مجلة الرسالة/العدد 438/كلمة صريحة
→ من أدب الغرب | مجلة الرسالة - العدد 438 كلمة صريحة [[مؤلف:|]] |
إلى إمام الأزهر ← |
بتاريخ: 24 - 11 - 1941 |
بين الأدبين المصري والسوري!
(لكاتب لبناني)
أفضى الدكتور طه حسين بك إلى بعض الصحف العربية في سوريا بكلمة يعزو فيها قلّة التفات الأوساط الأدبية في مصر إلى الأدب السوري الحديث - بما فيه اللبناني - إلى عدم القيام (بواجب الدعاوة. . .) لهذا الأدب. ولا حاجة إلى البيان أن الذين ينبغي أن يقوموا بواجب هذه الدعاوة إنما هم أفراد الجالية السورية اللبنانية في مصر الشقيقة
وقد أثارتْ هذه الكلمة بعض الأقلام بالمعارضة وبادّعاء تعذّر القيام بمثل هذه الدعاوة لأسباب لا سبيل الآن إلى ذكرها. وأنا أوثر أن أنقل ميدان هذا الكلام - وما يستتبع - إلى هذه المجلة الغراء لأطلع إخواننا المصريين - في هذه الكلمة القصيرة - على بعض النواحي المؤثرة تأثيراً مباشراً في تكييف الحركة الأدبية في سوريا ولبنان
أم العُذر الذي انتحله الدكتور الفاضل - وهو (واجب الدعاوة. . .) - يبتغي به تبرير موقف الأدب المصري الحديث من أن يقال عنه إنه لا يأبه - أو على الأقل - لا يلتفت الالتفات المطلوب إلى تسجيل ظواهر الحركات الأدبية في بلادنا؛ هذا العذر، لا أظن أن الدكتور نفسه مطمئن إلى صحته، وإنما يكون أغضى - وأحسبه إغضاء متعمداً - عن حقيقة سأسجلها بعد حين على أدبنا - ولو كانت مُرَّةً مؤلمة -
من الوهن في التفكير أن يقال إن (الدعاوة) التي تقوم بها الجالية المصرية في بلادنا - إن كان ثمة جالية مصرية تقوم حقاً بالدعاوة - هي التي أضاءت لنا الأدب المصري الحديث، وعرّفتنا به، وحبّبتنا فيه، فإن الواقع لا يثبت من هذا شيئاً، إذ لم نر رجلاً مصريَّا في بلادنا يطرسُ أية كلمة في نقد كتاب مصري صدر في مصر (والنقد ينتظم حسناته وسيئاته)، ولم نرَ رجلاً مصريَّا يعرض في مكاتبنا كتباً صدرت في بلاده دون أن يطلبها منا طالب؛ اللهم إلا أن يكون مقتنعاً أنها لن ترد، وأنها ستحوز الرضى، وستنفق سوقها، لما لها من أهمية عظمى وحاجة ماسة، وطلب ملحاح في بلادنا السورية اللبنانية، فإذ ذاك يبعث بها فيعرضها، وليس هذا من الدعاوة في شيء، إذ أن هذه المؤلفات لا تفتقر إلى مثل هذه الدعاوة.
لهذا كله تصادف المؤلفات المصرية سوقاً رائجة في بلادنا
وأما متعهدو المؤلفات عندنا - أو المؤلفون أنفسهم - فإنهم لا يجدون ميلاً إلى إرسال مؤلفاتهم لعرضها في الأسواق المصرية خاصة، لأنهم مقتنعون أنها لن تحوز الرضى ولن تنفق سوقها، فيكون هذا داعيهم إلى الاجتزاء بعرضها في أسواقنا، وحسبهم ذلك
فالدعاوة التي ينيط الدكتور الفاضل بها رواج المؤلفات، ليس لها من التأثير أي قسط.
فلماذا إذن تصادف المؤلفات المصرية، وبالجملة الأدب المصري جواً موائماً في مصر نفسها قبل سوريا؟ ولماذا لا يصادف الأدب السوري هذا الجو نفسه في سوريا بَلْه مصر؟
أجل! لماذا يأنس قراؤنا - نحن السوريين - صَورْة إلى قراءة المؤلفات المصرية تفوق ميلهم إلى قراءة الكتب السورية حتى إنك لترى الكتب المصرية تحتل المركز الأول في أسواقنا؟
هذه أسئلة تتطلب أجوبتها صراحة وصدقاً لا تجامُل فيهما على جانب، ولا إشادة فيهما ولا إطراء لجانب آخر!
