مجلة الرسالة/العدد 440/الحرب والطبيعة البشرية
→ ظاهرات نفسية | مجلة الرسالة - العدد 440 الحرب والطبيعة البشرية [[مؤلف:|]] |
قيمة الحرية ← |
بتاريخ: 08 - 12 - 1941 |
للأستاذ محمد أديب العامري
لا يظهر للقارئ من الكلمة التي أرسلها الدكتور محمد حسني ولاية أن نزعتان جنسيتان، مع أن ذلك هو خاصتهما كنزعتين؛ وإنما يظهر له أن هاتين النزعتين صفتان في البشر عامتان فقط، وأنهما تكتمان آناً وتبدوان آناً آخر على صورة مصطنعة وفجائية.
وربما كان الدكتور ولاية يحب أن يورد النزعتين مردودتين إلى أصلهما البيولوجي، ولذلك كان ما يمكن أن يفهم قارئوه من السادية أنها نزعة تعني (أن يهدم الإنسان سواه ليخلو له الجو ويستأثر بالحياة. . . أما الماسوشية، فتعني أن يهدم الإنسان نفسه).
(ويؤدي العرف في أوقات السلم) في نظر الدكتور أيضاً (إلى أن يكبت الرجل شطراً من ساديته لينسجم مع المرأة والبيئة، أما في زمن الحرب فتتحكم السادية في العقل الواعي، وحينئذ يتحكم الحيوان الرابض في الأعماق. . . وحين تسير الجيوش لملاقاة العدو يتناسى كل جندي شخصيته، ويعود إلى ماضيه الفطري، ويعمل كما كان يعمل آباؤه الأولون، وهو في هذه الحالة وهذه الإرادة البشرية الأزلية. . .)
وهذه التعاريف والاستنباطات القطعية التي تحمل طابع العلم الذي يؤمن به الناس اليوم ويخضعون له كانت تكون يسيرة الخطر لو أنها - على ضعف مبرراتها - لا تنتهي إلى تثبيت فكرة الويل والدمار والهلاك الرانية على قلب العالم؛ فلا يمكن أن يفهم قراء الدكتور ولاية إلا أن الحرب على شكلها الحاضر متصلة بنزعات عميقة، وإلا أن المحارب يشتق نفسيته من هذه النزعات المتأصلة؛ ومن هنا بطبيعة الحال ستسمر الحرب هكذا، بل وتشتد جيلاً بعد جيل إلى ما شاء الله!
والذي أرى هو غير هذا في المقدمات وفي النتائج
فالسادية والماسوشية - كما يرى كرافت إبنج وفرويد وغيرهما - إنما هما نزعتان متصلتان بالجنس مباشرة كما سبق أن أشرنا، وإنهما في حالة بروزهما تعتبران انحرافاً جنسياً - أي نوعاً من أنواع الضعف التناسلي - ويعتبر لخت أن عدم وقوعه على إشارات سادية وماسوشية في المصادر الأدبية اليونانية يدل على أن حياة اليونانيين كانت حياة صحية (يقصد الحياة التناسلية) أما تصوير هاتين النزعتين كأنهما دافعان أساسيان للحرب والقتل الدائر اليوم أو مثله، فليس له مبرر؛ ولكن الذي له مبرر فيما يظهر هو أن الأصول البيولوجية لهاتين النزعتين ترجع إلى (الحاجة إلى التغلب على أية مقاومة يبديها الهدف الجنسي، ولا تجدي معها حركات المداعبة). وهو تعليل بسيط قريب الصلة بالمظاهرة التي نحن بصدد الكلام عنها.
اجل، ترتد النزعتان في نظر بعض العلماء - وهذا إذا تعمدنا تعمقاً أشد - إلى شهوة أكل الإنسان اللحوم البشرية (أي خدمة غريزة حب السيطرة)، ولكن هذا مشكوك فيه كثيراً كما سيتضح الآن
ومهما يكن من أمر فالمرد الأساسي للسادية والماسوشية غير مؤكد الآن، ولذلك يرى (فرويد) أن التفاسير الموضوعة لأصول هاتين النزعتين غير كافية، وانه من الممكن أن تكون هنالك دوافع نفسية عديدة ومتحدة لتكون هاتين النزعتين
وليس صحيحاً أن يقف الناس عندما انتهى إليه فرويد أو غيره من الثقاة؛ ولكن الدكتور ولاية يقول بأن (كل إنسان - رجلاً كان أو امرأة - يحمل نزعة السادية متوازنة مع نزعة الماسوشية). وهذه بالطبع حالة الإنسان العادي. ويقول هفلوك إليس أيضاً إن (جميع حالات السادية والماسوشية تبدي آثاراً من النزعتين في الفرد الواحد نفسه).
