مجلة الرسالة/العدد 434/شخصيات تاريخية
→ اتجاهات الاقتصاد النازي | مجلة الرسالة - العدد 434 شخصيات تاريخية [[مؤلف:|]] |
جولة في أسرار الناس ← |
بتاريخ: 27 - 10 - 1941 |
4 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
لعل من الغريب أن نرى الديمقراطية الأثينية لا تفي تيموستوكل حقه من المجد والسلطان بعد انتصاره في معركة سلامين، بل على العكس من ذلك تنكرت له. ونحن لا نستطيع أن نبخسه حقه كما فعلت معه الديمقراطية الأثينية، فشأنها في هذا ربما لا يختلف في قليل ولا كثير عن شأن الديمقراطيات الأخرى في القديم أو الحديث. ويحدثنا هيرودوت أنها ذهبت إلى أبعد من هذا فعملت على أن تتخلص منه، فأرسلته في بعثة إلى إسبرطة ليطلب إليها أن تمد يد المعونة الحربية إلى أثينا في أقرب فرصة ممكنة، ولكنه فشل في هذه البعثة وعاد إلى وطنه فاستقبله مواطنوه استقبالاً فيه شيء كثير من الفتور، وأخذ عليه الأثينيون بوجه خاص كبرياءه وغطرسته، وحان وقت الانتخابات فلم يظهر اسمه من بين المنتخبين ليكونوا الاستراتيج العشرة وهم المشرفون على الحكم في الدولة، وأبعدوه عن الحكم وفضلوا عليه زعيم المحافظين وهو أرشيد. ولعل هناك وجهاً للمقارنة بين هذا الموقف وموقف الديمقراطية الفرنسية غداة انتصارها في الحرب العالمية الكبرى الماضية، إذ تنكرت هي الأخرى لزعيمها وصاحب الفضل في انتصارها وهو كليمنصو فلم تنتخبه رئيساً للجمهورية؛ بل فضلت عليه شخصاً دونه في العبقرية، بل إنه يعد في حكم المتوسطين. وتعليل هذا بسيط: ذلك أن الديمقراطية تخاف على نفسها من هؤلاء الأبطال الذين يحرزون لها هذا النصر ويشيدون لها هذا المجد أن تحدثهم أنفسهم أن يحكموها عن طريق العنف والاستبداد ككل دكتاتور يستبد بالسلطة بعد اشتداد أمره وازدياد أتباعه، أو بعد نصر يصيبه في معركة التحم فيها أو بعد نجاح في بعثة أوفد إليها. ومن الطبيعي أن يكون عدم عرفان الجميل على هذا النحو سبباً من الأسباب التي أدت إلى حفيظة تيموستوكل ضد بني قومه، فكانت هذه الغلطة في نظرنا أولى الخطوات التي أدت إلى تطور ثيموستوكل من جانب اليونان إلى جانب الفرس حتى جعلته يقلع عن خدمتهم إلى خدمة أعدائهم.
وبالرغم من هذا يتجاهل تيموستوكل كل هذا التنكر وينسى نفسه ومطامعه ومصالحه الشخصية فيتفق مع خصمه ومنافسه الزعيم أرسيتد على برنامج للإصلاح القومي الغرض منه بعث أثينا وإعادتها إلى الحياة بعد أن كانت قد أوشكت على الفناء على أثر غزوة أجرزسيس لها، وذلك ببناء ما دمر من بيوتها وإصلاح ما خرب من أراضيها، وكان أساس هذا البرنامج العبارة اليونانية الشهيرة التي مؤداها أن يجعل أثينا تعتمد على ميناء بيريه، وكذلك الأرض تعتمد على البحر.
وهذا البرنامج واسع شاسع لا يمكنه أن يتمه في يوم وليلة؛ لذلك نجده يفضل الأهم على المهم، والضروري على الزائد عن الحاجة، فيشجع على البدء أولاً بإقامة التحصينات اللازمة للدفاع عن الدولة بعد تخريب الفرس لها، أما بناء البيوت وإزالة الخرائب والأنقاض عنها؛ وأما إقامة المعابد الجميلة التي تناسب الآلهة فإنه يعمل على تأخيرها إلى فرصة أخرى مناسبة؛ ثم نراه يحث قومه على الإسراع في بناء هذه التحصينات حتى يتموها في شهر واحد تقريباً، وكانت نتيجة هذا كله أن أصبحت أثينا محاطة بسور متين بلغ طوله 9 كيلومترات.
