مجلة الرسالة/العدد 449/العام الهجري
→ من وحي النبي | مجلة الرسالة - العدد 449 العام الهجري [[مؤلف:|]] |
بطولة محمد ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1942 |
عبرة العبر
للأستاذ عبد العزيز البشري
هذه الشمس تطالع العالَم بجفنيها من جانب الأفق. وما تلبث أن تتسلَل منه رويداً رويداً، حتى يَستوي لإطارُها على متنه. وما تزال في خلال ذلك تضاعف ما ترسل على وجه الأرض من خيوطها العسجدية. وكذلك ما تزال تمطُلِ فيها وتبسُطها من الشرق إلى الغرب. وهكذا تظَلَّ تحبو في مَدرَجها إلى قبةَ الفَلَك. وكلما خطت بالزمن خطوة، رأيتها وتترعرع، ويسطع ضوؤها، ويحمَي وهجها إلى أن تبلغ الندوة، وتستوي على أعلى الأَوج.
وأنت خبيرُ بأنه ليس بعدَ الصعود إلاّ الهبوط، فهذه سنة الله تعالى في كونه؛ وكذلك تجري سنَتُه على هذا الكائن العظيم؛ فليس بعجيب أن يَدعو الفلكيون هذه اللحظة، أعنى لحظة استواء الشمس في أعلى الأوج بالزوال، إذ كان بدء الزوال، هو غاية الكمال!
وهذه الشمس تمشي إلى الغروب في منحدرها كذلك رويداً رويداً، كما تتداخلها الشيخوخة فالهرم رويداً رويداً؛ حتى إذا أصفر لونها، وبردت السنُّ من جرمها، جعلت تَتدلى في قبرها من مغرب الأفق مستمهلةً مستأنية؛ وهكذا تغيب في أحدها، غير تاركة من التَّراثِ إلاّ صُبابةً من الذهب المذاب، سرعان ما تتبخّر في حلك الظلام. وقد تترك تراثها الفضيّ على صفحة القمر، يرفد العالمَ به بعض ليالي الشهر.
تلك سيرة الشمس كلَّ يوم: ميلادٌ فترعرع ففتوّة، فشبابٌ وفراهة وقوة، وكهولة فشيخوخة فهرم، فتدسٍ في النهاية تحت الرجَمَ. وسبحان الحيّ الذي لا يموت!
على أنها في جميع مراحل حياتها عاملةٌ جادة جاهدة، لا تني عن السعي لحظة واحدة. فها هي ذهِ تَستنبت الأرض، وتزُكي الزرع، وتبسَّق الشجر، وتنضج الثمر، وتفتَّح من أكمامه الزهر. ثم هاهي تي، في عنفوانها، ما تفتأ تجتذب البخار، عذباً سائغاً من أجاج البحار؛ حتى إذا انعقد سحاياً، سَحّ فأخَضل قفراً وأعشب يباباً. وهذه الأنهار الجارية سمُوتُها في أقطار الأرض، تبعث أسباب لكل متهيئ للحياة. وكذلك لا ننس أنها تبرح تعمل عاَّمة النهار، في تطهير الأرض مماَ يَعلق بجسدها من الأخباث والأوضار.
فأي عنصر، لعمري، من حياة هذا العالم يمكن أن يغني عن الشمس؟ ألا أنها لمصدر الحياة جميعاً؛ فحق للعالم أن يقول: إنما الحياة الشمس، وإنما الشمسُ الحياة!
أيتها الشمس! ما أحسنك وأجملك، وما أطيبك وأكرمك!
تعملين لأول الدهر إلى غاية الدهر، في غير ونيً ولا سأم، ولا ضجر ولا بَرَمَ، ولا صلف ولا استعلاء، ولا زهو ولا كبرياء. . ولو شاء الله لأهلك بحرك بعض الأقوام، ولو قد شاء لأهلك بطول حجبك جميع الأنام!
وبعد، فما أخلق الذين يمسهم حظ من المجد في هذه الدنيا، والذين يمسون صدراً من السلطان فيها أن يبتغوا لسيرهم من سيرة هذه الشمس أعلى المثل. فيعلموا كل في محيطه للنفع العام في جد وداب، مؤمنين كل الإيمان أن الموهبة والسلطان إنما ينبغي أن يكونا ملكاً خالصاً للمجموع لا لأحد من الناس ولا لشيء من الأشياء.
على أن مما يفجع حقاً أن كثرة من هؤلاء الذين ينالون مجداً ويولون سلطاناً سواء أكان أقام من ثم لهم هذا في جماعة أم في شعب أم في شعوب - سرعان ما ينسون كل شيء لأن الأثر قد ملكت من نفوسهم كل شيء. فنفوسهم هي المبدأ، ونفوسهم هي الغاية. حتى إذا أجالوا الفكر في منافع الجماعات، فلا لأنهم يؤثرون لهذه الجماعات نفعاً أو يبتغون لها خيراً، بل لأنهم إنما يطلبون من هذا السعي مراماً لأنفسهم لا لشيء آخر، قد يكون هذا المرام، في أعف الصور هو إحراز المجد. أما ما يقع من خير المجموع، أو ما يحتمل أن يقع، فليس أكثر من طريق! وكيفما كان الأمر، فإنه ما يكاد أحد هؤلاء يحس مجده ويستشعر سلطانه، حتى يَوْرم أنفه، ويتداخله من الصلف والمخيلة ما يملوه اعتقاداً بأن الرأي في الأمر ليس إلا ما يرى هو، وأن ما سواه لا صلاح له ولا خير فيه، بل لقد يكون كله شراً وفساداً.
