مجلة الرسالة/العدد 449/الشجاعة وأثرها في الإسلام
→ تأملات | مجلة الرسالة - العدد 449 الشجاعة وأثرها في الإسلام [[مؤلف:|]] |
متى النور يا ظلمات ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1942 |
للأستاذ محمد عرفه
لو قيل لي أي الأخلاق الفاضلة كان له الفضل في ظهور الإسلام وانتشاره لما ترددت في أن أقول الشجاعة. فالشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية هما الدعامتان اللتان قام عليها الإسلام، وبفصلهما انبثق نوره في سائر الأرجاء؛ أو قل إن الشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية نوع واحد مرجعه إلى جرأة القلب، والاعتماد على النفس، وعدم الخوف من أحد؛ فإذا وجد صاحبها حقاً مهيضاً نصره، وإذا وجد باطلاً عرماً خذله بحد اللسان أو بشبا السنان
ولقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أشجع الناس في قول الحق والجهر بما يعتقد، وبحسبك أن قومه كانوا يقدسون الأصنام ويرونها الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا تحوم حوله شبهة؛ وكان يعلم أنهم يتعرضون لشبا السيوف وملاقاة الحتوف محاماة عن أصنامهم وذباً عنهم، فلم يمنعه ذلك من أن يجهر بالحق ويعيب آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويصبح في وجوههم: (إن الذين تدعون من دون اله لن يختلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب).
(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها؟). رباه الله على الشجاعة الأدبية والجهر بما يعتقد فقال له: (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر). وقال: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين أنا كفيناك المستهزئين). وقال: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وأبان له أن كتمان الحق موجب للعنة الله والناس (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)؛ فعلم أن في العالم حقاً وباطلاً وخيراً وشراً، وأنه يجب على الأنبياء والمصلحين أن يكونوا نصراء الحق والخير وأعداء الباطل والشر، وأن عليه أن يزكى هذه العداوة ويؤجج نارها حتى يديل الله الحق والخير من الباطل والشر. وكما كان صاحب الدعوة صلوات الله عليه المثل الأعلى في الشجاعة الأدبية، فقد كان كذلك في شجاعته الحربية أعظم مثل وأروعه، يدل على ذلك قول علي: (إنا كنا إذا حمى البأس وأحمرت الحق أتقينا برسول الله (ص) فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)؛ ووقفته الخالدة يوم أحد ويوم حنين فر الشجاع وارتعد الصنديد أكبر مثل وأعظم برهان
ولقد ربي الإسلام المسلمين على الشجاعة وحبها إليهم وزينها في قلوبهم (أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص) حتى جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وما زال يربيهم على الشجاعة والقوة والمنعة إلى أن صاروا فيها مُثلاً عُلْيا وأمثالاً مرددة؛ ففرض الله عليهم أن يثبت الواحد لعشرة ولا يفر منهم، ثم خفف عنهم وأوجب أن يثبت الواحد لاثنين ولا يفر الجيش من ضعفه (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلوا ألفين بإذن الله)
وكان من أثر الشجاعة في النبي وأصحابه أن عز الإسلام والمسلمون وصاروا أمنع من عقاب الجو وجبهة الأسد، لا تلين قنانهم ولا يسلمون لمن أرادهم، فلم يضعفهم قلتهم وكثرة أعدائهم وكان للإسلام العزة وللمسلمين التمكين في الأرض.
وكان أولوا الأمر من المسلمين الأولين يحافظون على قوة نفوس المسلمين كمنبع لعز الدولة الإسلامية، ويعلمون أنهم إذا عاملوا الرعية بالقهر ذلوا لهم لغيرهم ولم يكن فيهم غناء، فبالغوا في المحافظة على روح المسلم أن تذل وكرامته أن تمتهن، بل جاوز ذلك غير المسلمين ممن تظلهم الدولة الإسلامية برعايتها. ضرب ولد لعمرو بن العاص قبطياً فبلغ ذلك الخليفة عمر بن الخطاب فأرسل إلى عمرو وابنه وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ لا. بل لقد كانوا يفرحون إذا وجدوا في الأمة ما ينبئ عن قوة نفس وشجاعة قلب وجرأة على قول الحق. خطب عمر بن الخطاب في خلافته فقال: (أيها المسلمون إذا وجدتهم فيَّ اعوجاجاً فقوموني. فقام رجل من المسلمين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد الله الذي جعل في هذه الأمة من إذا وجد فيَّ اعوجاجاً قومني بسيفه. وذلكم مدى عناية الإسلام بالشجاعة ومدى ما كان لها من اثر في ظهوره وانتشاره بل أن الحضارة لم تتقدم وإن المدينة لم تنهض وإن العلوم والمعارف لم تعلُ إلا بفضل الشجاعة
يرى المصلح نظاماً فاسداً في المجتمع أو رأياً في السياسة فيشن عليه حرباً شعواء، يظهر عيوبه ومساوئه غير مبال بسخط الساخطين وغضب الناقمين، ويستمر في حربه وجهاده حتى تصبح آماله في الإصلاح حقائق واقعة، فينقذ الأمة من شر وبيل. ويرى العالم جهلاً قد جعل علماً وعلماً قد جعل جهلاً فيجهر بما يعتقد. يحارب الجهل ويشايع العلم، فإن لم يكتب له الظفر في حياته كان لفكرته النصر في مستقبل الأجيال.
