مجلة الرسالة/العدد 431/شخصيات تاريخية
→ شاعر الجرمان الأعظم | مجلة الرسالة - العدد 431 شخصيات تاريخية [[مؤلف:|]] |
في سبيل العروبة ← |
بتاريخ: 06 - 10 - 1941 |
2 - تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
كان اليونان إذن مهددين في عام480 ق. م إذ علموا أن أجرزسيس سير جيشه الجرار من قلب آسيا الصغرى وأسطوله الضخم محاذياً السواحل الآسيوية والأوربية المحيطة بمضيق الهيلليسبونت لغزو بلاد اليونان، طامعاً في أن يقوم بما لم يستطع أن يقوم به أبوه من قبل وهو الانتقام من أثينا بل وإخضاع بلاد اليونان عامة، فما كان عقله يصدق أن بلاداً صغيرة كبلاد اليونان تجرؤ على أن تقف في وجه أعظم عاهل على وجه البسيطة حينذاك وهي على ما هي عليه من فرقة وانقسام وتباين واختلاف.
وقد اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في تقدير عدد الجيوش الفارسية واليونانية، ولكنهم إن اختلفوا في هذا التقدير نجدهم يجمعون على أن جيش أجرزسيس كان عظيم العدد جداً، وعلى أن جيش اليونان كان دونه بكثير.
جاء الفرس بهذه الجيوش الضخمة ووصلوا إلى شمال بلاد اليونان بعد أن عبروا ما عبروا من بحار، وجابوا ما جابوا من سهول ووديان، وتسلقوا ما تسلقوا من تلال وجبال، وهم واثقون كل الثقة أنهم لا بد غالبون هذا الشعب بل هذه الشعوب الإغريقية المختلفة على أمرها مقامرين على انقسام اليونان وضعف اليونان وفقر اليونان، وقد غاب عنهم أن اليونان كانوا يعرفون بلادهم تمام المعرفة ويثقون بقوادهم الذين سيقودونهم إلى النصر لأنهم يدافعون عن أعز شيء في الحياة وهو الحرية والاستقلال.
وكان تيموستوكل على علم بحركات الفرس كلها. لذلك أعد بلاده خير إعداد، وجهزها بما كانت تحتاج إليه من وسائل الدفاع كبناء الأسوار والجدران، ومن وسائل الهجوم كالسفن التي عمل على بنايتها لتكوين الأسطول مما جعله يصمد أمام الأعداء ولا يتزعزع أمام هذه الغزوة الجريئة.
ويعمل اليونان على توحيد الصفوف والاستعداد لملاقاة الأعداء فيعتدون مؤتمراً هو مؤتم الجامعة اليونانية الثاني (في أوائل ربيع عام480 ق. م) وفيه يقرون إرسال حملة للدفاع عن وادي ثمبي في الشمال بعد أن وعدهم سكان تلك الجهة ببذل المعونة والمساعدة لهم، وسارت الحملة عن طريق البحر وعلى رأسها قائد أسبرطي يساعده في القيادة آخر أثيني هو صاحبنا تيموستوكل، ووصلت هذه الحملة إلى تلك الجهة ولكنها لم تجد معونة ولا مساعدة فرجعت بخفي حنين.
ويتفق اليونان أيضاً في هذا المؤتمر على تنظيم خطوط دفاعهم فيجعلونها أربعاً. الأول عند وادي ثمبي السابق الذكر، والثاني عند الثرموبيل، والثالث عند وسط اليونان (ببوسبا وأثيكا) والرابع عند برزخ كورنث ويقررون التراجع عن الخط الأول إلى الخط الثاني وعن الخط الثاني إلى الخط الثالث وهكذا حتى الخط الرابع إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بأي خط من هذه الخطوط.
وهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بخط دفاعهم الأول على نحو ما رأينا منذ حين، لذلك نراهم يقررون، عندما علموا بخبر زحف الفرس إلى أواسط بلاد اليونان، والوقوف عند خط الدفاع الثاني أي عند أراض الثرموبيل براً، وعند رأس (الأرثيميزيون) بحراً، والنقطتان تكمل كل منهما الأخرى، ويوجهون نحو الأولى حملة برية بقيادة الملك الإسبرطي الشهير ليونيداس، ونحو الثانية أسطولاً بقيادة رجل إسبرطي هو إيريبياد ويساعده في القيادة تيموستوكل. وقد تلاقى الجيشان جيش الفرس وجيش اليونان عند الثرموبيل، وكان ما كان من أمر هذه الهزيمة الساحقة التي منى بها ليونيداس وأتباعه، حيث أبيد اليونان كلهم عن بكرة أبيهم في هذا المكان الضيق بعد أن أظهروا من الشجاعة ما خلد اسمهم على صفحات التاريخ - أما عند النقطة الثانية فقد التحم الأسطولان، والأسطول اليوناني كامل العدد والعدة، أما الأسطول الفارسي فقد هبت عليه زوبعة قبل معركة (الأرثيميزيون) ودمرت ما يقرب من ثلثه تقريباً، لذلك لقي الأسطول اليوناني نجاحاً بادئ الأمر، ولكنه لم يستطع أن يصمد أمام حركة تطويق قام بها جزء من الأسطول الفارسي نحو الجنوب إذا أراد الالتفاف حول جزيرة أيوبيا ليأخذ الأسطول اليوناني على غرة من الخلف، ولحسن حظ هذا الأسطول نجده يتمكن من الإفلات والنجاة من هذا المأزق الحرج فيرجع عند خط الدفاع الثالث أي عند وسط بلاد اليونان، وقد دهش الفرس عندما رأوا الأسطول اليوناني يتراجع بعد هذا النجاح النسبي الذي ناله، ولكن اليونان فهموا أن هزيمة جيشهم في الثرموبيل قد قضت على خطتهم الدفاعية وجعلتهم يخافون على قواتهم من الفناء، من أجل هذا تراجعوا نحو الجنوب لأن هذه الفرصة الوحيدة لإنقاذ جيشهم وللاحتفاظ به للمستقبل.
من هذا يتبين أنه لم يكن لثيموستوكل موقف ظاهر واضح في هذه المعارك وعلى الأخص في الحملة البرية الأولى عند أرض ثمبي، وفي الحملة البحرية الأولى عند رأس الأرثيميزيون، ولكنه بالرغم من ذلك موقف عظيم الخطر والأهمية، لأنه كان هو الروح الذي ينبعث في الجيش الحمية والحماس، وفي الأسطول الرغبة والإقدام على الهجوم، إذ كان يقف إلى جانب القائد الإسبرطي موقف المرشد الناصح الأمين الذي يجعل مصلحة بلاده فوق أي اعتبار. وكان هذا القائد الإسبرطي يوافق على آرائه بالرغم مما فيها من خطورة وجرأة؛ لأنه كان ينصح دائماً بالهجوم، سائراً على هذا المبدأ الذي أخذ به نابليون من بعده وهو (الهجوم خير وسيلة للدفاع)؛ وكان إلمامه التام بحالة الفرس وبحالة اليونان خير مشجع له للإقدام على الهجوم؛ فهو يعلم أن اليونان أقلية في العدد بالنسبة للفرس - ولكنهم أكثرية في نواح أخرى - إذ كانوا أكثر تجانساً من أعدائهم، (فلم يكن بينهم نفر من الأجانب، على حين أن جيش الفرس يتكون في أغلبيته من أفراد الشعوب العديدة الخاضعة لهم) واكثر اتفاقاً فيما بينهم، فهم يحاربون بطوعهم واختيارهم لأن مثلهم الأعلى هو المحافظة على استقلال بلادهم وإحاطة حريتهم وحرية بيوتهم وعائلاتهم وأراضيهم بسياج من المنعة والقوة. أما الفرس أعداؤهم فإنهم يسيرون بالسياط ويحاربون مجبرين، لا لتحقيق مثل أعلى وإنما تنفيذاً لرغبة عاهل جبار استحوذ الطغيان منه على فؤاده واستولى الكبر على قلبه وعقله حتى شبه نفسه بالآلهة، فساق هذه الجموع الزاخرة سوق الأنعام والماشية. ثم إن اليونان بعد هذا وذاك يفوقون أعداءهم في الأسلحة التي كانوا مجهزين بها وفي القيادة التي كانوا يخضعون لها. وإلى جانب ذلك كله كان تيموستوكل على علم تام بحركات الأعداء، يوقفه عليها هؤلاء الجواسيس ونقلة الأخبار الذين كان يبثهم بين أعدائه مثل هذا الملاح الماهر سكيلياس الذي أتى له بمعلومات عن الأعداء قبل موقعة الأرثيميزيون؛ فأوقفه على ضعف الروح المعنوية فيهم، وعلى انعدام المثل الأعلى بينهم، وعلى عدم الانسجام بين وحداتهم المختلفة، وعلى التنافر بين عساكر الجيش والأسطول الذين هم عناصر جنسية مختلفة، وكذلك على الكوارث التي أصابت الأسطول الفارسي كهذه الزوبعة التي هبت عليه قبل الأرثيميزيون فدمرت أربعمائة سفينة.
