مجلة الرسالة/العدد 435/ثورة علي أبن سينا
→ كيف يكتب التأريخ | مجلة الرسالة - العدد 435 ثورة علي أبن سينا [[مؤلف:|]] |
الصحافة والدولة ← |
بتاريخ: 03 - 11 - 1941 |
أو عقيلة (الأركانا)
للدكتور جواد علي
لقد كان صاحب هذه الثورة ومؤجج نارها طبيب سويسري وفيلسوف أوربي عاش في مدينة (باذل) عاصمة العلم في المقاطعات السويسرية الألمانية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر للميلاد. طبيب كانت له نفس تواقة على التنقل من مدينة أوربية إلى مدينة أوربية أخرى، ومن جامعة أوربية إلى جامعة أوربية أخرى في سبيل طلب العلم والحقيقة؛ في سبيل إدراك كنه الإنسان وسر هذا الكون وعظمته.
ولكنه كان حيث هبط في أرض أو حل في مدينة يجد الكتب اللاتينية العويصة المترجمة عن العربية أو عن اليونانية تحتل المكان الأسمى في عالم علم ذلك الزمان؛ ويجد الأطباء والعلماء يتجادلون في أبحاثهم وفق القواعد المنطقية المترجمة عن العربية أو اليونانية رأساً. يدونون آراءهم في الكون والإنسان وفق ما جاء في كتاب أبن سينا ولا سيما كتاب (القانون في الطب) وكتب أرسطو وجالينوس. لم يكونوا يحكمون عقولهم، أو يستخدمون التجارب في أبحاثهم، أو يجيلون النظر في الأفق البعيد. وهذا ما ساءه جداً ودفعه إلى إعلان عصيانه وتمرده على كتب العرب واليونان معاً.
وقد عرف ذلك الطبيب الفيلسوف باسم الطبيب المتنقل (بارسلس)؛ أما أسمه الحقيقي فكان يتركب في الواقع من بضعة أسماء ضمت بعضها إلى بعض على عادة ذلك الوقت كان يدعى أورويلس ثيوقراستس بارسلس بومباستس فون هوهنسهايم
دعي بالطبيب المتنقل لأنه كان مشغوفاً بالأسفار محباً للتنقل من محل إلى محل ومن مكان إلى مكان. ولقد كون فيه هذا الميل عقلاً يختلف جداً في طراز تفكيره وأسلوب اشتغاله عن طراز تفكير واشتغال عقول علماء ذلك الوقت. جمع في أنسجته وخلاياه خلاصة الثقافات الأوربية المختلفة والنزعات الثورية التي بعثتها النهضة الأوربية على القديم البالي، وخلاصة النزعات العملية التي بعثتها التجارب العلمية التي بدأ يقوم بها علماء الطب والطبيعة في ذلك الحين. فشك في مقدرة كتب أبن سينا الطبية والفلسفية، وزلزل إيمانه بمقدرة كتب أرسطو أو أبقراط أو جالينوس على إنعاش حياة الإنسان من الناحيت الروحية والمادية. ونادى في المجتمعات العلمية وعلى رؤوس الأشهاد أن عصر أبن سينا واليونان يجب أن يزول، وأن أياماً جديدة يجب أن تحل محل تلك الأيام
كانت فلسفة أبن سينا فلسفة هادئة؛ وكذلك كانت فلسفة حكماء اليونان لم يكن فيها ما يبعث على المجازفات والمغامرات والبحث عن الأسرار ومجاهل الأرض. بينما كانت أوربا تتمخض عن حركة جديدة، هي حركة تسخير العلم في خدمة الإنسان والاستفادة من الطبيعة في سبيل رفاهية أبن آدم. كانت كلمة (الأركانا) من أبرز الكلمات وأحلاها في قاموس علم ذلك الزمان. وكلمة أركانا تدل على معان جمة عميقة تدل على المادة السرية التي يمكن بواسطتها تحويل أي معدن خسيس إلى معدن ثمين. ولا يستغرب صدور هذا الميل المادي الجشع من إنسان ذلك الوقت. فقد قلب القرن الخامس عشر العالم رأساً على عقب. كدس الذهب والفضة في بلاط ملوك البرتغال والأسبان، وحرم الشعوب الأوربية الأخرى من مصادر القوة والثروة. ووجد حملة سر (الأركانا) في قصور الأمراء وملوك أوربا مرتزقاً حسناً جداً. كانوا يجوبون عواصم أوربا ليعرضوا على ساداتها آخر ما وصل إليه علمهم عن هذه الكلمة السحرية معشوقة الأغنياء. وكان أبرعهم وأشهرهم الذي تمكن بواسطة بضاعته في علم (السيمياء) وطلاقة لسانه، من السيطرة على عقل الأمير (فردريك) أمير ورتمبرك في عام 1597 م ومن ابتزاز أموال الأمير بلا حساب، لتحويل النحاس إلى المعدن الثمين الذهب. وقد سطر لنا عصر بارسلس عشرات وعشرات أمثال هذا العالم السيميائي الشاطر.
