الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 433/في الطريق إلى الوحدة العربية

مجلة الرسالة/العدد 433/في الطريق إلى الوحدة العربية

مجلة الرسالة - العدد 433
في الطريق إلى الوحدة العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 10 - 1941


للدكتور زكي مبارك

(نص الخطاب الذي أرسله الدكتور زكي مبارك ليلقى في

مؤتمر الخريجين بأم درمان)

أخي الأستاذ رئيس مؤتمر الخريجين

إليك وإلى إخواني عندك أقدم أصدق التحيات، ثم أذكر مع الأسف أن المنهاج الذي رسم لحضوري وحضور الأستاذ (الزيات) لزيارة السودان لم يظفر بالتحقيق، فقد قضى الأستاذ (الزيات) أسابيع بالمنصورة وهو مريض، ثم منّ الله عليه بالعافية بعد فوات الوقت الذي يسمح بتأهبه لحضور مؤتمركم المرموق. أما أنا فقد صدّتني شواغل لو عرفتموها لأكرمتموني بالصفح الجميل. فلم يبق إلا أن أرسل إليكم هذا البحث ليلقيه الأستاذ (محمد حسنين مخلوف) بالنيابة عني، أو يلقيه أديب من الخرطوم أو من أم درمان، وسينشر هذا البحث في (الرسالة) مع أيام المؤتمر، ليكون تحية جهرية تؤيد بها مصر جهادكم النبيل

فماذا أريد أن يذاع باسمي في ناديكم بأم درمان؟

أريد أن أتحدث عن العقبات التي تعترض السائر في الطريق إلى الوحدة العربية بلا مواربة ولا تلميح، لأني أومن بأن عندكم من الفتوّة ما يوجب الخروج على الرموز في مثل هذا الشأن الدقيق، ولأني أفهم جيداً أنكم من طلائع الجيل الجديد، ومن الإساءة إليكم أن يرسل إلى ناديكم كلام ملفوف تعوزه صراحة الصدق وشجاعة الإيمان

ثم أواجه الموضوع فأقول:

كثر التحدث في هذه الأيام وقبل هذه الأيام عن (الوحدة العربية) وذلك يشهد بأنها كادت تصبح من الغايات القومية في الشرق العربي. . . وهل يمكن أن تدور (فكرة) على ألسنة الملايين من العرب، بدون أن يكون لها في قلوب تلك الملايين مكان؟

إن هذه الفكرة لم تدر على الألسنة إلا بعد أن تأصلت في القلوب، فماذا نصنع لوقايتها من العواصف التي تثور من حين إلى حين؟

نترك السياسة جانباً، السياسة الدولية، وننظر إلى هذه الفكرة من الوجهة القومية، فمصايرن بأيدينا، والله لا يغّير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا سلمت ضمائرنا من الزيغ والانحراف فلن تستطيع أية قوة في الأرض أن تصدنا عما نريد لأنفسنا من السداد والتوفيق

والعقبة الأولى في طريق الوحدة العربية هي عقبة الجنس، فكثير من الناس يتوهمون أن الرجل لا يكون عربياً إلا إذا كان من أصل عربي صميم؛ وهذا خطأ في خطأ وضلال في ضلال، فالعربي الحق هو من انطبع على لغة العرب ولو كانت أصوله من المكسيك، ولا يجوز عندي أن ينتسب إنسان إلى العرب وهو لا يعرف من أسرار لغتهم غير أوهام وظنون، ولو قدم الوثائق التي تثبت أنه من سلالة الرسول

العروبة لغة لا جنس. العروبة لغة لا جنس. العروبة لغة لا جنس

ولو شئت لكررت هذه العبارة ألف مرة، بدون أن أشعر بأنها حديث معاد؛ لأن روحي يحس كل حرف من حروفها إحساساً قوياً، ولو كررتها ألوف المرات

وإذن فمن واجبي أن أثور على من يقسم بلادنا إلى أجناس، وبلادنا هي جميع البلاد التي تتكلم العربية في الأقطار الأفريقية والأسيوية

فجميع أهل مصر والسودان عرب، وسكان أفريقيا الشمالية عرب، والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون كلهم عرب، والعراقيون جميعاً عرب، والهنود اللذين يتكلمون لغتنا عرب، وأهل فارس في أصولهم عرب، لأنهم نهضوا بلغتنا المحبوبة في أجيال طوال

