مجلة الرسالة/العدد 440/قيمة الحرية
→ الحرب والطبيعة البشرية | مجلة الرسالة - العدد 440 قيمة الحرية [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 08 - 12 - 1941 |
للصحافي العالمي ويكهام استيد
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(من الممكن عندي صياغة جميع المسائل المتعلقة (بقيمة الحرية) في أسئلة ثلاثة:
1 - هل الشخصية الحرة كعنصر من عناصر الحياة البشرية أنبه شأنا وأعز جانباً وأنفس قيمة من تلك الشخصية التي تنطبع وتتشكل وفقاً لمشيئة قائد أعلى حاكم بأمره في مصادر
وموارد الدولة الاستبدادية المطلقة؟
2 - هل يتوقع لإرادة الفرد الحرة أن تخطو بمصالح البشر إلى الأمام أكثر مما يتوقع لإرادته التي تدرج من المهد إلى اللحد على منهج موضوع يصيرها خاضعة لكلمة القيادة العليا خضوعاً غبيا ومطيعة لها طاعة عمياء؟
3 - أليس هنالك من ضرر يتهدد الجنس البشري، ومن خطر على تقدم المعارف وانتشار الثقافة، ومن خوف على كل شيء نفهمه عن طريق (المدنية) بنشوء هذه الجماعات الفقيرة التي تسير في مناهجها على نمط واحد، وتجري في تفكيرها على أسلوب واحد، وتنطلق خائفة مذعورة كقطيع من الغنم أمام راعيها؟)
ويكهام استيد
من القضايا التي يزعمون أنها من بداءة الرأي قولهم:
(لكل بلاد ما تستحقه من صحافة)، وإذ نفرض صحة هذه القضية م غير أن نسلم بحجتها يسعنا أن نتساءل: (وأية صحافة نستحقها نحن؟)
والجواب على ذلك ليس بالأمر الهين؛ فقد جاء في مقال لكاتب إيطالي - أغفل اسمه - نشر في كتاب سنوي فاشي عن الصحافة الإيطالية قوله: (إذا كانت بريطانيا العظمى لا تزال تملك صحفاً تشغل مكانتها بين خيار صحف العالم، فإنها ما برحت تملك صحفاً أخرى هي بلا شك أسوأ الصحف في العالم، أو على أي حال في أوربا). وإني لا أجد بصدد هذا النظر سوى أسباب ضعيفة أخالفه الرأي فيها. اللهم إن صحافتنا حتى أسوأها شأناً ما زالت إلى الآن لا تخضع لأي رقابة رسمية، أو تستعبد لأية قيادة حكومية؛ إذ لا يسعنا أن تجمع بين النقيضين: حرية الصحافة وقيود الرقابة.
والحرية التي سمحت لجريدة إقليمية كبرى (كالمنشستر جارديان) بأن تنادي غير هيابة بالحقائق اللازمة لسلامة الكيان السياسي بأجمعه؛ والحرية التي أباحت لصحيفة التيمس عام 1852 أن تلقى على رجال السياسة درساً قيماً عن وظيفة الصحافة الحرة في المجتمع الرشيد، لا يسعنا أن نقيدها جملة رجاء أن نتخلص من الخبيث الضار ونحن نعني بتنشئة الطيب النافع.
ولكن هل الحرية شيء محبوب لذاته عظيم في نفسه، حتى أنه يصبح لزاماً علينا أن نتحمل من أجلها ما هو أقل صلاحية وجودة من شؤوننا؟
إننا عندما ننعم النظر فيما للصحافة البريطانية اليوم من شأن وفيما قد يتهيأ لها من مستقبل تصادفنا تلك القضية القديمة وأعني بها ما لحرية من مكانة وقيمة، فإذا هي منها بمنزلة الأساس من البناء والأصل من الكائنات.