من الحمق ألا يعترف المرء أن من أسباب ذلك أن النتاج المصري أكثر فائدة وأكبر قسطاً في التفكير الحي، وأكثر طلاوة في الأسلوب، وأوفر جمالاً في ابتداع المعاني وخلق الطرائف، وأرهف إحساساً في تصوير العاطفة؛ وبالجملة: أن النتاج المصري أكثر نضوجاً. وهذه الظاهرة لا تخفى على أحد، ولا يحاول أن يبخس من حقها أحد، فمصر زعيمة البلاد العربية غير مُدافَعَة في مضمار النتاج الأدبي بكل ما ينتظم من فروع؛ وإن تكن مصر زعيمة البلاد العربية في الأدب، فليس بضائرها أن تلتفت إلى الحركات الأخرى. بيد أن الذي لا شك فيه أنه السبب الأساسي في رواج الأدب المصري، وفي كساد السوري - إلى حد - هو أن نتاج السوريين ضئيل، لا يقاس بوفرة نتاج المصريين وضخامته وغزارته
وآية ذلك أن أي أديب مصري شهير - في عرف المصريين والسوريين على السواء - لا تقل مؤلفاته عن العشرة. وأكثر هؤلاء الأدباء تربو مؤلفاتهم على ذلك بكثير أو قليل. وإنا إذا قلنا (أديب شهير) فإنما أعني أن مؤلفاته لا تجنح إلى الإسفاف أو الضعف، ولا تميل إلى التعقيد والغموض. وبجملة واحدة أن مؤلفاته معروفة مفيدة قيمة. ومن الطبيعي أن يقوَّم الأديب بعدد كتبه القيمة. . .
ولكننا نرى في أدبنا، أن أي أديب سوري شهير - في عُرف السوريين فحسب (ولم أشفع معهم المصريين لقلة اطلاعهم ونقص معرفتهم في هذا المضمار) - لا تربو مؤلفاته عن الخمسة، وأكثر هؤلاء الأدباء تقل مؤلفاتهم عن ذلك بكثير أو قليل
قد يتجه للقارئ هنا أنه قد يكون عزبَ عن بالي أمرُ المؤثرات في البيئات، وهذا أمر له قيمته وشأنه. ولكنك إذا استقرأت جميع المؤثرات في الأدب، وقارنتها بين الأديبين فإنك تراها تختلف اختلافاً يسيراً ليس من شأنه أن يؤثر هذا التأثير العظيم في النتاج الأدبي لكل من البلدين. فالوسط الذي يعيش فيه كلا الأديبين يكاد يكون واحداً، والمجتمع كذلك باعتبار أنه مجتمع عربيٌ أماله واحدة، وغايته واحدة، يتكلم لغة واحدة، والغالب فيه يدين بدين واحد، وتحكمه حكومة واحدة. . . الخ. وأما البيئة الطبيعية فتختلف كثيراً بين جو مصر الثابت، وبين جو سوريا المتبدل المغيّر بحسب الفصول؛ وأنا أرى أن التبدل الجوي في سوريا هو في صالح فكر أدبائها، لأنه دائماً يتلون بلونه ويتأثر أكبر الأثر به؛ فجو مصر الثابت يورث العقل المصري جواً ثابتاً فلا يتغير التفكير إلا بقدر. وأما جو سوريا المتبدل فيورث العقل جواً متبدلاً يمد هذا التفكير بأسباب الاضطراب الدائم، والحركة المختلفة، فيتمخض عن ألوان من التفكير كثيرة، وضروب من العاطفة وفيرة
والآن أعود - بعد أن كاد القلم يشط - إلى تعليل سبب هذا البون الشاسع في النتاج الأدبي
إن الأدباء المصريين لا يألون جهداً، ولا يدخرون قوة في الكتابة، بل يدأبون على امتصاص مداد القلم، وعلى ترشف ماء معانيه، فيكتبون ويكتبون ولا ينصبون، وينهال عليهم الإطراء والتشجيع فيزدادون. . . أجل إنهم يزدادون. . . وهذه الحركة الدائبة في الكتابة تفسح أمامهم طرقاً واسعة لا حبةٌ في التفكير، وتحسر لأعينهم عن مجال جمة فينظرون ويتأملون، وينهلون كأنهم لا يرتوون.
وهم يحسون - إذا ما اضطرتهم ظروف قاسية إلى الانصراف عن الكتابة - بضيق شديد يبرمهم ويؤلمهم، ويستشعرون حنيناً مشبوباً إلى (العودة إلى الروض. . .)
