الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 433/أومن بالإنسان!

مجلة الرسالة/العدد 433/أومن بالإنسان!

بتاريخ: 20 - 10 - 1941

10 - أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

زال عهد الصمت والجمود - رسالة يبعثها سر الإنسان -

ضآلة لا تبعث على الاستكانة - لا تتعجلوا النتائج - موارد

فياضة معطلة تنتظر الصنعة - السيد هو إنسان الصناعة -

بين قيادة البقر وقيادة الفولاذ - مضى زمن التخريف في الله

وبقى التخريف في الإنسان - برزخ على هوة! - سر ظهور

الدين قبل العلم - أسس خفية لحياة الاجتماع - أباطل أصلح

للحياة من الحق؟ - مم تفجر نبع الضمير؟ - حيث الأنس

بالإنسان.

قديماً كان كل شيء في الطبيعة صامتاً جامداً أيام بدء ظهور الإنسان. فلم يكن يتكلم غير هو؛ بل كان هو أيضاً أبكم محبوس اللسان لا يتكلم إلا بمقاطع ساذجة وأصوات وجدانية؛ وكانت وجوه الطبيعة صامتة مبهمة، وأبوابها موصدة. . .

والآن صارت الأشياء متكلمة محدثة طليقة الوجوه مفضوحة الأسرار. أنطقها الإنسان الذي علمه الله البيان فعلمه هو بدوره إياها وجرد منها حناجر تحدثه وتعيد عليه حديثه لتؤنسه في رحلته إلى صوب مجهول. . .!

ولقد زادت عجائب الكون بانضمام العجائب الإنسانية إلى العجائب الإلهية في الطبيعة. وكان كفر الإنسان بالله ناشئاً من ذهوله عن بدائع مصنوعاته تعالى، وكذلك صار الآن كفر الإنسان بنفسه ناشئاً عن ذهوله عن مصنوعاته هو!

ألا إن حمله على الإيمان بنفسه رسالة لا تحتاج إلى رسل يبعثهم سرّ السماء إلى الأرض، وإنما تحتاج إلى رسل يبعثهم سر الإنسان ووحي أعماله في الأرض. . .!

وقد ظل الله ربه يقول له وهو طفل جاهل قاصر عاجز: من هنا الطريق. . . إلى الحياة والملكوت. افعل هذا واترك هذا. كن كذا ولا تكن كذا. . . حتى أدرك جادة الحياة الكبرى وبانت له تباشير المدنية المنشودة التي كان يحلم بها ويطلبها من الرسل كمعجزات. فأسرع إليها وغمرت حواسه دهشتها وأعاجيبها، وألهاه ذلك عن التفكير في نفسه فعاش في ضجة ما يصنع كما تعيش دودة القز في الشرنقة. . .

وقد خلى الله بينه وبين الحياة بعد أن ترك له وصاياه في الصحف الأولى. . .

قد يقول قائل: ماذا يريد ذلك الإنسان المحدود من ضجته في الأرض؟ ضجة حناجره ومصانعه ومدافعه وجراراته ودباباته وطياراته وبوارجه؟ إنه ضئيل، وإن مسرحه ضئيل. فهو شيء صغير على سطح الأرض وهي ذرة سابحة مع ملايين الملايين من النجوم والكواكب. فماذا عساه أن يصنع حتى لو ركب الأرض نفسها وصرفّ مقاليد سيرها كما يصرفّ مقاليد طياراته وجراراته؟ أليس الفناء نهايته ونهاية ما يصنع؟

فأقول لأمثال هذا: رويدكم. . . لا تتعجلوا نتائج حياة الإنسان ولا تشكوا في إنها ستكون عظيمة أعظم مما تتصورون بعد أن رأيتم من فعله ما لو رآه آباؤكم لماتوا عجبا!

إنكم تشكون فيه لأنه لم تثبت لحياته نتائج دائمة، وعندكم أن كل أعماله ملاه وسلويات في شئون خاصة كالشئون الخاصة بأي فصيلة من فصائل الحيوان

كذلك قال الذين لا يعلمون من آبائكم مثل قولكم. إذ لم يروا ميتاً يرجع ومفقوداً يؤوب. . .!

