مجلة الرسالة/العدد 426/قصائد الشعراء
→ تحت ظلال الكافورة | مجلة الرسالة - العدد 426 قصائد الشعراء [[مؤلف:|]] |
كيف يكتب التاريخ ← |
بتاريخ: 01 - 09 - 1941 |
2 - قصائد الشعراء
في تأبين سعد
للدكتور زكي مبارك
قصيدة العقاد:
لم يرسل العقاد قصيدته على النحو المألوف في قصائد الرثاء، وإنما قسمها إلى موضوعات ليصف أكثر الجوانب من شخصية سعد في الحياة والممات، فرأينا في القصيدة أربعة عشر موضوعاً تصورها العناوين الآتية:
(الأربعون - موقف التشييع - من منبر القبر - سعد والضعفاء - مراحل الخلود - سعد يملي على التاريخ - صورة على صفحة الزمن - يوم النفي - إلى مؤتمر السلام - مواكب العودة - سيشل وجبل طارق - الاعتداء الأثيم - المؤتمر الوطني - وداع)
وبهذا التقسيم استطاع الأستاذ عباس العقاد أن ينوع الصور في قصيدته، وأن يجعلها حافلة بطوائف مؤتلفة من الألوان وتظهر جودة هذه القصيدة لمن ينظر الصورة الأولى، إذ يقول الشاعر في انقضاء أربعين يوماً بعد وفاة سعد:
أمَضتْ بعد الرئيس الأربعون؟ ... عجباً! كيف إذن تمضي السنون؟
فترةُ (التيه) تغشّتْ أمة ... غاب (موساها) على (طور سنين)
كلَّ يوم ينقضي نفقدُه ... وهو ملء الصدر من كل حزين
تكبُر البلوى به حين مضتْ ... والبلايا حينما تمضي تهون
كيف ينسى الناس من لم يَنسهم ... يوم تُنسى النفس والذُّخر الثمين
لم يزالوا كلما قيل لهم ... ذهب الموت به يلتفتون
ينظرون القبر لم يبعد بهم ... عهدُ رب القبر في البيت الأمين
لا ولا طالت على أسماعهم ... هدأةٌ من دعوات الهاتفين
يتدانى طيفُه في سِنة ... يُفجع الحالم فيها كلّ حين
إيهِ يا سعد وما أنت سوى ... بَشر يدركه ريب المنون
جئت للناس بِبشْرى خالق ... فإذا متّ فلمْ لا يُفتَنُون تلبس الخُلد وتنضوه فما ... أجدرَ القومَ بعسف الحائرين
لِمَ يا دنيا - وقد أنشأتِهِ ... بدعة - في خُلده لا تبدعين
عاش ممنوع قرين في العُلا ... ليته في الخُلد ممنوع القرين
ذلك هو الموضوع الأول من موضوعات هذه القصيدة، والقارئ يشهد قوة الفطرة والطبع في مثل هذا البيت:
تكبُر البلوى به حين مضت ... والبلايا حينما تمضي تهون
أما قوله:
أمضت بعد الرئيس الأربعون؟ ... عجباً! كيف إذن تمضي السنون
فهو من القوة بمكان، ومعناه أن الأربعين يوماً طالت حتى عصفت بالصبر الجميل، فكيف إذن تمضي السنون، وهي طوال طوال؟!
أطايب القصيدة
وفي هذه القصيدة كثير من الأطايب، كأن يقول الشاعر في عصامية سعد:
يا كبير النفس في ميعته ... وفتىَّ البأس والعمرُ وهون
وعصامياً بَني الطَّود وكم ... هُدمت أطواد أقوام بُنين
زاهداً في كل فانٍ وله ... طمعٌ في المجد أعيا الطامعين
خلف السؤدد آفاقاً وما ... جاوزِت دنيا ثراه أربعين
قبل ميلادك لم يشرف أب ... من بني الريف ولم تنجب بطون
وفي هذا البيت إشارة صريحة إلى خصيصة من أظهر خصائص سعد، وهي نشأته الريفية. ويريد بها الشاعر أن يجعل سعداً عريقاً في العظمة القومية، وكأنه يعرض بمن كانت لهم أصول مدخولة في هذه البلاد، وبدون هذا الغرض لا يتسق الكلام، فللريف المصري فضل كبير في إنشاء المواهب، وما نشأ عظيم في مصر إلا وهو موصول الأواصر بذلك الريف، وإن كان من الدخلاء
