرف حينذاك بـ (روضة النقل)، أما (تايجونوئين) و (صوغنجاق) فقد احتوشا المدينة وزحفا عليها مما يلي المارستان العضدي، ودام القتال الشديد لمدة ستة أيام بلياليها، وأمر السلطان أن ترسل ست رسائل بواسطة النشاب لجماعة السادة والعلماء والأركان والمشايخ وغيرهم ليفهموهم بأن الجيوش المغولية لا تتحرش بهم أن القوا السلاحهم وكانوا في حياد. وما بزغت شمس يوم الثامن والعشرين من شهر المحرم إلا وتمكن العسكر المغولي من الاستيلاء على برج العجم، وقبل صلاة ظهر ذلك اليوم تم النصر للمغول باندحار البغداديين اندحاراً عظيماً ووقوع المدينة في قبضة التتر، وكان قد أرسل السلطان وحدات من جيشه للحراسة على دجلة من أعلاها إلى أدناه وللقبض على الذين يريدون الفرار واتفق أن صادفوا ثلاث سفن تحمل أثاث (الدوات دار) وشيئا كثيرا من أمواله وسلاحه وغير واحد من رجاله وصحبه من جملتهم نقيب العلويين، فأوقفوها عن السير برشاشات النفط النارية، ولما تمكنوا منهم قتلوهم جميعا حتى النقيب العلوي وصادروا جميع ما فيها من المحولات، هذا وقد أمر السلطان أهل بغداد ان يشتركوا جميعهم بهدم الدور التي تحيط بالبلد، وبعد ما أعلن السلطان العفو العام استأذن الخليفة السلطان للخروج من بغداد لأنه تحقق من نفسه وجيشه الضعف الكامل وانه باء بالفشل المبين. والخلاصة ان الخليفة قابل السلطان في (باب كلواز) بجمع حاشد من السادة والأئمة والمشايخ والأركان وهذه هي المقابلة التي كانت تعد آخر يوم من أيام الخلافة العباسية.
ثم صدرت أوامر السلطان ان يبادر الجند بنهب المدينة وغزو ما فيها من الأموال. وفي يوم الأحد الموافق لرابع شهر صفر سنة 656 هـ دخل السلطان المدينة وولج القصر العباسي ثم دخل الغرفة التي كانت معدة لجلوس الخليفة عند ما يريد القراءة والكتابة وكان الخليفة حاضرا هناك مع نفر غير قليل من العلماء والإشراف، فتقابل السلطان معهم وتكلم بعد ذلك مع الخليفة وقال له أين الهدايا؟ فأحضرت له فقسها بين رؤساء الجند وقادة الجيش، ووضع السلطان طبقا ملؤه الذهب الإبريز الخليفة وقال له تقدم وكله لسد جوعك، فقال الخليفة ليس هذا مما يأكل الإنسان! فقال السلطان إذن ما ضرك لو كنت قسمته على أعوانك وجيشك ليكون وسيلة لقوة أمرك وداعيا لنصرتك؟ ولم لم تخلع هذه الحدايد التي غلقت بها هذه الأبواب لصنعوا منها سهاما تمنع عبور أعدائك من الجيحون (دجلة)؟ فأجابه الخليفة كل ذلك كائن بتقدير الله، فقال السلطان نعم وغن الذي سيجري عليك يكون بتقديره أيضا. ثم أمر السلطان أن تدخل النساء اللواتي باشرهن الخليفة أو ولده بقصر دار الخلافة، وأذن بدخول الوصائف والخدم أيضا، وأحصيت فكانت (700) امرأة و (1300) وصيف وخادمة. وبعد أسبوع أعلن آلام العام وجمعت الغنائم والأسلاب.
وفي اليوم الرابع عشر من صفر خرج السلطان من المدينة وأمر بإحضار الخليفة بظاهرها فاحضر مع ابنه الأوسط وخمس أو ست من خدمه الخصوصيين فوقعت الواقعة وصار ما صار وانتهت آخر أيام الخليفة العباسي في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي قتل نجل الخليفة الأكبر وشتت بعد ذلك شمل الحرم والنساء فتفرقوا أيدي سبأ. ثم أيمر السلطان بعد ذلك بتعمير بغداد ودفن أجساد البشر والحيوانات التي كانت مطروحة في الطرقات بعدما نصب الوزير - ابن العلقمي - للوزارة وصاحب الديوان لديوانه، وأعطى إمارة الجيش لبن الدربوس وسلم إدارة الشرطة في بغداد لرجل يدعى - استونها - وبعد ذلك رحل من بغداد إلى حيث يريد محفوفاً بهالة من النصر،
وكان السلطان قبل رحلته من بغداد سير (بوقاتيمور) بحملة أخرى لإخضاع الحلة وواسط فخضعتا وتوجه (بوقاتيمور) بعد ذلك نحو مدينة (تستر الأهواز) بقصد الاستيلاء عليها ورافقه شرف الدين بن الجوزي إلى هناك.
وأما الكوفة والبصرة فانهما أظهرتا الخضوع بلا أدنى حرب أو مقاومة.
كربلاء
عباس علوان الصالح