ولكن الأمر في حياة الإنسان وخلوده ليس كما تتوهمون أمراً متعجلاً، وليس ماضي عمره على الأرض طويلاً. إنه ثمرة لا بد من نضجها في زمن معلوم تظهر بعده نتائج خالدة وأسرار مخبوءة لها صلة وثيقة بالكون الطبيعي نفسه وبالروح الأكبر الذي وراء الطبيعة

وسيري الذين يذهبون الآن أنهم بعد الموت في دور انكشاف وظهور، إذ لا يعقل أن يمضي هذا الخالق الصغير إلى الفناء المطلق. . .

ثم أقول: ماذا تريدون أن يفعل إذن؟ أتريدونه ينام حالماً يدخن النارجيلة والحشيشة والأفيون كما يصنع أغلب إنسانية الشرق المضيّعة؟ أم تريدونه يجلس فارغاً ينتظر الموت وينشد الأشعار ولهو الأحاديث؟

إن عليه أن يملأ هذه الأرض بالضجة والقوة التي يستطيع تسخيرها، وأن يسلط قوى نفسه الكامنة على هذه المواد الساكنة ويثيرها أيما ثورة ليدخلها في نطاق الحركة بعد السكون والحياة بعد الركود. . . ولا عليه بعد ذلك أنه ضئيل فوق زورق ضئيل يسبح في عيلم كبير. . .

فلو نظر الإنسان إلى جبروت الطبيعة وهول السماء لاستصغر جهده على الأرض مهما عظم ولم يفعل في حياته إلا ضرورات احتياجاته. وبالطبع هذا يرده ضعيفاً مستضعفاً شقياً فريسة لغيره كما كان؛ ولكنه إذا آمن برحابة نفسه وقوة فكره وقدرته على أن يفعل الأعاجيب، وأنه على ضؤولة جسده يستطيع أن يحرك الجبل وينسفه بتسليط قوة طبيعية أخرى عليه. إذاً كان هذا به أولى وعليه أنفع وأجدى، وكان هذا أشرف له إذ يجعله قوة من القوى العاملة الجبارة في الحياة

إن عليه أن يصنع ويتمتع ويتفرج بما يصنع. . . وربما يكون هناك عالم آخر يتفرج أيضاً بما يصنع الإنسان ويتمتع به كما نتمتع نحن بنتاج النحل ومنافع كل كائن أقل منا في الأرض إدراكاً واحتيالاً. . .

إن الطبيعة تغازل فكره وتثيره للعمل فيها منذ أيامه الأولى، فالطفل يبحث في محيطه ويسلط جميع حواسه على محتوياته فيراه ويلمسه ويذوقه ويتسمعه ويشمه حتى يحيط بخواصه ويثير كوامنه ويطلقها خيراً من تعطيلها وسجنها

وقد وجدنا كل ما في الطبيعة من مواردها الكبرى بسيطاً غير معقد، فياضاً بكميات كبيرة جداً، خاضعاً للتعقيد والتركيب والتأليف والتوزيع والتنويع. . . فدلنا ذلك على أن هذه المواد إنما وضعت هكذا هائلة فياضة انتظاراً لصنعة ستتناولها بها يد صناع

وكلما رأيت غزارة ماء الأمطار - وهو أصل الحياة - وكثرة المقادير التي تصبها الأنهار في البحار فتذهب من غير انتفاع إلا بجزء قليل جداً منها. . . قلت: إن هذه الكميات الهائلة إنما أفيضت لا لإخصاب السهول الحافة بها فقط، والتي تصل إليها مياهها في سهولة ويسر. . . وإنما أفيضت لإخصاب هذه الأراضي البور من الصحاري والسهوب الضمآى العقيم. . .

وكلما رأيت مناجم الأرض تمتلئ بالمعادن والركاز المعطلة وهي ذات النفع العظيم والإمتاع الدائم، قلت: هنا موارد ظلت الطبيعة تحفظها في صدرها حتى أتى يوم بعثها على يد من عرف أسرار الانتفاع بها في زمن نمو علوم الآليات والكهرباء وكلما رأيت أغلب مناطق الأرض لا تزال خالية من السكان أو غير متشبعة بهم. . . قلت: هذه مساكن احتياطية لأقوام آتين ستلجئهم ضرورات الزحام إلى سكناها وتعميرها وتعديل مهودها؟ وأجوائها وإخصاب بقاعها. . .

وكلما رأيت البحار السبعة وما فيها من عوالم وعناصر وموارد للطعام والدفء والصناعة. . . قلت: هذه قدور هائلة يطبخ فيها مستقبل مجهول لهذا المخلوق. . .