ولقد صار واجباً على جيل أن يحل مشكلات هذه القضية لنفسه. أو ليس يتفق مع طبيعة الحياة الإنسانية اتفاقاً كبيراً ما صاغه جوت صياغة ماهرة في عبارته الخالدة إذ قال: (إذا شئت أن تحتفظ بما ورثه لك آباؤك، فعليك أن تهيئ نفسك لأن تكون قادراً على استرداده والظفر به).
وعندي أن الحرية لا ترتبط ارتباطاً كلياً أو جوهريا بالحالات المادية أو بطرق الإنتاج الصناعي على الرغم مما يذهب إليه كارل ماركس في مذهبه.
وقد توجد علاقة دقيقة بين حق الفرد في أن يظفر بنصيب من الملكيات الخاصة وحقه في التمتع بحريته الإيجابية، إذ القضاء على جميع الملكيات الخاصة من شأنه كما يتوقع له وينتظر من مصيره أن يعتمد الأفراد اعتماداً تاماً على الدولة ينتهي بأولى الأمر فيها إلى حال لا يحتملون معها الأفعال أو الآراء التي لا يرحبون بها، ولا يسمحون للناس معها أن يتبرموا بها أو يلوموهم عليها. اللهم إلا معارضة سالبة صامتة تتردد في صدور البرمين بالأوامر العالية، وإن كانت الحرية المنشودة لجميع المقاصد الحيوية والأغراض العملية هي حرية الكائنات البشرية في أن تعبر عن وجودها وتفصح عن غايتها بالكلام أو الكتابة أو العمل في حدود القوانين التي هي نتاج التشريع الحر والقبول الطليق فإن الصمت الإجباري وكم الأفواه لا يختلف كثيراً عن إلقاء العقول في غياهب السجون.
والصحافة، وحق الرأي العام في الإفصاح والتعبير وعقد الاجتماعات والنظم النيابية. وسائر المميزات الأخرى للنظام الديمقراطي كل أولئك يحمل معنى الحرية لأنه سبيل المجتمع إلى التعبير الحر والرأي الطليق، وهيهات أن يتهيأ للشعب أن يظفر بحريته بمعناها السياسي ما لم يكن له الحق في النقد والمعارضة. ويندر أن تطمئن عقول الرجال لأسس الحياة وتقبلها قبولاً حسناً ما لم تمتحن هذه الأسس بأذى يهددها أو قوى تنكرها أو تتجاهلها. ولعله بسبب ما يتهدد الحريات الأساسية الآن من عبث العابثين واضطهاد المضطهدين، أو من إنكارهم عليها في مثل هذه المساحات المترامية الأطراف من أوربا والعالم، أن يكون لها قيمة وشأن، أن انصرفت الرغبة أخيراً للتفكير في تلك الأسس. ولتقصي مصادر تلك المذاهب التي بلغت من نفوس أجدادنا ما تبلغه العقيدة الصادقة والإيمان المتين، ولمعرفة ما إذا كان يجب أن تصبح تلك العقائد محلاً للجدل أو هدفاً للانقلاب الاجتماعي وهي العقائد التي قاسى الناس الأهوال في سبيلها ولم تستقر في نفوسهم إلا بعد كفاح أجيال متعاقبة، سأذكر هنا النتائج التي انتهى تفكيري إليها بعد إعمال الفكر في هذه المسائل وفي الكثير من نظائرها وتقصي ما لها من شأن وقيمة، وسوف يتضح من أمرها أنها تمت بصلة وثيقة لمستقبل الصحافة.
إنه لم يكن بالأمر العارض في إيطاليا وألمانيا - وفيهما اختفت الحرية وباتت الصحافة مجرد آلة للدعاية القومية أو الدعاية الخارجية، أن ينادي بالحكومة التي تخدمها تلك الصحافة (كحكومة استبدادية) وأي بحث قائم على التفكير السليم فيما للحرية من قيمة يحملنا فوراً على أن نمحص الحوار القائم بين (السلطان المطلق) و (السلطان النسبي) وينتهي بنا عاجلاً أو آجلاً لأن نقرر أن قوام الحرية العالية هو الإنكار الدائم للسلطان المطلق سواء أكان عقلياً أو روحياً أو سياسياً، وأنها نتاج التجارب المستمرة التي تتهيأ لعقولنا ومشاعرنا، وأنها ثمرة الاتجاه المتواصل لعلاقاتنا وقيودنا الاجتماعية نحو المثل العليا.
