مجلة الرسالة/العدد 431/في سبيل العروبة
→ شخصيات تاريخية | مجلة الرسالة - العدد 431 في سبيل العروبة [[مؤلف:|]] |
حول المسابقة على الثانوي ← |
بتاريخ: 06 - 10 - 1941 |
مصر والعلم العربي
للأستاذ عمر الدسوقي
لا شك أن الحرب التي تدور رحالها اليوم ستتمخض عن انقلابات تاريخية وإقليمية ذات بال. ونحن - وإن لم نخض غمارها - متأثرون بنتائجها؛ وكل أمة تيقظ فيها الشعور القومي ترى لزاماً عليها أن تفكر في مصيرها، وتحدد هدفها؛ حتى تسير قدُماً نحو غايتها حين تضع الحرب أوزارها.
ومصر قد سلكت حتى اليوم مسلكاً رشيداً، وأتبعت سياسة ناضجة حكيمة إزاء هذه المحنة العالية، وكانت وفية صادقة لحليفتها، برة بوعودها، ولكنها لم تستغل هذا الموقف الشريف لخيرها وخير شقيقاتها العربية، التي تنظر إليها بعين ملؤها الرجاء والأمل. وعندي أن القضية العربية هي من أهم المسائل الحيوية التي يجب أن تدرسها مصر دراسة جيدة، وتوجه إليها عنايتها، وتبذل في سبيلها الجهود الصادقة.
أجل! إن مصر تتمتع في العالم العربي بمنزلة رفيعة، فقد حباها الله موقعاً جغرافياً هيأ لها التجارة النامية والثروة الطيبة، وجعلها صلة بين الشرق والغرب، وسخر لها النيل يفيض على واديها بالخصب والنماء، ويغدق عليها النعمة والثراء، فتصورها الناس في كل وادٍ أرض الكنوز المطمورة، والخيرات المتدفقة؛ ثم إنها أكثر البلاد العربية سكاناً وقد سبقت شقيقاتها في حمل مشعل النهضة على يد عاهلها الكبير محمد على باشا وخلفائه، وخطت خطوات واسعة في سلم الحضارة والعلم، فأصبحت ذات سلطان قوي على الرأي العام في البلاد العربية بما تملك من صحافة غنية منظمة، ومجلات أدبية وعلمية تعد الغذاء الروحي لعدد كبير من أبناء العروبة يفتقدونها إذا تأخرت، ويكبون عليها بشغف ونهم إذا أقبلت؛ وبأزهرها العتيد وجامعتها الحديثة؛ وبمطبعتها الخصبة التي ما فتئت تحي القديم وتظهر الجديد من المؤلفات القيمة والكتب الثمينة؛ وبكتابها الذين يزيدون في ثروة التراث العربي، ويتمتعون بشهرة واسعة في كل مكان تسود فيه لغة الضاد لغزارة أفكارهم وجودة أساليبهم، وتنوع كتاباتهم؛ وبالغناء المصري الذي يتردد على كل لسان في ربوع العروبة ويهتز له الشيخ الكبير والحدث الصغير على الرغم مما به من نقص، ولكن حسبهم أنه غناء مص حتى يفتنهم.
كل هذا جعل من مصر قبلة الأمم العربية، ومثالً تنسج على منواله وتترسم خطاه، وتتنسم أخباره بلهفة وشوق، حتى صار أبناؤها يختلفون فيما بينهم تبعاً لاختلاف الأحزاب المصرية، ويعرفون عن وادي النيل كل صغيرة وكبيرة.
فماذا كان موقف مصر من هذه البلاد التي تحبها حباً صادقاً لم يشتر بالمال ولم يبتذل في سبيله دعاية؟
لقد تقاعست مصر عن القضية العربية في الماضي - وهذه كلمة صريحة يجهر بها مصري مخلص لبلاده - ولم تعمل على جذب هذه القلوب التي تهفو لها حباً وإخلاصاً!
إي وربى! تقاعست مصر حتى كاد يفلت من يدها الزمام، وحتى قام من يناهضها ويعمل على تقويض سلطانها المتمكن في الأفئدة، بالدعاية الباطلة والإفك الصريح، مؤولاً تقاعس مصر بالكبرياء، وإعراضها بالغطرسة، ومصر - يشهد الله - مما يقولون براء.
أجل! لقد شغلت القضية المصرية والكفاح على سبيل الاستقلال كل أفكار وادي النيل، ولكن لم تمنعهم هذه القضية عن الانتصار للحبشة مثلاً بالمال والنفوس والدعاية، مع أن قطراً عربياً آخر كان ينكأ كل يوم بجراحات مثخنة مميتة، ويجاهد جهاد المستبسل المغوار في سبيل حياته، ومصر تنظر وكأن الأمر لا يعينها، حتى قبض الله لها رجلاً لا يوجد في الألوف مثله ذكاء وعبقرية وإقداماً، قدم لهذا القطر العربي المساعدة المالية السخية التي تكفكف دموع اليتامى والأيامى، ودفع بمصر في سبيل العروبة حاملاً بنفسه علم الدفاع، ولكن أبت الأقدار إلا أن تناوئه فانزوى عن الميدان.