فهذه المقادير العظيمة من المياه والمعادن والأراضي والغابات ظلت تفيض فيوضها بالكيل الواسع، وتدور دوراتها وترجع من غير أن ينتفع بها أحد انتفاعاً يبرز غزارتها إلى أن أتى عصر تفتح حاجات الإنسان الصناعية والعمرانية بتفتح أسرار الطبيعة لفكره، فإذا بهذه الموارد التي كان يظن البعض أن فيها إسرافاً وتبذيراً يبدو لعيون العلماء وأرباب الصناعات والأعمال أنها موزونة متكافئة مع نمو حاجات الإنسان واتساع افتنانه. . .

هذه الحياة الصناعية البارعة المعقدة كانت هي أعظم الموحيات الآخذات نفسي إلى الإيمان بالإنسان وإلى الكشف عن قوته الإبتداعية النامية المنمية. وإن بها تفرده وامتيازه بين الكائنات في إحداث الأشياء، وفي تغلبه على غيره من الحيوانات، بل وفي تغلب بعض أقوامه على بعض. وقد نمت قوته الصناعية نمواً عظيماً حتى بدت في هذه القوى الساحقة التي يستخدمها الآن في حربه. . .

ولا شك أن إنسان الصناعة هو سيد الأرض. أما إنسان الزراعة فمهما افتن فيها وهندس واجتهد فإن حياته حياة بدائية، لا تعقد الفكر ولا تترك في الأعصاب أثر القوة والابتداع والسيادة. وقد صارت الزراعة الآن خاضعة إلى حد كبير للصناعة ذات تبعية لها. . .

ولذلك رأينا الأمم الصناعية تسود الأمم الزراعية على رغم القلوب الطيبة والمثل العليا التي تشيع بين الزراعيين في العادة منتقلة إليهم من اعتمادهم بعد بذل جهودهم على منزل الغيث وباعث الخصب. . . ومن طول معاشرتهم للنعاج الوديعة والبقر المطيعة والأنعام التي تعطي ولا تأخذ، وتسام على الخسف ومع ذلك تجتر سعيدة حالمة. . .!

وطبيعي أن يتغلب من يدرب أطفاله على ركوب الحيوانات الحديدية وقيادة الوحوش الفولاذية على من يدرب أطفاله على ركوب الحمير والبغال، وقيادة الأغنام والأبقار. . .

وكل ما يحدثه الإنسان في المواد يدل على اتساع مدى نفسه وامتداد خيالها، وأخذها من محيط واسع عميق، وامتياحها من ينبوع زاخر بالصور والأشكال والأنواع، وقوة تعقيد فكرها وقدرتها على إحداث نسب جديد، بين العناصر والمواد. . . وهذا ما لا وجود له في الزراعة

ولكي تدرك ما أرمي إليه، فكر في الحياة الصناعية من المسمار الصغير إلى المصنع الكبير وما بينهما. . .

يلام الإنسان على غفلته عما صنعه هو بيديه وملأ الدنيا به كما كان يلام في العصور السالفة على غفلته عما صنع الله في الطبيعة

ولقد مضى زمن التخريف والضلال في العقيدة بالله رب الطبيعة، لأن الحياة لا تحتمل الجهل به تعالى إلى الحد السخيف الذي كانت فيه عبادة الأصنام والأشخاص والنجوم وغيرها. ولا تحتمل أن تجرد الطبيعة منه تجريداً كالذي كان من المعطلين منكري القصد والإرادة والعناية فيها. ولفظت العقول الأديان التي تعتمد على غير العقل في إثبات حقيقة الوجود الأولى والحقائق التي تليها؛ وعشق الناس جمال الطبيعة وصدقها، وعرفوا من أسرار الصناعة فيها، فيبقي عليهم لتكمل عقائدهم في الحياة أن يتيقظوا دائماً لمنشئها ومديرها، ويتقربوا إليه بالفكر فيه وتكريم اسمه كما يتقربون على الأقل لأساطين علمائهم الذين عرفوا من علومه جانباً ضئيلاً. . .

ولكن جد تخريف وضلال في العقيدة بالإنسان بسبب فرض لم يثبت في نظرية النشوء والترقي، أطلق حوله كثيراً من الاعتقادات الفاسدة. ومقاومة هذا التخريف الأخير هي أهم رسالات الدين في هذا العصر.

