الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 426/كيف يكتب التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 426/كيف يكتب التاريخ

مجلة الرسالة - العدد 426
كيف يكتب التاريخ
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 09 - 1941


للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية لآداب

- 3 -

أول مسألة تواجه المبتدئ في دراسة التاريخ هي مسألة اختيار موضوع البحث، والمسألة تختلف بالنسبة للطالب الذي يبدأ دراسته الجامعية عنها بالنسبة للباحث الذي أنهى مرحلة التعليم المدرسي وبدأ يتطلع إلى الدراسة العلمية المنتجة. فالطالب المبتدئ في التعليم الجامعي لا ينتظر منه عادة أن يقوم ببحث أصلي، أو أن يكشف عن مجموعة وثائق لم تكن معروفة من قبل، أو أن يستخلص حقائق تاريخية مجهولة؛ وإنما المطلوب منه أن يتوفر على تحصيل وسائل الإعداد والتدريب الذي يؤهله للعمل العلمي في المستقبل. فالطالب أثناء الدراسة الجامعية يختار - بإرشاد المدرس - بعض الموضوعات المدروسة، لا لكي يبحثها من جديد وإنما للتمرين والتدريب والاقتباس؛ وهو في هذا يشبه دارس الكيمياء أو الطبيعة الذي يقوم بعمل التجارب التي ثبت صحتها نهائياً لكي يتدرب ويعرف ما عمله غيره من قبل. فطالب التاريخ يستطيع أن يختار موضوعات متنوعة في الفروع التي يدرسها. ويمكنه أن يبحث بعض الموضوعات العامة، كأن يختار مثلاً كتابة ملخص عام عن تاريخ نابليون في حيز محدود. ويعتمد على القليل من المراجع الأساسية عن الموضوع التي يأخذها من المدرس أو التي يستخرجها بنفسه من كتب المراجع. فيقتبس ويدون مذكرات من هذه المراجع. وينبغي أن يلاحظ وضع أرقام الصفحات لكي يمكنه الرجوع إلى بعض النقط عند الضرورة؛ ثم يقارن ويمزج بين المعلومات التي جمعها، ثم يعرض بإيجاز نشأة نابليون وتعليمه وشخصيته وتدرجه في المناصب، وحروبه في الشرق وفي أوربا، وحكومته وإدارته، وظروف أوربا في عهده، ووقوف إنجلترا في سبيله، ثم سقوطه وحياته في المنفى. ويعطي الطالب ملخصاً وافياً لكل هذه النواحي. وهو في هذه الحالة سيتجاوز عن الكثير من التفصيلات والحركات المحلية. وسيكتفي بالمسائل المهمة البارزة فقط، سواء أكانت حوادث الحروب أم مشاكل السياسة الداخلية أو الخارجية. وبعد ذلك يختار الطالب جزءاً من الموضوع العام الذي ألم به مثل موضوع حملة نابليون على روسيا في سنة 1812، فيبحث الظروف التي أدت إلى تلك الحملة، ويتبع سيرها والحركات الحربية التي وقعت، ووصول نابليون إلى موسكو، ثم ارتداده وفشله، وما يترتب على ذلك من الآثار في فرنسا وفي أوربا. وهو في هذا سيبحث موضوعاً أكثر تحديداً من الموضوع السابق، وإلمامه بتاريخ نابليون العام سيساعده على فهم الحملة الروسية. ثم يتدرج إلى بحث نقطة تاريخية محددة بالذات مثل معركة واترلو، فيدرس في بعض المراجع العامة الظروف التي أدت إلى هذه المعركة ويوازن بين القوى الحربية لكل من فرنسا وإنجلترا وبروسيا، ثم يدرس خطط المعركة، ويتبع العمليات الحربية، ويوضح كيف هزم نابليون؛ ثم يشرح النتائج التي ترتبت على ذلك. ويمكن للطالب أن يطبق هذه الطريقة في نواح مختلفة من التاريخ. وهذا التدريج نافع جداً لأنه سيجعله يدرك فائدة الإلمام بتاريخ العصر أو الموضوع العام؛ وأثر ذلك واضح في فهم النواحي الخاصة، وفي التغلغل في بحث الموضوعات الجزئية. وسيعلمه هذا التدرج ضرورة الاهتمام بالجزيئات المعينة مع عدم إغفال الروح العام والنظرة العامة عن العصر الذي يبحث فيه. فلا بد من العناية بهاتين الناحيتين معاً على اتساق وتوافق. ثم يدرس الطالب بعض الوثائق الأصلية المطبوعة لبحث موضوع معين؛ كما يدرس بإرشاد الأستاذ طائفة مختارة من الوثائق المخطوطة، ويستخرج منها بعض الحقائق اللازمة لبحث نقطة معينة. وهذا كله كتدريب وإعداد للمستقبل. وما ينطبق على الطالب في الجامعة ينطبق على أي شخص لم تتح له فرصة التعليم الجامعي في بلد كمصر ويشعر في نفسه بالميل إلى دراسة التاريخ وبحثه