والقيود التي تحد من حريتنا في التصرف الآن ترجع إلى القوانين أو الالتزامات التعاقدية، أو إلى عادات المجتمع الذي نرتبط به. والحرية التي ننعم بها الآن هي (شرطية) كما يعبرون عنها في الاصطلاح السياسي، بمعنى أنه يجب ألا تتعارض مع سلامة المجموع الذي تملك تغيير زمام هذه الحرية وتنعم بجناها. وهذه الحرية لا تمت بصلة إلى الحرية الصورية التي صورها (روبنسن كروزو) على رفعة جزيرته. تلك الجزيرة التي لم يسكنها إنسان قبل أن يبعث فيها إنسانه (فرايداى) إذ بوصول هذا الرجل إليها بدأت تدب فيها عناصر البيئة التعاونية وأسس الهيئة الاجتماعية. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً غدت حريتنا الاجتماعية أو السياسية وهي ليست بالحرية المطلقة. وكلما قدر للمجتمع أن يتجاوز حالته البدائية تجاوزاً نسبياً تلك الحالة التي قد ينعم فيها كل رجل بحرية واسعة المدى يستمد معها قانونه من مشيئته كلما صارت حرية أفراده وهي أكثر اتصالاً وأشد تقيداً بحرية الآخرين. وهي أيضاً أقل إطلاقاً وأكثر خضوعاً للأوضاع والقيود الاجتماعية. ويسعنا أن ندعو هذه الحرية المقيدة (بالحرية الواقعية) ما خضعت لتلك القيود الأجنبية لتلك القيود الأجنبية عنا، والمستقلة عما لأشخاصنا من رغبة أو كراهية؛ كما تتقيد حريتنا بقيود أخرى يسعنا أن نسميها (بالقيود المعنوية) ومثل هذه القيود إذ نألفها ونهيئ أنفسنا لأن نسكن إليها، يخف حملها ولا يشق علينا أمرها. فلا نشعر معها بشيء يقيد حريتنا. لأننا في الواقع لا نتأذى مما يقيد حريتنا من الناحيتين الاجتماعية والمادية لمجرد أنه تقيد لحريتنا فحسب، بل نتأذى به إذا ما أحسسنا بثقله وضقنا به ذرعاً، فنحن بعبارة أخرى نتأثر بقيود حريتنا (المعنوية) أكثر مما نتأثر بضوابط (حريتنا الواقعية) التي لا يشق علينا شيء من أمرها حتى أحسسنا أنه ما من شيء يدعونا للثورة على القوانين أو للتمرد على العادات والنظم؛ وشأننا في ذلك كشأننا مع قوانين الجاذبية من ناموس الطبيعة التي إذا ألفناها لا نجد من سبب للثورة عليها.