هذا الفرض جعل كثيراً من الناس لا يريدون أن يصدقوا أن بينهم وبين الله صلة محترمة أو عناية. وكأنهم يجفلون من التكريم والإحسان اللذين يقول الدين إن الله يصطنعهما في معاملة الإنسان

وهم يقولون إن حياة الإنسان بالنسبة لله تعالى حياة تافهة ضئيلة، وإن بينهما هوة سحيقة لا عبور لها، وأن الحياة الإنسانية على الأرض لا تقدم ولا تؤخر في سير الناموس الأعظم الذي ينتظم الكون. فسواء على الله وعلى الكون أن يضل الإنسان أو يهتدي، أن يعف وأن يشره. . . فتلك شئون خاصة به خاضعة لاعتبارات مجتمعه، وسوف يفني بأخلاقه وأعماله كما تفنى النمال والنحل، وكل ما لبسته الحياة من غير رُجعى أو مصير أكمل. . .

ولكن الواقع أن ضجة الإنسانية وحدها، وتغير الأرض بها وحدها، وتعقد الدنيا بها وحدها، واطراد نمو الحياة المادية وانكشاف خصائصها بها وحدها، وارتقاب غاية مجهولة منها وحدها. . . هي أمور من الحق بحيث تشغلنا عن سواها وعن شبهات ضآلة الإنسان بالنسبة لله. . . وهي ذاتها البرزخ الذي نعبر عليه تلك الهوة التي بيننا وبين الله!

فعندما ينظر ناظر لظاهر مجموع الناس يخيل إليه أنه لا صلة بين قلوبهم وأفكارهم وبين السماء، وأنهم غير مأبوه لهم من صاحب الوجود. . . وحينئذ تنطلق الاعتقادات الفاسدة والتافهة بالحياة وتنطلق وراءها الغرائز الخطرة، وتوجد (طمأنينة الكفر!) وينظر الإنسان للإنسان على أنه شيء تافه يصح سلبه واستعباده وقتله. . .

ولكن عندما ننظر للحياة الإنسانية من داخل القلب نجد النظر يخلق المنظور خلقاً آخر جليلاً، ويشعر الناظر بأن عين الله راعية وصية على هذا المخلوق. . .

فما أعظم أثر هذا في طمأنينة النفس حتى لو كان هذا باطلاً! إنه يرفع آمال النفس البشرية وأفكارها حتى يجعل منطق الله خالق الطبيعة الهائلة منطقها هي. مع أن الهوة بينها وبين الله سحيقة، إذا استسلم الإنسان للعلم وحده في عبورها لن يتمكن! إذ يجد مكانه في الوجود يكاد يكون لا شيء. . . إذ الأرض ذاتها لا شيء بجوار عظمة الكون، فما بالك بالفرد الضئيل فيها؟ هذا يجعل للنفس ثقة وإحساساً بالعظمة، إذ يجد به الإنسان لنفسه مكاناً ملحوظاً في الوجود حين يجعل علاقته مباشرة بصاحب الوجود. . .

ومن العجائب في ظهور حياة الإنسان وتدرجها، أن حياة التدين فيها سبقت حياة العلوم، فبينت حياة التعزية والثقة على الدين قبل العلم

ولو قد سبق العلم الدين إذاً لكان موقف الإنسان في الحياة موقف ابن الطريق الشريد القادر الفاجر، الذي لم يجد أباً وأماً يأخذ من حنانهما حناناً لنفسه، ويعرف أن قلبيهما منبعان غزيران لصفات الإخلاص والرحمة والحب، بل وجد نفسه مدركاً رشيداً، ذكياً قاسياً، على قارعة الطريق تدافعه زحمته، يعرف جرائم الحياة وجفاءها، وأخلاق الشوارع والأسواق، ولا يعرف روابط الأسرة ومعاملة الأخوة والنبوة ووصايا الأمومة؛ فيكون موقفه فيها موقف قاطع الطريق المسلح بالأدوات والمهارة. . .