كانت (الأركانا) رمز عقلية الجيل الجديد، ذلك الجيل الذي سخر من عقلية من تقدمه، لأنها في نظرة عقلية قديمة آسنة ذات تفكير قديم. كانت تؤمن بالخرافات وبزخارف القول وما جاء في الأساطير. وما الأركانا في نظره سوى ثورة جديدة على العصور القديمة وعلى ما أنتجته تلك العصور.
ولكن الجديد في عقلية الأركانا حقا هو ثورة الفرد على الطبيعة وثورة الإنسان النشيط على الإنسان المتزن الهادئ، ثورة الجرمانية على العربية واللاتينية.
ولكي يبرهن ذلك الإنسان الجديد على انه إنسان جديد في كل شيء. إنسان عملي حرفي أرادته وتفكيره فرق بين علوم الأوائل وعلوم الأواخر، بين علوم الأجيال التي سبقت القرن الخامس عشر وبين علوم الأجيال التي ظهرت بعد هذا القرن. سمي علم السحر القديم مثلا (علم السحر الأسود) فميزه عن علم السحر الجديد الذي ابتدعه وسماه (علم السحر الأبيض). وعلم السحر الأبيض في نظر إنسان ذلك الوقت علم جديد عملي مجرد من الأباطيل والخرافات؛ وقد ضمن هذا لإنسان على القدماء حتى في مصدر العلم فقال: إن مصدر علمه السماء، أما مصدر علم القدماء فكانت الأرض.
ومادام مصدر السحر الأبيض السماء، فلم لا تكون للأجرام السماوية ذاتها يد في مقدرات الإنسان؟ آمن إنسان الأركانا بفعل البروج والأفلاك في مستقبل الإنسان، ولكنه لم يؤمن كما آمن الأولون. نعم آمن بقدرة البروج والأفلاك، وأيقن بأهمية ليتمكن بواسطة أسرار هذا العلم من معاكسة تأثيرات في السماء، وليسخر قوى البروج الخلفية في صالح الإنسان. أما الإنسان الأول، فقد آمن بها إيمان رجل مستسلم للمشيئة والأقدار يرجو رضا القوى الخفية لتجلب عليه السعادة والرفاهية.