ولكننا مع ذلك بحاجة لأن نكون على حذر من أمرنا قبل أن نقبل أسس الحرية التي نساق لها أو تساق إلينا، ولا سيما إذا كانت تلك الأسس من ذوات الطابع (المعنوي) وإلا انتهت قيود حريتنا بأن تستبد بنا استبداداً واسع المدى بالغ الأثر. فننتهي معها إلى أن نصبح عاجزين عن الاحتفاظ بحريتنا في التفكير أو القول أو العمل. وآنئذ نفتقد عقائدنا وبالتالي إرادتنا في مقاومة التدخل في شئون حريتنا الواقعية. ويكون من أمرنا أن نتساهل فيما لا يجمل التساهل فيه، وأن نستبيح في حق أنفسنا أن تخوف بالاستبداد المنظم الذي يشق علينا أمره ويصعب علينا احتماله. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً كانت أولى النتائج التي انتهيت إليها من دراسة قيمة الحرية. إن من صواب الرأي أن نعلم أن الاستبداد بالرأي هو الشيء الوحيد الذي يلزمنا ألا نتسامح فيه إذا أردنا أن نظل أحراراً. لذلك كان لزاماً علينا مثلاً أن نتسامح في أمر الصحف الرديئة لنظل أحراراً في أن نحتفظ بصحافة طيبة، وهذه النتيجة تعود بي إلى قضية النسبية. فالأصل في التسامح أن يثير الموازنة بين الحرية المطلقة والحرية المقيدة، وهذه الموازنة تنتهي بنا لأن ندرك أن جميع الحقائق نسبية، وأنه لا توجد حقيقة واحدة مطلقة سياسية كانت أو اجتماعية. وأن ندرك أيضاً أن الأمر لا يقتصر هنا على وجوب التسامح في الآراء والعقائد، بل يتجاوزهما إلى التسليم بالحق في النقد والاعتراف بحرية النقد، تلك الحرية التي أصبحت الآن عماد حرية الفرد ومصدر ما يصيبه من نجاح في الثقافة أو العمل، إذ تحمل في ثناياها المميزات الأساسية للجماعة الحرة، تلك المميزات التي يفصح عنها ما ينطبع في الشعب من سجية التسامح في الآراء التي قد لا يسلم بصحتها الكثير من أفراده، ولا تروق في أعين غالبيتهم. وإذا ما تسامح الناس في تقبل الآراء في الوقت الذي لا ينعقد لهم إجماع على صحتها، وإذا ما تأبوا على أنفسهم أن يبطشوا بها أو يضيقوا بها ذرعاً، وإذا ما حرصوا أن يكون سبيلهم في مناهضتها عن طريق المحاجة والإقناع، فإنهم على هذا النهج القديم يعترفون بحقيقة ما بين العقول البشرية من خلاف نزيه في النظر والتقدير. وأنه لأشد رعاية لحرمة الرأي البشري أن تمتحن المذاهب المختلفة عن طريق مقارنة الحجة بالحجة، ومقارعة الرأي بالرأي لا أن يفرض على الناس واحد من هذه الآراء أو تلك تحت سلطان القوة التهديد. والحرية السياسية لا تتفق مع تلك الحال التي يفرض فيها على الأمة رأي واحد، ويكون لزاماً عليها أن تتشابه فيها العقليات ويوحد النظر. بل هي على النقيض من ذلك تنهض على ما يجب أن ينعقد إجماع الشعب عليه من إباحة الاختلاف في الرأي، كما تنهض على أن يعترف الجميع اعترافاً إيجابياً عملياً بأن اختلاف الآراء في الهيئة الاجتماعية يجعل حياتها أخصب تربة وأكثر إنتاجاً مما يتيسر لها لو سارت على نهج واحد مناطراد المذهب ووحدة النظر. والجماعة إنما ينعم بحريتها على وجهها الصحيح متى كانت عادتها وقوانينها في الوضع الذي يفسح المجال لرأي الفرد ويهيئ الميدان لتصرفاته الشخصية، فلا تضيق الخناق على حريته في الرأي والتصرف إلا إذا أجراهما على نهج غبي لو ترك وشأنه فيه لحال بين الآخرين وتمتعهم بحريتهم
والفرد لا ينعم في الجماعة الحرة بما يظفر به من الحرية لمجرد أن قوانينها وعاداتها هي القوانين والعادات التي قد يفضلها على ما عداها، بل لأنه يحظى بنصيب كبير من توجيه شؤونها العامة والاجتماعية أن كان لكل مواطن حقه في أن يدلي برأيه في شؤون الدولة ويكون له أثره الفعال في توجيه سياستها وإن كان من واجبه إلى ذلك أن يخضع لحكم الأغلبية وأن يقاسم بني وطنه الحياة والعمل.
(يتبع)
زين العابدين جمعة