وواضح من اجتماع النزعتين دائماً في فرد واحد أن وجودهما معاً لا يمكن أن يعزي إلى شهوة العدوان، ومن ثم غريزة حب السيطرة (دع عنك القتل الإجماعي - الحرب) لأن هذا التأويل إن وضح للسادية فلن يوضح الماسوشية، إلا إذا قلنا إن الإنسان يشتهي أن يقتل نفسه، وهذا يغاير ما تنزع إليه غريزة البقاء، التي لا يرتاب في أصالتها وسيطرتها وشمولها
وإذا كانت الحرب تطوراً للسادية فماذا ترى يكون تأويل دخول المرأة في معترك الحروب اليوم؟ وإذا استمرت الحرب أزمنة طويلة قبل أن يكتشف الناس غباوتهم فيها - فلا ريب أن المرأة ستسير جنباً إلى جنب في الحرب مع الرجل. فهل تصلح الماسوشية، وهي النزعة المتغلبة في المرأة، تأويلاً لمظهر هذه الحرب أيضاً؟
وخلاصة ما أريد أن أقول هو أن هاتين النزعتين كما نعرف هما اليوم جنسيتان، وأن أصولهما غير مؤكدة. على أنه مهما تكن هذه الأصول فمن المؤكد أنها أصول لا تمت إلى الحرب الإجماعية بسبب
وإذا كان العدوان أصل السادية فإن ذلك لا يعني أن تتطور هذه النزعة في اتجاه العدوان متضخمة. إذا تضخمت السادية كانت انحرافاً جنسياً. ذلك نعلمه بالتأكيد. وهفلوك إليس، وهو ممن أكبر ثقاة المسألة الجنسية، يرى أن (القتل الإجماعي بالحرب ليس طريقه اجتماعية غير ملائمة لدور الحضارة الحالية فحسب، بل إنه على اٌلإطلاق لا أساس له في العالم).
وارجح الرأي أن الدكتور ولاية يفرض أولاً أن الحرب شيء أزلي أو يتفق مع الطبيعة البشرية ثم يمضي ليجد الأسباب العلمية لهذا الغرض. ولما لم تكن الحرب في شكلها الحاضر شيئاً يتفق مع الطبيعة البشرية، ولا مع درجة الحضارة الراهنة للبشر، على أقل تقدير، فإن أية محاولة لإقامة هذه الظاهرة - الحرب - على أساس علمية تكون اصطناعية
إن من السهل أن نلاحظ أن الجندي لا يذهب إلى ساحة الحرب راضياً، وإنما يدفع إليها دفعاً. فإذا ضحى فيها لم يكن عدوانه إلا مظهراً من دفاعه عن نفسه. إنه إن لم يقتل من يواجهه فهو مقتول لا محالة. فقتل غيره هو أضمن السبل لخلاص نفسه. وواضح أيضاً أن الجندي يحب في كل وقت من أوقات الحرب أن يُسرّح ليعود إلى أمنه وطمأنينته، سواء أكان الجيش الذي يحارب فيه مغلوباً أو منتصراً.
إن الحرب الإجماعية على شكلها الحاضر لا تتصل بالنوازع البشرية أو بالغرائز، وإنما تقوم لمصلحة أناس محدودين ضاق نظرهم وتكمن الخوف من نفوسهم. وتشمل هذه المصلحة الدوافع النفسية الملتوية والدوافع المادية على السواء. إن سواد الجنود يحارب لغير دافع من نفسه، فالقتل للقتل صفة غير معروفة. والدكتور ولاية يرى هذا فيقول إن الجندي عندما ينعم النظر في (وعي ذاته ويشعر بأنه شخصية قائمة بذاتها لا تستطيع روحه الاندماج مع الروح التي تقود زملاءه الجنود إلى التلاحم). وهذا القول يقرر أن الوعي البشري مخالف لروح الحرب التي يظن القارئ لمقال الدكتور أنها أزلية فتستمر ابد الدهر مستمدة نفعها من أعماق الطبيعة البشرية.
(السلط)
محمد أديب العامري