والأستاذ سلامة موسى عربي، وإن كان يخاصمني من وقت إلى وقت حول مكانة العرب في التاريخ، بل هو سليم العروبة إلى أبعد الحدود لأنه يتجنى على العرب بلغة العرب، وعروبته أصح عندي من عروبة من صح نسبه إلى يعرب وليس له في خدمة اللغة العربية وجود

العروبة لغة لا جنس، فليفهم هذا دعاة الوحدة العربية، إن كانوا صادقين

وسيأتي يوم ندعو فيه مواطنينا إلى الاندماج في الكتلة العربية، وأريد بهم المستشرقين من أبناء الألمان والروس والفرنسيين والإنجليز والطليان والأسبان، فأولئك إخواننا حقاً وصدقاً، وإليهم يرجع الفضل في تشجيع الدراسات العربية، وإحساسهم بالعروبة أصدق من إحساس العرب اللذين غفلوا عن إدراك ماضي أسلافهم في خدمة الأدب الرفيع العروبة لغة لا جنس، فليتق الله بعض الناس، وليعتبروا بحوادث التاريخ. فماذا دوّن التاريخ؟ دون التاريخ أن (إمبراطورية اللغة العربية) تمزقت بسبب الاعتزاز بالجنس، وهذا الاعتزاز الطائش هو الذي خلق الشعوبية؛ فبسببه أقسم الفردوسي لينظمن الشهنامة بدون أن يحتاج إلى لفظة عربية، وبسببه جلا سلطان اللغة العربية عن بلاد كان لها في دماء أبنائها مكان. وبسبب مقالة حمقاء كتبها كاتب أحمق في فضل العرب على الأتراك أقسم أتاتورك ليهجرن الحروف العربية. وبسبب هذا الاعتزاز الطائش عاشت لغات في المغرب والشام والعراق، لقصد الطائشين من العرب عن القول بأن لغتهم أحسن اللغات، وبأنها ستكون لغة الناس جميعاً في (دار الخلود) كان العرب وحدهم أبناء آدم، وكأن من عداهم وحوش لبسوا أثواب الرجال!!

العروبة لغة لا جنس. وهل كان جان جاك روسو فرنسي الأصل، وبفضل بيانه الساحر نهضت لغة الفرنسيين؟

العروبة لغة لا جنس. وهل كان أحمد شوقي عربي الأصل وهو من طلائع النهضة الشعرية في الأدب العربي الحديث؟

العروبة لغة لا جنس. وهل كان وهيب دوس عربي الأصل وهو أصدق من عرفت في التغني بأشعار العرب من قدماء ومحدثين؟

وهل كان مكرم عبيد عربي الأصل وله خطب طوال تذكر بخطب سحبان؟

ليتّق الله بعض الناس في ميراث العروبة، وليحذروا من أن يخربوا بيوتهم بأيديهم، عن علم لا عن جهل، وزلة العالم أبشع الزّلات

وما الموجب لأن يكون في الدنيا عرب خلص؟

لو اقتصر العرب على التزاوج فيما بينهم لبادوا وانقرضوا، فما انطوت أمة على نفسها إلا استهدفت للفناء

وهل استطاع العرب أن يسيطروا على العالم حيناً من الزمان إلا بسبب التخلص من العنجهية الجنسية؟

إن التحرر من ربقة الجنس هو البند الأول من وصية الزعيم العربي الأول، وهو محمد بن عبد الله الذي مكن العرب من سيطرة عالمية لم تخطر لأسلافهم الأقدمين في بال، وهي سيطرة روحية لن يظفروا بمثلها إلا إن تخلقوا بأخلاق ذلك الزعيم الحصيف

العربي الصحيح النسب إلى يعرب قليل الوجود، وهو حين يوجد لا يكون إلا جسداً هامداً لا نفع فيه ولا غناء، لأن التزاوج بين الأجناس شريعة طبيعية، ولا يخرج على تلك الشريعة إلا من كتب عليهم الأفول

إن نبيكم صاهر أمماً لا تمت إلى العروبة بجنس ولا دين، فهل تتوهمون أنكم أهدى منه إلى سواء السبيل؟

اتقوا الله في أنفسكم وفي ماضيكم، وتمسّكوا بشمائل ذلك الرسول لتفوزوا كما فاز أسلافكم الماجدون، واتقوا حاضركم فتناً لا يتعرض لشرها إلا الجهلاء والأغبياء

العروبة لغة لا جنس، فافهموا هذه الحقيقة يا بني آدم من أهل هذا الجيل

أما العقبة الثانية في طريق الوحدة العربية، فهي عقبة الدين؛ فقد توهم قوم أن العروبة والإسلام شيء واحد، وبذلك كثر ارتيابهم في صحة الأخوة العربية، حين يتصل بها ناس من غير المسلمين.

