الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 43/الموت والحياة

مجلة الرسالة/العدد 43/الموت والحياة

بتاريخ: 30 - 04 - 1934


للأستاذ أحمد أمين

أبت علىَّ نفسي أن تكتب اليوم إلا في الموت، وهل نتاج الكاتب إلا قطعة من نفسه؟ يفرح فيرقص قلمه، وينقبض فيسبل قلمه بالدمع، وقد كرهت للقراء هذا العنوان فأضفت إلى الموت الحياة، ولست أدري لمَ يلطف ذكر الحياة الموت، ولا يلطف ذكر الموت الحياة

دعا إلى هذا أني فجعت هذه الأيام بموت أصدقاء كأنهم كانوا على ميعاد، وكأن لموت الأصدقاء أيضاً موسماً كسائر المواسم وإن لم يحدد زمنه ويعرف زمنه ويعرف مداه.

تنفك تسمع ما حيي ... ت بهالك حتى تكونه

والمرء قد يرجو الحيا ... ة مؤملاً والموت دونه

وكان آخرهم صديق استعجل الموت فأنشب في المنية أظفاره قبل أن تنشب فيه أظفاره، وقطع حظه من الدنيا قبل أن تستوفي حظها منه، لم يصبه سهم القضاء فأخذ السهم منه ورماه بنفسه في نفسه فمضى سابقاً أجله - غربت شمسه ضحى، واستكملت ساعته دقاتها قبل ميعادها

كان سريّ النفس، نبيل الخلق، طيب العنصر، يغبطه كل من عرفه على ما وهب من خلال، وما تهيأ له من وسائل الرفاهة وأسباب النعيم، وما دروا أن الأمر في السعادة والشقاء إلى ما في داخل النفس لا ما في خارجها، وأن نفوساً قد تشقى في النعيم، ونفوساً قد تسعد في الشقاء.

جزعت لموته واستكنت للعبرة، وفقدت بفقده السلطان على دمعي وقلبي، فرحمه الله ورحمني.

ولكن ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به، وعرفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة. ولمَ لم يألفوه كما ألفوه كثيراً من المر حتى إعتادوه، وليس الموت في ذاكرته مراً ولا أليماً، وكما قال أحد الرواقيين (إن الموت هو وحده المصيبة التي لا تمسنا، ففي حياتنا لا موت، وإذا جاء الموت فلا حياة) وقد نظم المتنبي هذا المعنى فقال:

والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق

ولكن أعظم الناس شأن الموت لما أحاط به من ظروف، وما أتصل به من خيالات، وأثير حوله من رعب بالغ بعض من رجال الدين في تفظيع الموت، وهولوا من شأنه تهويلاً تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود، لأنهم رأوا في ذلك درساً قاسياً يردع المجرم عن أجرامه، ويزع الآثم عن أثمه، ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطاً شل النفس وأشاع فيها اليأس. وأنهم - وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب - قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت، وخففوا كفة الترغيب حتى شالت وعلت - ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها. ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد! لا ندعى للخير إلا بالعصا، ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط؟

أليس خيراً من ذلك أن يحدونا إلى الخير الحب. لا أن يسوقنا إليه الرعب؟

ثم زاد الموت سوءاً ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم، فصراخ تنفطر له المرائر، وبكاء يذيب لفائف القلوب، والناس حول الميت بين ساهم البصر، ومطرق الطرف، ومكروب النفس، وناكس الرأس، يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه، ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه - لست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان، قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق، ولكن ليس من طبيعته الجزع، فلو اعتاد قوم أن يقابلوا الموت كما يقابلون أية ظاهرة طبيعية في الحياة لزال الجزع وخف الألم، كما حدث عند بعض الأمم، استطاعوا أن يضبطوا عواطفهم وينفقوا من الحزن بقدر، وأن يرددوا قول القائل (مات الميت فليحي الحي) وتفاخروا بالجلد كما نتفاخر بالجزع، وتواسوا بالثبات كما نتواسى بالهلع.

ثم كان من الأدباء ما كان من رجال الدين: حزنوا للشيب إذ فقدوا الشباب، أكثر مما فرحوا بالشباب يوم أن كان، ووقفوا في مراثيهم موقف النادبات في المآتم، يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم، ويعدون أقدرهم على القول وأقربهم إلى الإجادة من عرف كيف يستخرج الدمع ويستنزف الشؤون، فكان من هذا وذاك إفساد عواطف الناس نحو الموت ودفعهم إلى التغالي في المشاعر.

ثم أخطأ الناس في القياس، فظنوا أن النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألم به في الحياة الدنيا. ظنوا أن القبر يوحش بعزلته كما يستوحش الحي من عزلته، وأن القبر يرهب بضيقه وظلمته، كما يتبرم الحي بضيق المكان وظلمته، وأن الميت يألم من البرد القارس كما نألم، ويضجر من الحر القاسي كما نضجر، وغاب عنهم إدراك الفرق بين الحياتين، والاختلاف الواسع بين الطبيعتين

إذا افترقت أجزاء جسمي لم أُبَلْ ... حلول الرزايا في مصيف ولا مشتى

أن تفظيع الموت يدعو إلى نوع من الحياة لا هو حياة ولا هو موت، ولعل كثيراً من رذائل الشرق سببه ما اعتاده قادتهم من تهويل الموت وتفظيع شأنه، وإلا فما الذي يجعلنا نرضى بالعيش الذليل بين أحضان آبائنا وأمهاتنا ولا نتطلب العيش السعيد بالهجرة والارتحال؟ وما الذي يدعونا إلى الفرار من المغامرة في شؤون الحياة، والركون إلى عيش الدعة والاطمئنان، وإلى كثير من أمثال ذلك؟ لا شيء إلا التغالي في الخوف من الموت، للتغالي في تهويل الموت.

لقد جل خطب الحياة أن كان كلما مات قريب أو صديق ذابت النفس حسرات، وأظلمت في وجهنا الدنيا، وتطرق ألينا اليأس.

لا. لا. أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وتباً لهؤلاء الذين يخلعون قلوبنا بالموت فنكون طعمة لمن يحبون الحياة.

ولنبدأ دعوة جديدة قوامها العمل للحياة و (لا بأس بالموت إذا الموت نزل).

أحمد أمين