وعندما يتم الطالب مرحلة التعليم العالي ويحصل على درجة جامعية، ويرغب في متابعة البحث التاريخي، فإن اختيار موضوع البحث يبدو بشكل مخالف. فهو في هذه الحالة لا يستطيع أن يبحث أي موضوع كان؛ لأن المطلوب أن يقوم ببحث ويكشف عن حقائق تاريخية جديدة؛ فلا يكون البحث بناء على الرغبة فقط، وإنما يكون بناء على ما يجب أن يبحث، أو ما الذي يمكن أن يبحث. والباحث المبتدئ قد يثير اهتمامه أثناء دراسته بعض المسائل في تاريخ اليونان القديم أو في تاريخ العصور الوسطى أو في تاريخ الروسيا مثلاً. فللمضي في بحث إحدى هذه النواحي ينبغي أولاً أن يعرف العلوم المساعدة الرئيسية المرتبطة بالفرع الذي يرغب دراسته. وإذا لم يكن يعرفها فينبغي أن يقرر بصراحة من أول الأمر: هل هو مستعد لأن يتعلمها أم لا؟ هل هو مستعد لأن يتعلم اللغة اليونانية القديمة أو لاتينية العصور الوسطى أو اللغة الروسية مثلاً؟ وهل هو مستعد لأن يتقن ما يتصل بهذه اللغات من العلوم المساعدة الضرورية مثل علم النقوش، وعلم قراءة الخطوط. . . فإذا لم يكن مستعداً لذلك فينبغي عليه أن يعدل عن المضي في بحث إحدى هذه النواحي التي تعوزه فيها الوسائل الضرورية، ويمكنه أن ينتقل إلى مجال بحث آخر يعرف أصوله وقواعده

والمبتدئ في البحث التاريخي طبقاً للطرق العلمية الحديثة، ينبغي أن يراعي بعض الأمور. فيجب أن يختار ناحية أو نقطة محددة لكي يستطيع أن يتفرغ لدراستها وإخراج جديد عنها؛ وتكون هذه النقطة جزءاً من موضوع عام لكي يتسع المجال أمام الباحث لمتابعة دراساته في المستقبل. فمثلاً لا يصح للباحث أن يتخذ تاريخ الدولة الأيوبية بأكمله موضوعاً للبحث، لأنه موضوع طويل. فالأيوبيون قد حكموا مصر من سنة 1169 إلى 1250م. ودراسة هذه الفترة دراسة عميقة مع كشف حقائق عميقة مع كشف حقائق جديدة عنها لا يمكن تحقيقها في سنوات قلائل. وإذا أصر الباحث على القيام بهذه الدراسة، فإنه لن يأتي بأكثر من تلخيص ما هو موجود في المراجع المعروفة أما إذا خصص وقته وجهده في نفس هذه سنوات القلائل لبحث ناحية معينة بالذات، مثل تاريخ صلاح الدين أو تاريخ الملك العادل أو تاريخ التجارة في عهد الدولة الأيوبية، فإنه يستطيع أن يسبر غور الأرض المجهولة ويكشف عن حقائق تاريخية جديدة. وبديهي أن الوقت والجهد اللذين يخصصان لفترة قصيرة يأتيان بنتائج علمية أعمق مما لو خصص لفترة طويلة. ووضع المؤلف علمي دقيق عن عصر الدولة الأيوبية بأكمله لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة جزيئات هذا العصر وبعد كشف كل الحقائق التي يمكن الوصول إليها. وما يقال عن عصر الدولة الأيوبية ينطبق تماماً على أي عصر آخر. وكذلك ينبغي أن يلاحظ الباحث عند التفكير في اختيار موضوع البحث ميله واستعداده، سواء للناحية الحربية أو السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو الفنية. ولا داعي لأن يقسر الباحث نفسه على ولوج ميدان لا يميل إليه؛ وعلى العكس فإن طرق الميدان الذي يميل إليه يجعله أقدر على العمل وأقوى على كشف الحقائق. والمرحلة الأخيرة التي ينبغي أن يمر خلالها الباحث قبل أن يختار نهائياً موضوع البحث من الناحية العلمية تتلخص فيما يلي:

هل الموضوع الذي فكر فيه يحتاج أي أن يبحث؟ ألم يكن قد بحث من قبل مطلقاً؟ أو هل بحث بطريقة غير كافية وهل المادة الأصلية الموجودة عنه لم تدرس ولم تنقد كما ينبغي؟ أو هل قد وجدت أو يمكن أن توجد مادة أصلية جديدة تبرر إعادة بحث الموضوع من جديد؟ فإذا توفرت بعض هذه الشروط فمعنى ذلك أن الموضوع يحتاج إلى الدرس والبحث. ولكن كيف يمكن للباحث أن يثبت توفر بعض هذه الشروط؟ الطريقة العاجلة هي أن يبادر باستشارة أحد الأخصائيين في ميدان البحث التاريخي المعين، سواء في البلد الذي يعيش فيه أو في أي بلد آخر بواسطة المراسلات. وإذا تعذر الوصول إلى ذلك الأخصائي فعلى الباحث أن يجيب على هذه الأسئلة بنفسه. فلكي يعرف الباحث المراجع العامة والخاصة التي ظهرت عن العصر المعين، وهل اعتمدت على كل الأصول المعروفة فإنه يلزمه الاسترشاد بفن الببليوغرافيا. والتأكد من أن الأصول التاريخية الموجودة قد نقدت واستخدمت بطريقة علمية صحيحة يدخل في باب نقد الأصول والمصادر؛ ومسألة وجود مادة أصلية جديدة عن الموضوع تعرف عن طريق البحث والعمل في دور الأرشيف مثلاً. وسوف نعرف أشياء عامة عن هذه النواحي في هذه المقالات. وإذا لم تتوفر بعض هذه الشرط السالفة فلا معنى مطلقاً للاستمرار في البحث بدون جدوى عن ذلك الموضوع. ولابد إذاً من العدول عنه إلى موضوع آخر يمكن الإتيان في بحثه بجديد

وما هي الأعمال العلمية والأبحاث التي ينبغي أن تعمل في مصر؟ نحن فقراء ومتأخرين جداً في ميدان البحث التاريخي بالمعنى العلمي الحديث. والغرب قد سبقن بمراحل هائلة جداً في كل أدواره مثل طبع الفهارس ووضع الببليوغرافيات المتعددة الأنواع، وجمع الأصول، ونشر بعضها في مجموعات ضخمة، ووضع المؤلفات التي لا حصر لها عن مختلف أنواع التاريخ في جميع عصوره عن تاريخ العالم كله، وعن تاريخ كل من الدول والشعوب على حدة، سواء في ذلك المراجع التي تتناول التاريخ العام، أو المراجع التي تبحث عصوراً معينة ونواحي خاصة في تاريخ كل من هذه الدول والشعوب. فأين نحن من كل هذا؟؟ صحيح أن بعض الباحثين من المصريين قد وضعوا أبحاثاً عن بعض مسائل التاريخ المصري وغير المصري نتيجة جهود فردية ولكنها قليلة جداً؛ ونحن عالة على علماء الغرب الذين درسوا نواحي متعددة من التاريخ المصري في عصوره المختلفة. ولكن هذه الدراسات المتعلقة بمصر سواء من جانب المصريين أو الأجانب لا تكفي مطلقاً. وقبل أن نفكر في اختيار موضوعات للبحث في تاريخ مصر ينبغي أن نقوم بأعمال تمهيدية واسعة النطاق وأساسية جداً، لكي يسير العمل سيراً منتظماً وفعالاً. وأول هذه الأعمال التمهيدية القيام بطبع كتالوجات وفهارس لدور الكتب ودور الأرشيف في مصر بالطرق العلمية الحديثة - أي بتبويبها وتقسيمها ووضع الفهارس لها - مما هو غير متوفر تماماً في الموجود منها حالياً، فضلاً عن غير الموجود أصلاً. ثم وضع الفهارس وقوائم للكتب والمخطوطات التي تناولت تاريخ مصر في العصور المختلفة؛ ثم جمع المخطوطات التاريخية ونشر بعضها نشراً علمياً حديثاً. وصحيح أن بعض الأفراد وبعض الهيئات مثل: المطبعة الأميرية، ودار الكتب المصرية، ولجنة التأليف والترجمة والنشر، تقوم بنشر بعض الأصول التاريخية. ولكن لم تنشر أغلبها النشر العلمي الواجب لخلوها من الفهارس مثلاً. ولقد عني المغفور له الملك فؤاد الأول بجمع الكثير من الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر في القرن التاسع عشر من محفوظات مصر ومن بعض دور الأرشيف في أوربا وأمريكا، وقد حفظت في أرشيف عابدين؛ كما عنى بنشر بعض مجموعات من هذه الوثائق مثل مجموعة دوان وسامّاركو ومجموعة القرمانات السلطانية وكذلك أشرف جلالته على وضع مؤلفين عن تاريخ مصر العام باللغة الفرنسية، وأشترك في كتابتهما طائفة من العلماء الأجانب؛ ولكن هذا لا يعني أن العمل قد انتهى، فهناك عشرات الألوف من الوثائق لا تزال مجهولة عن نواحي هامة في تاريخ مصر منذ العهد العثماني حتى أوائل عهد محمد علي الكبير في دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ويقابلها آلاف الوثائق عن هذا العهد محفوظة في دور الأرشيف الأوربية، وأغلبيتها الساحقة لم تمسها يد إنسان بعد. فلابد من حصر وجمع وتبويب هذه الوثائق في مصر وفي الخارج؛ ولابد من نشر بعض أجزاء منها نشراً علمياً.