والحق كل الحق أن العروبة والإسلام شيء واحد، على شرط أن نفهم المراد الصحيح لهذا التعبير المريب

الإسلام هو أصدق أثر صدر عن العرب، ولولا الإسلام لبادت لغة العرب منذ أزمان طوال وإذن، فمن واجب العرب من غير المسلمين أن ينظروا إلى الإسلام بعين الرفق والعطف لأنه صوتهم وصوت آباءهم وأجدادهم فيما غبر من الأجيال، وإن لم تأنس آذانهم بذلك الصوت الجميل بفضل تناحر المذاهب والديانات، وهو تناحر لن يقدر على طمر ذلك الينبوع الفياض ذلك واجب العرب من غير المسلمين، فما واجب العرب من المسلمين؟

واجبهم أن يفهموا أن النصرانية واليهودية ديانتان عربيتان. وهل نكون أعقل وأحكم من النبي محمد وقد نظر إليهما بعين الإعزاز والتبجيل، ولم يحارب غير من شوهوا النصرانية واليهودية بالتزوير والتحريف؟

للإسلام والنصرانية واليهودية مسرح واحد هو بلاد العرب؛ وهذه الديانات هي سلطاننا الأدبي في الشرق والغرب؛ وهي حجتنا يوم تطلب الحجج على تفوق بعض الشعوب على بعض. ولعل هذا هو السبب في أن أكابر المسلمين في العصور الخوالي لم يفّهم أن يدونوا ما في التوراة والإنجيل من حكم وأمثال

إن من المعجزات أن تكون أعظم الديانات المسيطرة على العالم ديانات عربية الأصل، فمن طاب له أن يغمز إحدى هذه الديانات فهو عربي مدخول، لأنه لا يعرف أثرها في التنويه بمجد العرب في العالمين

الرأي عندي أن الروحانية العربية تطورت من حال إلى أحوال فانتقلت من الموسوية إلى العيسوية ثم إلى المحمدية. فهي قد تغيرت في الفروع، مع الاحتفاظ بالأصول. والأصل الأصيل عندنا وعندهم هو التوحيد، والتثليث الذي أنكره القرآن على النصارى لم يكن إلا صورة حرفية من صور الإغراق الذي أولع به بعض أنصار المسيح، وهو إغراق ينكره النصارى المستنيرون في هذا الزمان

إن القرآن يلاطف مخاصميه فيقول: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)

وعقيدة التثليث لم توجد بعد عدم، فهي في الأصل عقيدة مصرية، وعلى ذلك تكون جزءاً من ماضينا، ونحن لن نتنكر لأجدادنا أبداً وإن قيل في عقائدهم ما قيل

ثم أثب إلى الغرض الذي أرمي إيه فأقول: إن الإسلام يحكم بالكفر الموبق على من يمس شخصية موسى أو عيسى بسوء؛ فمتى ننتظر أن تكون شخصية محمد شخصية قدسية في البيئات المسيحية والإسرائيلية؟ متى؟ متى؟ ومحمد أوصى أصحابه بأن ينظروا إلى موسى وعيسى بعيون لا ترى غير الجميل

وخلاصة القول أن اختلاف الديانات لن يعوق الأخوة العربية إذا صحت النيات، لأنه اختلاف أراده صاحب العزة والجبروت، وله في إيقاظ الحيوية العربية تاريخ أو تواريخ

قد يصير العرب جميعاً إلى دين واحد بعد جيل أو جيلين أو أجيال، فليكن لهم منذ اليوم أدب واحد هو التآخي الصحيح؛ فمن المؤكد أن المسلمين لن يسمحوا بهدم كنيسة أو كنيس إن تمّ لهم الفوز المطلق، لأن معابد النصارى واليهود عنصر أصيل من عناصر الروحانية العربية، ومن قال بغير ذلك فهو آثم في حق (الوحدة العربية) وهي فكرة دعا إليها نصارى الشام والعراق قبل أن يدعو إليها المسلمون، ولذلك أسباب فصلتها قبل اليوم بإسهاب