وبهذا تقدمت العلوم، ونهضت الأم، وارتقت البشرية، وذهبت أوضاع اجتماعية كانت داء وبيلاً، وحل محلها نظم هي خير وأبقى
فإذا رأيتم أمماً ترزح تحت أنظمة فاسدة وعادات بالية فاعلموا أنها لم تعط الشجاعة الأدبية لنقد الفاسد من أنظمتها والباطل من تقاليدها فتختلف حين جد الراكب وسارت القافلة.
على أن قوة نفوس الشعب وغلبه الشجاعة على أبناء الأمة أمر لا يأتي عفواً، إنما هو نتيجة علم وافر وسياسة عادلة ونظام دقيق وإصلاح عام يتمشى في جميع مرافقها؛ وأول شيء في سبيل ذلك أن يعلم أن النفس الإنسانية إذا استبدلها وأسيء الاحتكام فيها ذلت وضعفت وذهبت منها معاني الرجولة من النشاط والقوة والحزم والعزم والاستقلال الذاتي؛ وإذا رفق بها وعوملت باللين وأحسنت رعايتها عزت وعظمت وكان لها من القوة والعزة والشمم القدر الذي تصلح به وتقدر على إصلاح من معها؛ فإذا علمت الأمة ذلك وراعته وكانت سياستها في الحكم والاجتماع والتربية سياسة رفق ولين في غير ضعف ولا خور اطرد تقدمها ورقيها.
أيها المسلمون:
إذا رأيتم أنفسكم متخلفين عن ركب المدينة فاعلموا أن ذلك منكم وما كان يقدر أن يفعل ذلك بكم أحد سواكم. ملك بعضكم بعضاً ملكة قهر وغلب، واستبد بعضكم ببعض فأفسدتم نفوسكم وجردتموها من معاني العزة والقوة مقومات الحياة الذاتية المثابرة، فضعفت الشجاعة فيكم وضاعت من بين جوانحكم، وإذا فقدت الشجاعة فقد فُقد كل شيء؛ ولو كشف لكم عن حقائق الأمور لرأيتم كل واحد منكم قد أخذ معوله بيده وأخذ يهدم جاهداً في نفوس الآخرين، فالأب يقتل نفوس أبنائه، والزوج نفس زوجه، والمعلم نفوس المتعلمين، والرئيس نفوس المرؤوسين، وهكذا اصبح كل من له رعاية يستبد فيها بالآخرين ويسيء حكمهم ويقتل فيهم روح القوة والرجولة
أيها المسلمون:
إذا أردتم أن تساهموا في بناء المدينة الحاضرة فإني أوصيكم بواحدة: أن تبقوا على رجولتكم وشجاعتكم وذلك بأن تعدلوا في سياستكم وتحسنوا في رعايتكم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع على أولاده، والرئيس راع على مرءوسيه، والحاكم على محكوميه، والمعلم على تلامذته. عليكم بالرفق في معاملتكم، والإحسان في سياسة من تلون أمورهم، والمحافظة على كرامتهم كما تحافظون على كرامة أنفسكم. ولتكن آثر الحكومات لديكم أرفقها بكم، وآثر الرؤساء عندكم أعدلهم فيكم، وأحبَّ الناس إليكم من يحافظ على كرامتكم ومن يعمل على أن تكون نفوسكم قوية وأخلاقكم فتية. وليكن أبغض الناس لديكم من يعمل على أن تكون نفوسكم مهينة وأخلاقهم خائرة ضعيفة، واجعلوا صديقكم من الكتاب من ينصحكم ويسمو بكم إلى آفاق الفضيلة والكمال، واجعلوا عدوكم منهم من يغشكم ويستغل غرائزكم الحيوانية، ومن يقول لكم ويقول ثم لا تأخذون مما يقول روحاً سامية، ولا تستفيدون منه سمواً خلقياً
ويومئذ تجرءون على كلمة الحق فتنقدون الأنظمة الفاسدة، والتقاليد البالية والأوضاع الضارة. ويومئذ تنتقلون من فساد إلى صلاح، ومن ضعف إلى قوة، في جميع شؤونكم وفي جميع مرافق الحياة فيكم
ويومئذ تيسرون مع ركب الإنسانية للعمل لخير الإنسانية، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
محمد عرفه
عضو جماعة كبار العلماء