رأينا تأثير السماء على الإنسان، فلم لا يكون للأرض نفس هذا التأثير على الإنسان؟ نعم، للأرض إذا أثر هام على سكان الأرض، وللإنسان إذاً أن يبتدع علماً يقاوم تأثير هذه الأرض، بل للأرض نفس الأثر، حتى على ما في بطون الأرض، فإذا ما تمكن الإنسان من اكتشاف سر هذه الأرض، فإذا ما تمكن الإنسان من اكتشاف سر هذا الأثر، تمكن من إيجاد هذا العلاج الناجح لمقاومة تأثير الأرض. وقد بحث الإنسان عن المادة السرية التي يمكن بواسطتها تحويل المعادن الخسيسة إلى معدن نفيس، وتلك المادة المطلوبة السرية هي حجر الحكماء أو الفلاسفة كما كانوا يطلقون عليها في القرن الخامس عشر للميلاد تؤثر على حياة الإنسان مجموعة قوى أخرى على رأسها (روح الإله العالية) التي تخللت جميع أجزاء هذا الكون، وحلت في كل شيء، فأصبح الكون هو السكون؛ وما الإنسان في نظر بارسلس سوى (العالم الأصغر) الذي هو صورة مصغرة (للعالم الأكبر)
وقد أسبغ صاحبنا على نظريته هذه ثوباً من أثواب الحلولية التي ترد في الصوفية الإسلامية أيضاً ولقد كان لها صدى بعيد في أنحاء أوربا، أثرت على أفكار فلاسفة الطليان والألمان والإنكليز وغيرهم أمثال كيور دانو وكامبنيلا وتيليزيو وروينشلين وبرونوميلنشوتن وأكريبافون نيتيسهايم وهرمان لوتسه الفيلسوف الألماني الشهير (1817 - 1881 م) في القرن التاسع عشر للميلاد قال بارسلس وفي العالم الأصغر وهو الإنسان قوى بنائية روحية تقاوم الأرواح الخبيثة التي تكون في الخارج وتساعد على بناء الجسم ودوام اتصاله بالعالم الأكبر، وما العالمين سوى وحدة واحدة لا تتجزأ لذلك، فأنا للعالم والعالم أنا وقد سمى هذه المادة من كلمة اليونانية ومعناها المادة الأساسية أو الأساس. وكان الفيلسوف اليوناني أنا كسمندد قد استعملها لتدل على هذا المعنى والعلم الذي يبحث في هذه المادة هو أشرف العلوم؛ وحيث أن الطب هو العلم الباحث عنها، لذلك كان علم الطب هو أشرف العلوم طراً وقد شرفه حتى على علم اللاهوت.
ومن واجب الطبيب تنظيف هذه المادة مما قد يتعلق بها من الأرواح الخبيثة وذلك بواسطة العقاقير والأدوية المفيدة. وقد حضر الطبيب الفيلسوف قائمة بأسماء العقاقير والمشروبات المعدنية والأدوية السرية التي تنفع لمقاومة الأمراض النفسية والجسمية معاً. وما الأمراض في نظره سوى صراع بين ال وبين الأرواح الخبيثة والقوى الخارجية المحيطة بالإنسان
وبقدرة هذه العقاقير والمواد السحرية يستطيع الطبيب الذي هو اقرب مخلوق إلى الله من تنظيف الروح والجسد من السادران ومن رفع مستوى البشرية إلى مصاف الأرواح السماوية العليا، وبذلك يتم الاتصال بين (العقل الأول) أو (الروح) وبين العقل الثاني وهو الإنسان. ولذلك لهذه الفلسفة شهرة عظيمة بين رجال المتصرفة من الأوربيين ولا سيما الألمان منهم، فظهر حلاجهم وهو يعقوب وظهر فالنتين وأيكل وظهر أمثال لهذين المتصوفين ينادون بالفناء والاتحادية.
وبعد أن أتم بارسلس وضع قائمة عقاقيره السحرية أجج في ليلة عيد الغفران من عام 1517 ناراً عظيمة في حفل رهيب وتقدم في موكب يتبعه تلاميذه والمعجبون بآرائه يحمل بيديه (إنجيل الأطباء) وهو كتاب (القانون في الطب) لابن سينا (لوثر الأطباء) كما كانت أوربا تسميه وبعد خطبة وحفلة دينية مؤثرة ندد فيها بآراء ابن سينا وزعماء الطب من العرب اليونان، ألقى بكتاب القانون في النار معلنا بذلك دخول أوربا في عصر تفكيري جديد. ولكنه قوبل من الناس بازدراء عظيم واضطرت بلدية المدينة إلى إخراجه من المدينة (باذل) لتجاسره على كرمة أعظم طبيب عرفته العصور.
اجتمعت في بارسلس سذاجة القدماء وتفكير المحدثين. كان زمانه زمان انتقال فطبعه بطابعه الخاص. وجد المحدثون في زماننا فيه رمزاً من رموز التفكير العنيف والإنسانية الفعالة. وعلى الأخص الكتاب الأوربيين منهم. وجد فيه ألفريد دوزنبرك رجلاً أوربياً أعلن حرب الجرمانية على السامية واللاتينية؛ لذلك أسست جمعية أطلقت على نفسها اسم جمعية بارسلس قامت بنشر رسائله ومؤلفاته لأبناء القرن العشرين
جواد علي