كان لعمله هذا أثر محمود عند كل عربي، وأخذت الأعناق تشرئب إلى مصر تنظر ماذا تفعل، ولكن مصر رجعت إلى سابق عهدها من الصمت والتغافل ثم أشعلت نار الحرب وشغل كل امرئ بنفسه، إلى أن أصبحت حليفة مصر - بريطانيا العظمى - مسيطرة على الموقف في الشرق الأدنى، وصرح رئيس وزرائها مستر تشرشل - مثال الصبر والجلد والبطولة في الكفاح - بعطفه على القضية العربية، فهل آن لمصر أن تعطف على القضية العربية وهي أولى الناس بهذا الأمر؟
إن مصر عربية قلباً ودماً ولحمة وسدى! وكل من يقول غير هذا فهو مأفون الرأي. سائلوا التاريخ عمن حفظ اللغة العربية وهي تحتضر في كل مكان إلا مصر! سائلوا التاريخ عن تلك الهجرات المتتابعة من ربوع العروبة إلى مصر منذ الفتح إلى اليوم!
إن بين مصر وبين البلاد العربية وشائج من الدم واللغة والتاريخ والأدب والعاطفة تحتم عليها أن تتبنى القضية العربية.
وهنا أوجه كلمة صريحة إلى جماعة من الكتاب في مصر أخذوا يتجادلون حول القضية العربية والقضية الإسلامية. مصر عربية إسلامية وعروبتها تحتم عليها أن تهتم بالقضية العربية وتتألم لنكبات الأمم العربية، وتفرض عليها الاشتراك في الحلف العربي، وإسلامها من جهة ثانية يتطلب منها أن تنظر بعين العطف إلى القضايا الإسلامية في جميع أنحاء المعمورة، ولا اختلاف بين الجهتين، ولا تناقض بين الميدانين: القضية العربية قومية، والقضية الإسلامية دينية، وفي استطاعة الإنسان العاقل أن يكون وطنياً مخلصاً لوطنه مجاهداً في سبيله، وأن يكون متديناً ورعاً قائماً بواجبات دينيه، دون أن يكون هناك تناقض بين جهتي الإخلاص أو بلبلة في أفكاره.
وهنا أيضاً عتاب أوجه إلى كتاب مصر عامة، وإلى العلامة الدكتور زكي بصفة خاصة بأنهم يستعملون كلمة (شرقي) بدلاً من (عربي)، والبلاد الشرقية الشقيقة بدلاً من البلاد العربية الشقيقة، فكأن الصلة التي تربطهم بأبناء العروبة هي أنهم جميعاً شرقيون فحسب. هذه نقطة دقيقة طالما أثارها محبو مصر في البلاد العربية، وطالما خجلنا منها ونحن بين ظهرانيهم. فهل الدكتور زكي مبارك مستعد منذ الآن أن يستعمل كلمة عربي بدلاً من شرقي وعربية بدلاً من شرقية، فإنه ملوم بخاصة لخبرته بالبلاد العربية وتمتعه فيها بشهرة طيبة.
وهاك عتاباً آخر لا أوجه في هذه المرة إلى الدكتور زكي مبارك، فقد أدى ما عليه وزيادة، ولكن أوجه إلى كتاب مصر وإلى جمهرة القراء بها: يلوموننا في البلاد العربية لعزلتنا الأدبية، واعتزازنا بثقافتنا، وعدم إقبالنا على ما تنتجه المطابع العربية، وينشئه أو ينظمه حملة الأقلام بها. وهذا عتاب لعمر الحق في محله، ولقد كانت خطوة موفقة وسعياً محموداً ما قررته وزارة المعارف المصرية من دراسة الأدب العربي الحديث في الأقطار العربية على بعض الأساتذة، ولا عجب، فالدكتور هيكل باشا جد عليم بشعور أبناء العروبة في هذه الناحية، وهو خبير بما عندهم من أدب رفيع وخيال خصب وإنتاج طيب قلت: إن الدكتور زكي مبارك قد أدى ما عليه في هذا الميدان، إذ كتب عدة مقالات في (الرسالة الغراء) عن الأدب العراقي، تعد مقدمة طيبة لدراسة عميقة مستوفاة. أما الأدب السوري - بما في ذلك السوري واللبناني - فسآخذ على نفسي عهداً بدراسته على صفحات (الرسالة) إن شاء الله حينما أفرغ من هذا النداء الذي يعبر عن عواطف أبناء العرب وشعورهم حيال مصر العزيزة.
(للحديث بقية)
عمر الدسوقي
وكيل كلية المقاصد الإسلامية ببيروت