قيل ألف مرة: (إن الدين لله والوطن للجميع) ولو تدبرتم لعرفتم أن الدين لنا أيضاً، والله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأعمال، وإنما ينظر إلى القلوب وخلاصة الخلاصة في تحرير هذه القضية أنه يمكن للرجل أن يكون عربي اللسان والذوق والعصبية، ولو كان من أعداء الدين، لأن العروبة لغة وليست بجنس ولا دين، وإن كان من المفهوم أن القرآن هو سفير اللغة العربية إلى مختلف الشعوب. ومن واجب العربي غير المسلم أن يفرح لسيرورة القرآن في المشرقين، لأن سيرورته من أقوى الحجج في نصرة القضية العربية.

والقائلون بأن اللغة العربية لغة المسلمين لا يخدمون الإسلام بهذا القول، وإنما يبعدون عنه أنصاراً أمدته بهم جاذبية اللغة العربية. والشواهد تنطق بأن النصارى من العرب والمستعربين أدوا للإسلام خدمات يعرف أقدارها عقلاء الرجال

في الدنيا معنى يسمى الديبلوماسية السياسية، فلم لا يكون عندنا ديبلوماسية إسلامية كالذي كان عند أسلافنا الأمجاد، يوم كانت عقولهم تدعوهم إلى تألف من يخالفونهم في الدين؟

أما العقبة الثالثة في الطريق إلى الوحدة العربية فهي اجترار حوادث التاريخ، ولتوضيح هذه النقطة أقول:

كان أبناء العرب قد اختلفوا في أشياء مذهبية وسياسية وجنسية، وهو اختلاف مشؤوم عاد عليهم بالوبال، وكانت له عواقب في الأقطار المصرية والمغربية والسورية والعراقية، ونال من قوة العروبة أضعاف ما نالت فوادح الخطوب؛ فمن واجبنا أن نبالغ في تناسي ذلك الاختلاف إلى أن ننساه، فإن لم نستطع فلننظر إليه بعين العقل، ولنفهم أنه اختلاف قضت به ظروف لا يصح أن نحمل جرائرها بحال من الأحوال

كان بين الأقباط والمسلمين في مصر نزاع وقد محته الأخوة الوطنية، فما الموجب لإحياء ذلك النزاع؟ وكان بين السنة والشيعة في العراق شقاق، وقد محته الأخوة القومية، فكيف يستبيح عاقل إحياء ذلك الشقاق؟ وكان في البلاد السورية خلاف أثارته النزعات المذهبية، وقد خمد ذلك الخلاف بفضل الأخوة العربية، فكيف يصح لإخواننا هناك أن يوقظوا ذلك الخلاف؟ وكان في الأقطار المغربية قتال أرّثت ناره العصبيات الجنسية، ثم أخمدته الأخوة الإسلامية، فكيف يجوز بعث أسباب ذلك القتال؟

إن من الجرائم المنكرة أن نرى نعيق المفسدين يتصايح من وقت إلى وقت بدون أن نقضي عليه بحزم الرجال! يجب أن نفهم المفسدين أنهم حبائل الشيطان، وأننا لا نجهل السر في حرصهم على إذاعة ما يدعون من مبادئ وآراء؛ فهم جماعات من العاجزين عن طلب الرزق من وجهه الصحيح، ومن كانوا كذلك فمن واجبهم نحو بطونهم أن يلبسوا ملابس الدعاة إلى الحق، والحق منهم براء!

كل دعوة إلى الفرقة لها سبب تعرفه أمعاء المفسدين، والرجل الصادق في الدين والوطنية لا يرضيه أبداً أن يثور بين قومه خلاف يصل إلى تمزيق الأواصر والصلات

ولن نستطيع رفع القواعد من بناء الوحدة العربية إلا إن ضمنّا السلامة من مكايد اللذين يؤذيهم أن تزول أسباب الخلاف، ومن الخلاف تمتلئ بطونهم الخاوية، قاتلهم الله أنى يؤفكون!