ولقد يشتدّ طغيان هذه الَخلَّة على المرء، فيرى أن الناس لا ينبغي أن ينظروا إلا بعينه، ولا يسمعوا إلا بأذنه، بل إنه ليرى أن من العبث الضار أن يجري فكرهم بغير ما يجري به فكره، وأن تنتهي آراؤهم على غير ما ينتهي إليه رأيه. فإذا خالفه امرؤ إلى غير هذا، كان بين اثنين: إما ملتاث ممخرق، وإما معاند مكابر يجب أن يعجل له سوء العذاب!
وفي الحق أن اكثر من يغمرهم هذا الطغيان، إنما يرون ما يرون ويفعلون ما يفعلون، عن ثبات إيمان ورسوخ اعتقاد! وما ظنك بمن تطبعهم شدة الأثرة على الإيمان بأنهم مبعثون من لدن رب السموات لإصلاح ما فسد في رقعه من الأرض أو في رقاع الأرض جميعاً؟ فإليهم وحدهم عهد الله بالاضطلاع بهذا المهم. وعليهم وحدهم تقع تبعة التقصير في علاجه، والراضي في إمضائه وإكماله!
وهؤلاء لا يطلبون الأعوان والأنصار ليعاونوهم بصادق الرأي وصالح المشورة؛ ولكن ليعاونوهم بقوة المظهر وإمضاء ما قضي به الوحي الذي لا يخطئ أبداً!
فإذا تعاطفت ما يختلف على هذه الأرض من عصور العتوّ والطغيان: تخرب العامر، وتدمّر القائم، وتُقفر الآهل، وتراق فيها الدماء بغير حساب، وتزهق النفوس لغير سبب من الأسباب: إذا تعاظمك هذا في عصور الدهر المتتابعة، فاعلم أن علته تلك الخلَّة الفاجرة في الإنسان!
وأمس، لقد أتمتْ دورةُ الشمس حولاً سلكته في عقد التاريخ أيضاً، وآذنت العالم بفجر حولٍ جديد
وإن ذاك العام المدبر، وهذا العام المقبل، لهما - كما تعلم - من أعوام الهجرة، هجرة محمد ﷺ وصاحبه من مكة إلى المدينة، وقد ساد بها الإسلام، فسعد بسلطانه الأنام
وبعد، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عما كان قد غشى الأرض جميعاً من ظلم وفساد، وتصدع في النفوس وتضعضع في الأخلاق، حتى كاد يُقضي على الأمم بعدم الصلاحية للبقاء. إلى أن بُعث محمد من عند الله حقاً، فبلّغ رسالته إلى الناس، كما أوحى إليه بها ربه حقاً، فكان ما شهد التاريخُ من ذلك الفتح والإصلاح والإسعاد
ولا أحب أن أُطيل في وصف ذلك الإصلاح والإسعاد، فبحسبهما أن تنزَّل بآياتهما وحيٌ كريم، من عند الله العليّ العظيم
وإنما أقف وقفةً قصيرةً عند سيرة من خلفوا محمداً ﷺ، ولم يؤيد أحدٌ منهم بوحي سماوي، ولا حبي بالعصمة التي حُبي بها الأنبياء، إنما هم أناِس مثل سائر الناس.
وإذا كان خلفاء الرسول قد ارتفعوا على سائر الناس، فبأنهم إنما ساروا سيرة هذه الشمس التي تطالعهم كلَّ صباح وتغرب عنهم كلُّ مساء. على أنها هي إنما تعمل لعالم الأجساد والأجرام، أما هم فيعملون لعالم النفوس والأرواح.
يعملون جادّين جاهدين، لا يبتغون من سعيهم نفعاً، ولا يُريغون من ورائه فخراً ولا ذكراً، لأنهم أشد أمانة من أن يقتطعوا لأنفسهم أو لذويهم شيئاً مما ينبغي أن يجرد كله للنفع العام.
يعملون لا مستبديّن بالرأي ولا مستأثرين؛ بل مشاورين مصغين مسرعين، حتى إذا اتسق لهم الرأي الذي يرون فيه منفعة المجموع، أسرعوا إلى إمضائه ولو جاء من أصغر الجميع.
أما رأى الجماعة، فشرعٌ عندهم مشروع، وقضاءُ مبرمٌ محتوم.
يعملون صادقين مخلصين لله وللنفع العام. لا كبر ولا مخيلة ولا استئثار بمنفعة من المنصب والجاه، بل ليس عندهم إلا الإيثار والتواضع، والرقة للضعفاء. وهيهات أن يؤثروا أحداً على أحد إلا بطاعة الله وما قدم من الخير للمجموع. ولعمري، لتلك أعلى صور الديمقراطية التي يحلم بها أجلّ الفلاسفة من قديم الزمان
وإذا كان هؤلاء الخلفاء قد انعقد لهم أعظم المجد، المجد الخالد على الدهر، فلأنهم لم يريغوه ولم يسعوا له، ولم يشغل هو جزءاً من نفوسهم جليلاً ولا دقيقاً
وبعد، فلا شك أن مما أصفاهم لطلب النفع العام، وتجافى بهم عن الاستئثار حتى بالنفع الخاص، هو طول الذكر للموت. وكيف لهم بنسيانه، وهذه الشمس العظيمة، باعثة الحياة والحركة في العالم تموت كل يوم، بمرأى منهم، بعد أقوى الحياة، ولكل شيء نهاية، ولكل سائلةٍ قرار!
وإذا كانت الشمس تعود كل يوم فتُوالى سعيها في النفع والتجديد والإحياء، فإن زعيماً لن يعود بعد موته، ولو لإصلاح ما عسى أن يكون قد أفسد وتعمير ما عسى أن يكون قد خرّب. فما له، بعد الموت بالأمر يدان!
هذا بعض ما يلهمه حديث الهجرة، وإن فيه لعبرة.
عبد العزيز البشري