لهذا كله، أضحى نتاجهم الأدبي ضخماً غزيراً لا ينضب معينه، ولا يجف مداده
وأما الأدباء السوريون واللبنانيون فهم على عكس ذلك، وهذه هي الحقيقة المؤلمة إن حقوق الصراحة لتوجب علينا القول: إن الأديب السوري الذي يقرزم يعتقد أنه أصبح شاعراً أعظم. . . وإن الأديب الذي كتب مقالة نالت بعض الإعجاب يثق بأنه أضحى المفكر الذي لا يجارى، وإن الأديب الذي أصدر قصة أو قصتين يوقن بأنه أمسى القصصي الذي لا يبارى
ولكن من الحق كذلك أن نسجل أن في سوريا ولبنان أدباء وعظماء تجود قرائحهم - إمَّا طابوا نفساً بالكتابة - بدرر بينة وآيات رائعات، ولكنهم - مع الأسف، والأسف الشديد - يجودون بمقال واحد في السنة، ويصدرون كتاباً واحداً في العشر سنين!
إن هذا الانقطاع عن الكتابة من شأنه أن يخمد حيوية الفكر، ويميت قوى التأمل والنظر إلى بعيد، ويقضي على شبوب العاطفة. أنا لا أدعي أن ليس في الأدب السوري شيء قيم، فمعاذ الله أن يكون ذلك؛ بل أقول إن الذي يصدر كتاباً قيما واحداً لا حاجة له بعد الآن إلى إجهاد نفسه وأتعابها. فقد سلس له قياد الفكر السامي. فليخلد إلى الراحة، وليركن إلى برجه العاجي، وليتنسك ما طاب له في منسكه. ألم يطر عليه كافة القراء؟ أو لم تتشوف إليه كافة المجلات. . .
الحق الذي لا مناص من إثباته هو أن الغرور والزهو والتكبر - تتملك كلها - أكثر أدبائنا؛ فينتجون هذا الإنتاج الضئيل. إن كتاباً واحداً تصدرونه - أيها الأدباء قاطبة - لا قيمة له مهما جل فيه من فكر وسما ما يحوي من آراء
ماذا أفدت أيها الأديب (الساخر. .) الذي يدعي أنه يزجي الوقت كله في مطالعة المؤلفات القيمة وهو لم يصدر - مدى حياته الأدبية الطويلة - إلا كتابين أو ثلاثة!!
وأنت ماذا جنيت أيها الشاعر الذي يقول إنه لا يرتاح ثانية من تصفح دواوين كبار الشعراء وهو لم يطلع الناس إلا على مقطوعات صغيرة، هيهات أن تتجمع ديواناً؟!
وأنت أيها القاص الذي لم يصدر إلا كتاباً واحداً لم يحو أكثر من عشر قصص، أكل ما وقع عليه بصرك من صور حية، ومناظر جمة تثير الفكر، وتمده بالحيوية مثبت في كتابك ذاك؟!
وأما أنت أيها الناسك المفكر، فأفق مما أنت فيه، وأطفئ شمعتك الصغيرة التي لا تومض إلا ومضاً، واخرج إلى الحياة، إلى الشمس النيَّرة. . . اخرج إليها بجسمك وعقلك وروحك وقلبك، فإن لك فيها متسعاً!
لقد غزانا المؤلفون المصريون بمؤلفاتهم، وأثبتوها إثباتاً في بلادنا، فتقبلناها شاكرين، وعُجْنا على مطالعتها متهافتين. وذلك لأنها وافرة، لأنها غزيرة، ولأن في هذه الغزارة قيمة عالية.
ولم نستطع غزو مصر - حتى ولا غزو أنفسنا (إذا أردنا المبالغة) - بمؤلفاتنا، ولم يتقبلها المصريون لأنها نادرة، لأنها قليلة جداً، ولأن في هذه القلة قيمة ضئيلة
كلا! ليست (الدعاوة) التي قصرنا فيها هي السبب في قلة التفاتهم إلينا، وليست (الدعاوة) التي أوفوها حقها هي السبب في تهافتنا على أدبهم!
لا يمضى الشهر المصري دون أن نسمع أن كتابين أو ثلاثة قد صدرت، وتمضي السنة السورية واللبنانية - بل السنون - دون أن نسمع أن كتاباً واحداً قد صدر!
إنها كلمة صريحة آمل أن تُثبت فيقرءوها أدباؤنا. . . علَّ الجد يستحثهم، ويحققون ما يدعون بأن نهضة كبرى تترعرع في بلادنا.
(بيروت)
(كاتب لبناني)