وما عمله الغرب بخصوص نشر مجموعات ضخمة من الوثائق التاريخية، وما عمله ذلك الرجل المقيم في ظلال الأرز والجدير بالإعجاب والتقدير، من نشر بعض مجموعات من الوثائق عن تاريخ سوريا كفيل بأن يجعلنا نجدّ ونسعى لنشر وثائقنا وأصولنا التاريخية.

وبعد إتمام بعض هذه الأعمال التمهيدية يمكن أن يتقدم وأن ينشط البحث التاريخي في مصر بدرجة مرضية. والمؤلفات التي تكتب قبل أن تتم بالنسبة إليها هذه المراحل التمهيدية، مع أنها جديرة بالتقدير، لا يمكن أن تعتبر آخر كلمة في الموضوع الذي تتناوله. وأرى أنه ينبغي على الباحثين أن يتبعوا أبحاثهم بنشر المهم من الوثائق التي اعتمدوا عليها في مجلد أو في مجلدات خاصة، لأن هذا العمل لا يقل - إن لم يزد - في قيمته العلمية عن البحث التاريخي نفسه. وبعد ذلك تواجهنا ثغرات هائلة في مراحل التاريخ المصري ينبغي أن تدرس وتبحث على مدى الزمن مثل تاريخ المدن المصرية وتاريخ الأزهر والمساجد، وتاريخ الكنائس والأديرة، وتاريخ التجارة في مصر، وتاريخ مصر المالي والإداري في العهد العثماني، وتاريخ علي بك الكبير، وتاريخ الحركة العرابية. . .

وهذه الأعمال الخطيرة لا يمكن أن تؤديها الجهود الفردية، ولا يمكن أن يقوم بها جيل واحد من الباحثين. وللسير في سبيل تحقيقها بالتدريج من الضروري جداً إنشاء معهد أو جمعية للدراسات التاريخية، كما هو الحال في الغرب، وتزود بالمال اللازم، وتضم شتات المشتغلين بالبحث التاريخي في مصر، وتنضم أعمالهم وتوحد جهودهم للإنتاج العلمي الصحيح. ومن اللازم أيضا أن نبدأ بإصدار مجلة للعلوم التاريخية، فإنه توجد في الغرب مجلات عديدة في التاريخ العام ومجلات خاصة لفروع التاريخ المختلفة. ولابد من جهد متواصل وتضافر وإخلاص في العمل، وبعد عن الزخارف وأبهت المناصب؛ ونحن أشد الحاجة إلى إيجاد بيئة علمية صحيحة تعمل للعلم وحده، وتضع تقاليد وطيدة، وتقوم ببعض الواجب نحو العلم والتاريخ.

(يتلى)

حسن عثمان