وأنت لا تستطيع أن تظن أن تنفيذ هذا البرنامج سهل يسير، كلا ثم كلا! ذلك أن أعداء أثينا واقفون لها بالمرصاد، مثل الدول المحيطة بها، كأريجينيا وميجارا وكورنث. وقد فهمت هذه الدول القصد الذي ترمي إليه أثينا، فأخذوا يتربصون لها ويحقدون عليها، وعلى الأخص بعد موقعة سلامين، لأنها كانت تعتبر صاحبة الفضل الأول في إحراز النصر لليونان جميعاً، وقد طلبت هذه الدول إلى إسبرطة التي كانت على رأس الحلف البيلوبونيزي أن تعمل على هدم هذه الأسوار، فهي تخاف من أثينا أن تستطيع وحدها الوقوف على أقدامها فتنجح في الدفاع عن استقلالها ضد كل دولة تحدثها نفسها بغزو أرضيها؛ فإذا تمكنت من الدفاع عن هذا الاستقلال والمحافظة عليه ربما أمكنها أن تلعب دوراً مهما في البيلويونيز وفي غير البيلويونيز. وقد لبت إسبرطة هذا النداء وأرسلت سفراء من لدنها يتكلمون باسمها أمام المجالس الأثينية، ولكن تيموستوكل يفسد عليهم خطتهم بسلوكه مسلك الختل والخداع؛ فهو يحرص قبل كل شيء على أن تقام هذه التحصينات في أقرب وقت مهما كلف ذلك من جهد وعناء، فتمكن من أن يحصل من مجلس (البولي) على قرار بإرساله هو على رأس سفارة إلى إسبرطة لمفاوضة أهل الحل والعقد هناك، وفي الوقت نفسه طلب إلى أعضاء سفارته هذه أن لا يبرحوا أثينا حتى يتم بناء هذه التحصينات؛ ثم ذهب إلى إسبرطة وأخذ يفاوض ويفاوض ويماطل في المفاوضة حتى فطن إلى ذلك أعداؤه وأعداء بلاده، فنبهوا إسبرطة إلى هذا الخداع وطلبوا إليها الإسراع في العمل على تنفيذ رغبتهم حتى لا يفلت الأمر من يدهم ويدها. فترسل إسبرطة سفارة ثانية إلى أثينا ولا تكاد تصل هذه السفارة إلى هذه المدينة حتى تكون الأسوار قد تمت بفضل تفاني جميع المواطنين من شيب وشبان ونساء وأطفال في إتمامها، فاستطاع بعد ذلك أعضاء وفد تيموستوكل مبارحة أثينا والانضمام إليه في إسبرطة، فلما رآهم قد أصبحوا إلى جانبه خلع النقاب وكشر عن الأنياب ورفع الصوت عالياً معلناً لكل من يريد أن يستمع له أن بلاده لا تخضع لوعيد ولا لتهديد، وأنها إذا أرادت أن تأتي أمراً في داخل بلادها فهي وحدها صاحبة الأمر في ذلك، وهي حرة التصرف في شؤونها الداخلية لا تقبل من أية دولة ولا من أية جهة أن تتدخل في أمورها؛ لذلك فإنها ترفض طلب إسبرطة وحلفائها. وما استطاع تيموستوكل إعلان هذا الرأي إلا بعد أن رأى أن وطنه قد استطاع الظفر في الحرب ضد الفرس، بل وأن هذا الظفر يرجع قبل كل شيء إلى جهود بلاده وتضحياتها، فإن كانت الدول اليونانية الأخرى قد ساهمت في إحراز هذا النصر العام فإن هذه المساهمة ضئيلة لا تعد شيئاً مذكوراً إلى جانب ذلك المجهود الجبار الذي بذلته أثينا، فالعدو قد ضرب أراضيها وأنتهك حرمة معابدها وأراضي آلهتها، والأثنيون بعد ذلك شردوا أيما تشريد، وهاجروا من وطنهم إلى بلاد سلامين على نحو ما ذكرنا في المقال السابق، والأرض الأثينية كانت الميدان الذي قاسى الأهوال، وتحمل الكوارث والمصائب. أما البلاد الأخرى في البيلوبونيز فلم تقاس شيئاً من أهوال هذه الحرب. أفهل يحق لها بعد ذلك أن تقسو على أثينا، وأن تطلب إليها أن تكون مجردة من كل وسيلة من وسائل الدفاع، وخاصة وأن تيموستوكل ومعه الأثينيون ما يزالون يعتقدون أن الحرب لم تنتهي وأن الفرس ربما يربحون مرة أخرى لغزو بلادهم؟ كلا! إن ذلك لا يمكن أن يحدث بعد الآن فالدولة الأثينية قد أصبحت رشيدة تستطيع أن تدافع عن مصالحها وحقوقها، بل وأن تذهب إلى أكثر من ذلك فتتسامى عن السياسة الذاتية إلى السياسة العامة، وهي سياسة الدفاع عن جميع بلاد اليونان قاطبة. لم يسع إسبرطة أمام هذا الإصدار إلا أن ترضخ فتركت أثينا وشأنها. وقد لامها حلفاؤها وعابوا عليها هذا المسلك فوصفوه بأنه ينم عن الضعف والتخاذل والإهمال، لأنه من غير شك سيساعد أثينا على المضي في طريقها بعد أن رأت إن أكبر الدول اليونانية لا تستطيع أن تمنعها من تحقيق سياستها، فتشجعت ونهضت بعد هذا البعث الجديد وتمكنت من أن تسير قدماً إلى الأمام لتنفيذ سياستها الإمبريالية وهي سياسة التوسع والفتوح.
نجح إذن تيموستوكل في هذه المهمة، وهي إحاطة أثينا بالأسوار والتحصينات، ولكنه لم يهدأ له بال بعد ذلك إذ رأى أن هذه الأعمال الدفاعية لا تحقق الغرض منها إلا إذا أكملت بأعمال أخرى في ميناء بيريه. فيوجه إلى هذا الميناء كل جهوده لاعتقاده الجازم أن هذه الأعمال كلها مرتبطة ببعضها تمام الارتباط، فلا يصلح عمل منه دون أن يتم العمل الآخر، وهو كثيراً ما نادى - على نحو ما رأينا في ما سبق - أن مستقبل أثينا على البحار، لذلك لم يكن من الغريب أن تكون سياسته كلها موجهة نحو البحر، بل مرتكزة على البحر، فالبحر في نظره عماد كل شيء كما قال في تلك العبارة الشهيرة التي أوردناها منذ حين: (أن الأرض الأثينية تعتمد على البحر والمدينة تعتمد على ميناء بيريه). وتنفيذاً لهذه السياسة يعمل على إحاطة ميناء بيريه هي الأخرى بسور، وقد تم ذلك فبلغ طوله عشرة كيلو مترات بعد أن بناه من الأحجار الضخمة التي استخرجها من المحاجر المجاورة. بل ربط تيموستوكل هذا الميناء الجديد بالميناءين المجاورين وهما (زيا) و (موتخيا) وجعلها كلها ميناء واحدة ومدينة واحدة، وشجع الناس على أن يفدوا إليها من الخارج، أي من البلدان القريبة منها، فأقبلوا زرافات ووحداناً، بعد أن رأوا أنفسهم قد أعفتهم هذه المدينة من الضريبة الثقيلة المسماة وهي التي كانت تفرض على كل أجنبي يريد أن يقيم بها، فكثر سكانها وازدحموا ازدحاماً عظيما حتى أصبحت بعد ذلك أهم ميناء في البحر الأبيض المتوسط، واعتبرت قلب الإمبراطورية الأثينية النابض. ففيها يرسو الأسطول وهو عماد الإمبراطورية الأثينية البحرية، ومنها تصدر الصادرات الأثينية وإليها ترد الواردات من الخارج، كالقمح والخشب والمعادن من البلاد المحيطة بالبحر الأسود أو من آسيا الصغرى ومصر، وكذلك من طريق الغرب من صقلية وبلاد اليونان الكبرى في جنوب شبه جزيرة إيطاليا.