وهنالك عقبة رابعة هي غفلة الصحافة عن رعاية الوحدة العربية، وفي شرح هذه النقطة أضرب بعض الأمثال:

كاتب مصري يقول: إن مصر أفضل الأمم العربية

وكاتب سوري يقول: إن المصريين ليسوا بعرب وإنما هم فراعين

وكاتب عراقي يقول: ليس للعروبة وطن غير العراق

فأمثال هؤلاء الكتّاب يجب صلم آذانهم بدون ترفق، لأنهم دعاة الفرقة والشتات

وأنا أقبل أن يجرح المصري مصر، ولو بسوء نية، ولكني أرفض أن يجرحها أحد إخواني في الشام أو العراق، ولو بحسن نية، وكذلك الحال هنالك، فالسوريون والعراقيون يقول كل منهم في بلده ما يشاء، ولكنه يغضب ويثور حين يغمز بلده في جريدة مصرية، ولو كان الكاتب أصدق أنصار الوحدة العربية

وفي هذا المقام أذكر أني عاديت رجالاً من أهل لبنان لأنهم قالوا في مصر كلاماً لا يقاس إلى بعض ما أقوله فيها من حين إلى حين

وقد أطلعت وأن طالب في السوربون على جريدة لبنانية تشكّك العرب في مركز مصر الأدبي، فحفظت تلك الجريدة، ونقلتها مع أمتعتي من باريس إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى بغداد، وقد مزقت ما مزقت من الجرائد والمجلات لأخفف العبء عن مكتبتي بعض التخفيف، ثم ظلت تلك الجريدة في أمان من التمزيق، لأرد عليها بعنف حين تسمح الظروف

يقع مني هذا الحمق، مع أني أدعي لنفسي حرية العقل، فكيف يكون الحال عند إخواني في سائر الأقطار العربية إذا تعرضت بلادهم لكلمة سوء تصل من خارج الحدود الجغرافية؟

من المؤكد أنني لم أتفرد بهذه النزوة العقلية، فالعراقي يقبل أن تشتم بلاده في جريدة عراقية، ولكنه يرفض أن تغمز في جريدة سورية أو مصرية. واللبناني يجرّح وطنه من وقت إلى وقت، ولكنه يثور على ذلك التجريح إذا صدر عن جريدة مصرية أو فلسطينية أو عراقية

هذه نقطة حساسة جداً فلنرعاها أتم المراعاة في جميع الظروف، ولنفهم أن إخواننا في غير مصر لهم قلوب يؤذيها التحامل ولو بالرمز والإيماء

أما العقبة الخامسة فهي انصراف أبناء العرب بعضهم عن بعض، في الظروف التي توجب التعاضد والتساند والمواساة، ولو بالكلام، وهو لا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً من العناء

إن كلمة وجيزة تكتب في جريدة مصرية طّبا لجرح تعانيه إحدى البلاد العربية يقع موقع البلسم الشافي لذلك الجرح، فما بخلنا بمثل تلك الكلمة، وهي أهون ما في الدنيا من تكاليف؟

وقد تلطفت المجلات السورية واللبنانية والعراقية فأخرجت أعداداً خاصة في التنويه بالثقافة المصرية، فماذا صنعت مجلات مصر في رد ذلك الجميل، بل ماذا صنعت هذه المجلات في التنويه بمؤتمر الخريجين في السودان، والسودان أخو مصر الشقيق؟

يجب أن ترفع غشاوة الغفلة عن بعض العيون، ليصح لمصر أن تقول إنها الدعامة الأساسية للوحدة العربية، وهي كذلك لو أرادت، فهل تريد هذه الأخت الظلوم؟

مصر تعمل ولا تتكلم، فهي بالفعل سناد الوحدة العربية، وهي بالفعل حصن العرب الحصين، فكيف تبخل بكلمة تعلن بها أن أرض مصر ملك ورثه العرب عن الفراعين؟

يستطيع أي بلد أن يكفر بالعروبة حين يشاء ألا مصر؛ فما يجوز لها أن تتخلى عن مجد بنته بأيديها في عصور الظلمات، حين كانت العروبة من خيالات الأوهام والظنون بعد سقوط بغداد بأيدي المغول

أما بعد فهذه كلمتي إلى مؤتمر الخريجين في السودان، وهي كلمة تلخص آرائي في العقبات التي تعترض طريق الوحدة العربية، وقد أوردتها صريحة منزهة عن الرمز والتلميح، لأنها ستلقى على فتيان صراح هم شبان السودان، أعزني الله بودهم الوثيق وهل تستطيع هذه الكلمة أن تغفر ذنوبي في التقصير نحو ذلك القطر الشقيق؟

ذلك جهد المقل، وجهد المقل غير قليل، وسأزور ناديكم بعد أسابيع، فما يرضى الله أن أعيش بعيداً عن مصادر الوحي في أعالي النيل

زكي مبارك