ثم يتابع أجرزسيس سيره نحو الجنوب حتى يصل إلى أواسط بلاد اليونان، وهو لا يحجم عن تخريب ما يلاقيه في طريقه من قرى ومدن، ولا يتردد عن انتهاك حرمة المعابد والأراضي المقدسة، ولا يتأخر عن تدمير ما يقابله من محاصيل زراعية أو تماثيل للآلهة، حتى ألقى الذعر في قلوب بعض اليونان، فخضعت له البلاد اليونانية الوسطى والشمالية ماعدا مقاطعة أثيكا. وكان من الأشياء المقررة عند اليونان أن يقف الجيش اليوناني عند الجبال التي تفصل بين مقاطعتي أثيكا وبيوسيا للدفاع عن المقاطعة الأولى، ولكن هذا الجيش تراجع حتى برزخ كورنث ووقف هناك ينتظر ما سيجابهه من حوادث. أما الأسطول فكان هو الآخر مصوباً وجهته نحو الجنوب، وقائده الإسبرطي يريد به التراجع نحو شبه جزيرة البيلوبوينز للدفاع عنها، ونحن لا ننسى أن هذا القائد، وهو إيربياد، اسبرطي يضع مصلحة بلاده فوق كل اعتبار؛ ولكن تيموستوكل يتمكن بعبقريته وبشخصيته القوية من أن يقف في وجه هذا القائد حتى يتغلب عليه ويوجه الأسطول كما يريد هو لا كما يريد هذا القائد فينجح في تلك اللحظة الرهيبة في حمل اليونان على اتخاذ قرار خطير، ذلك هو القرار القاضي بأن يقف الأسطول اليوناني عند جزيرة سلامين، من أجل هذا رأى اليونان أنهم مجبرون بعد هذا القرار الجديد على أن يرسموا خطة جديدة تضمن التعاون بين الجيش والأسطول للدفاع عن بلادهم وصد الغزاة.
زحف أجرزسيس بجيوشه وزحف حتى وصل إلى أبواب أثينا، وكذلك كان الأسطول الفارسي متقدماُ في سيره نحو الجنوب حتى لا يبتعد كثيراً عن الجيش، وخطة الفرس على ما نعلم تقضى بأن يتعاون الأسطول مع الجيش؛ من أجل هذا لم يجد الأثينيون أمامهم - والعدو على أبواب وطنهم - إلا أن يهجروا مدينتهم، فأصدر الشعب الأثيني مجتمعاً في مجلس (الأكليزيا) مرسوماً يأمر بإخلاء المدينة على ألا يبقى بها إلا نفر من الشيوخ للدفاع عنها. أما الفقراء من أفراد الشعب الذين لا يستطيعون أن يتحملوا نفقات الهجرة فقد نص هذا المرسوم بإعطاء كل شخص منهم مبلغاً من المال ليساعده على الرحيل؛ وذهبت أغلبية الأثينيين بأبنائهم ونسائهم إلى جزيرة سلامين حتى يروا ما سيقضى الله من أمر. أما الفرس فقد دخلوا المدينة ووجدوها قد خلت من سكانها إلا هذا النفر الضئيل من الشيوخ. وهذا النفر بالطبع لم يستطع أن يثبت في وجههم فتغلبوا عليهم، وصعدوا إلى قمة الأكروبول وأقاموا هناك حيث توجد معابد الآلهة.
(البقية في العدد القادم)
محمد الشحات أيوب