سار الشعب الأثيني وراء تيموستوكل واتبع نصائحه ونفذ إرشاداته وتوجيهاته ولكن إلى حين؛ ثم سحب بعد ذلك ثقته من هذا البطل ومنحها لخصومه زعماء الحزب الأرستقراطي، وكان من أبرزهم في ذلك الوقت أرسيتد الذي طالما ذكرنا اسمه وشخصية أخرى جديدة ظهرت إلى جانبه ثم حلت محله بعد ذلك في زعامة هذا الحزب، هي شخصية الشاب الأرستقراطي سيمون بن مليتاد بطل ماراتون. وكانت هذه الشخصيات الثلاث عبارة عن ثالوث يوجه شؤون الدولة ويدير دفتها في هذه الحقبة من التاريخ.
تتغلب هاتان الشخصيتان الأرستقراطيتان، أرستيد وسيمون، في عالم السياسة الأثينية بقدر ما تتواري شخصية تيموستوكل ويأفل نجمه، وتتفق هاتان الشخصيتان على السياسة الخارجية وهي تقضي بالانصراف إلى شؤون حلف ديلوس والاهتمام بأمره حتى يكمل تنظيمه فيستطيع حينئذ أن يحقق الغرض الذي من أجله أسس وهو الدفاع عن اليونان في بحر إيجه وفي غرب آسيا الصغرى ضد الفرس، وهما لا يترددان، في سبيل تنفيذ هذه السياسة عن الاتفاق مع إسبرطة وتقسيم مناطق النفوذ معها؛ فلها البر ولأثينا البحر. أما تيموستوكل فيقول بغير هذا، يقول بتوجيه الاهتمام إلى حلف ديلوس ولكن على أن يكون هذا الحلف هو القوة المسيطرة وحدها في بلاد اليونان جميعاً، فيجب أن تكون لأثينا السيادة في جميع أجزاء العالم اليوناني، وهو يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع تنفيذ هذه السياسة وإسبرطة قائمة على رأس حلفها، لذلك نادى بضرورة الاتفاق مع الفرس حتى يكون لأثينا الغلبة والسيادة، وبذلك تغيرت سياسة تيموستوكل الخارجية تغيراً يكاد يكون تاماً بعد معركة سلامين. ألم نره ألد عدو للفرس وهو الشخص الذي كان روح المقاومة وبطل الاستقلال؟ ألم نره قد عمل على التوحيد بين اليونان جميعاً لصد الفرس وردهم عن البلاد؟ تغيرات إذن هذه السياسة، فلم هذا التغيير؟ الجواب على هذا السؤال بسيط لا يحتاج إلى كبير عناء، فتيموستوكل لا يفكر إلا في وطنه وفي مصلحة وطنه، ويكاد يكون هذا التفكير شاغله الأعظم، فهو يريد لأثينا الزعامة على بلاد اليونان كلها والسيادة في البر والبحر معاً، والآن وقد زال الخطر الفارسي لم يبق أمام وطنه إلا الخطر الإسبرطي، وقد اعتقد اعتقاداً جازماً لا يخامره الشك أن الفرس بعد هزيمتهم الساحقة، في معركة سلامين، قد أصبحوا أقل خطراً من قبل. لذلك وجه سياسته إلى الاتفاق معهم حتى يتفرغ لمحاربة إسبرطة، بخلاف الزعيمين السابقي الذكر، أرستيد وسيمون، فهما أرستقراطيان، تكاد تتفق ميولهما وتربيتهما مع الميول والتربية الإسبرطية، فنزعتهما أرستقراطية لا تختلف عن النزعة الإسبرطية في قليل ولا كثير. وقد كانت هذه السياسة هي سياسة الحزب الأرستقراطي طول القرن الخامس ق. م. أما تيموستوكل فهو ديمقراطي تختلف نزعاته عن نزعات إسبرطة، وتختلف ميول الحزب الديمقراطي عن ميول الدولة الإسبرطية، لذلك اصطدمت سياسة هذا الحزب بسياسة إسبرطة حتى كان ذلك من العوامل القوية التي دفعت أثينا إلى الحرب مع إسبرطة في النصف الثاني من القرن الخامس ق. م. وذلك في عهد بركليس.
(يتبع)
محمد الشحات أيوب