علام يقوم بناء الحياة الإنسانية؟

حين أستعرض نظام مدينة أو أمة أو إمبراطورية، فأجد ناسها يعيشون في تفاهم وتعاطف ومبادلة منافع، وأجد مرافقها ومبانيها وشوارعها ومصانعها ومعاهدها تقوم في دقة وموازنة وجمال وأمانة كأنها من الطبيعة الموزونة بيد الله. . . أسائل نفسي:

من الذي أقام بناء هذه الحياة الإنسانية في تلك الأمة أو المجموعة على هذه الأوضاع العظيمة؟! ومن الذي سدد جهاد أفرادها جميعاً نحو غايات مشتركة وأهداف موحدة؟

ومن الذي أعطاها تلك الروح الاجتماعية التي تسلك في أعمالها وآمالها مسلك الروح الواحد في الجسم الواحد؟

ومن الذي هذب طباعها ورققها وجملها وصقلها وسار بها شوطاً بعيداً من عيشة الوحشية والتأبد، إلى هذه الإنسية والاجتماع؟

ومن الذي أقام هذه الأسر والعائلات على التراحم وجمع أطفالها ورجالها على الحب؟

إنه لا شك سر النبوات التي نبعت من القلوب الكبيرة التي كانت للإنسانية في مهد نشؤها كالأمومة الرحيمة المضحية المربية المسددة

إن هذا لا شك هو الأساس الأول الذي قامت عليه الحياة الاجتماعية وذهب بناؤها مطرداً في العلو والسموق

فلئن غابت الآن عن الأنظار القصيرة والأفكار المشلولة، فكما تغيب أسس الأبنية العظيمة في باطن الأرض، لا ترى ولا يعرفها إلا الناظرون في الأعماق. . .

ولقد مات الرعيل الأول من الأباء والأمهات، ولكن بقي الأبناء دليلاً متجدداً عليهم. . .

ثم نسأل: أيهما أصلح للحياة؟ أأن يعتقد الإنسان أن الله به حفي، وأن يؤمن بالإنسان فيحتفل لولادته ويقوم لجنازته ويؤثره على نفسه، ويتواضع له ويحترم دمه وعرضه، ويعيش في سجون الأخلاق التي تسمو بالحياة الاجتماعية، وتقلل الخلاف والشقاق وتنمي الحياة، وتحيط الإنسان بجو من سكينة العلم ورقة الفن، وتسخر العلم في خدمته وتخفيف ويلاته، وتضع أمامه أهدافاً مرسومة ومثلاً عليا، وفلسفة يطرد بها الوفاق؛ وبجعل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرجال الآباء نماذج وقمماً يتطلع إليها. . . أم أن ينظر الإنسان إلى الإنسان كما ينظر للنبات والحيوان. . . فإذا ولد فكجرو الكلاب أو سخل النعاج؛ يسخر ويلعب به، ولا عرض ولا ناموس ولا قيود، وحياته حياة فنّها آلي وعلمها للتدمير والغلبة، ومثلها مكيافلية. . . وإذا مات هلك وقذف به إلى ظلمة الأبد من غير رجعة أو ذكرى أو أمل في مصير أكمل؟!

أما والله لو كان دين الإنسانية هذا خداعاً باطلاً، لكان أعظم أثراً في صلاح الحياة من ضده ولو كان الحق! لأنه قانون الحياة الاجتماعية، فإذا تركه الإنسان كان عليه أن يرتد إلى حياة الغابات. . . وقد أرتد بعضه فعلاً الآن. . . ولكنه سيعود. . .

ولست أدري: ما هو غرام بعض الناس في أن يزعموا أنهم كشفوا تيارات واتجاهات في الحياة تجعل الناس يحطمون الحياة الاجتماعية التي نمت مواريث علومهم وأخلاقهم في أحضانها؟

إن كل ما يضر حياة الجماعة، فهو شر يميت الضمير وينزع منه الإيمان بالخير ويسلم إلى النكسة والارتداد

على أسوأ الافتراضات في تفاهة أصل الإنسان وضآلة مكانه في الوجود، فتفجر نبع الضمير في قلبه وطواعيته تحت تأثيره لا بد أن يكونا بوحي وضغط من عالم أعلى. . .

وهذا الروح اللطيف الذي يوجد في القلب حين الحب، أو حين مبادلة العلم والفكر، أو حين تفتح القلوب بالخير، أو حين النظر للوجود بالعين الصافية الآملة المتفائلة، أو حين استحضار المعاني الكبيرة: كالمروءة والإيثار والتضحية الصامتة، أو حين الإيمان العميق الرحب المشع. . . هذا الروح هو مكان رصد الإنسان والأنس به والأمل فيه

فلنرصده من هناك ليكون المنظر جميلاً أخاذاً، يبعث على التفاؤل والحب والسعي إلى الاكتمال. . . أولى من أن نرصده من مكان آخر يبدو منه مطموس الجمال، مقبوح الخصال، منحط المكانة، باعثاً على التشاؤم والبغض والحقد وسوء المآل!

عبد المنعم محمد خلاف