ومن أعجب خصائص الريف أنه ينبوع المواهب، ويفتح أمام الأذهان آفاقاً لا تفتحها المدائن. ومن هنا يصلح أي ناشئ في الريف للنهوض بإعمال لم تؤهله لها ثقافته الشخصية وتفسير ذلك أن الحياة بالريف توجه العقل إلى إدراك المطالب القومية، وتروض الذهن على تعرف المشكلات التي تعترض حياة الأهليين، وهي مشكلات ذات ألوان وأشكال، والتمرس بها يخلق القدرة على الإحاطة بما يثور في الصدور من آلام وآمال. فقول العقاد في سعد:
قبل ميلادك لم يشرف أب ... من بني الريف ولم تنجب بطون
لم يرد به غير تأكيد القول في نباهة سعد، فهو يريد التنويه لا الاستقراء؛ وإلا فالشواهد كثيرة على من نبغوا من أبناء الريف قبل سعد زغلول
ومن أطايب هذه القصيدة قول سعد كما صوره العقاد:
صال بالجيش (كمال) ومضى ... بذوي القمصان يسطو (مُوسلينْ)
وأنا الأمة والجيش معاً ... وأنا السيف جميعاً واليمين
من بيان الصدق جرّدتُ لهم ... عدة تصمى الكماة الفاتحين
أنا مصر وهي في سؤددها ... أنا مصر وهي الأسر سجين
أنا ألقيت على عاتقها ... حملها المطروح بين الآخرين
وهذا البيت جيد جداً، ومعناه أن سعداً راض الأمة على أن تحمل وحدها عبء الكرامة القومية، وهو عبء لا يحمله غير من وصل إلى شرف الفهم لقيمة التكاليف الثقال، ولا تضيع الأمم إلا حين تتوهم أن الحرية مغنم يساق، وليست مطلباً ينال بالدماء، وتشقى في سبيله عزائم الرجال
ومن روائع هذه المرثية قول العقاد في شخصية سعد:
يَعجبُ المرء أشخصٌ واحدٌ ... أنت أم شتَّى شخوص وفئين
ناضر النفس وإن لاحت على ... وجهك السمح سمات وغضون
وغضير القلب لا يألوك في ... صَرعات النزع في نبض رزين
تأخذ اللب برأيٍ ثاقب ... وفكاهاتٍ عِذابٍ وفنون
ضَحِكُ الأطفال في الطيب إلى ... ضحك الأقدار في الجد الرزين
يوم ودعنك ودعت امرأً ... يملأ الدنيا ويَقضِي ويَدين
وأحيّيك لألقاك غداً ... حجراً يعلوه نوّار الغصون وهذا شعر نفيس. . . وقول العقاد إن سعداً كان غضير القلب حتى في ساعات النزع ليس خيال شاعر، وإنما هو حقيقة؛ فقد شهد الأطباء بأن قلب سعد كان ينبض عند النزع بمثل القوة التي كان ينبض بها وهو في أوقات الصحة والعافية، وإلى هذه الظاهرة الغريبة أشار الشاعر محمود عماد إذ يقول:
وأنهدَّ قلبٌ طالما اعتدَّت به ... مصرٌ ليوم كريهةٍ وعُرام
قلبٌ كقلب الكون يلبث نابضاً ... والموت بادٍ في الحشا والهام
ولا يتسع المقام للإفاضة في محاسن قصيدة العقاد، وما أشرنا إليه يبين جوهرها الثمين
قصيدة الجارم بك
لم تلق هذه القصيدة في حفلة التأبين، وإنما نشرها المقطم في اليوم التالي وقال أنها (للأستاذ الشيخ علي الجارم المفتش بوزارة المعارف) وهي تبتدئ بهذه الأبيات الجياد:
لا الدمعُ غاض ولا فؤادك سالي ... دخَل الحِمامُ عرينة الرئبالِ
وأصاب في الميدان فارس أمة ... رفعَ (الكنانة) بعد طول نضال
رشقتْه أحداثُ الخطوب فأقصدتْ ... حربُ الخطوب الدُّهم غير سِجال
للموت أسلحةٌ يطيحَ أمامَها ... حول الجريء وحيلة المحتال
ما كان سعدٌ آية في جِيله ... سعد المخّلد آية الأجيال
تَفنَى أحاديث الرجال ذكره ... سيظل في الدنيا حديث رجال
سارٍ كمصباح السماء يحثه ... كر الضحا وتعاقب الآصال
ومضى الجارم فتحدث عن الأيام التي عانتها مصر قبيل الدعوة إلى الاستقلال: فجعل السيف يلمع فوق كل رأس، وجعل الأرض ترجف والذعر يعصف بالقلوب، وأسرف فجعل الناس جميعاً في أهول من يوم الحساب:
وإذا بصوتٍ هز مصر زئيره ... غضبُ الليوث حمايةٌ الأشبال
صوت كصور الحشر جّمع أمة ... منحلة الأطرف والأوصال
فتطلعت عين وأصغت بعدها ... أذن وهمت ألسنٌ بسؤال
مَن ذلك الشعشاع طال كأنهُ ... صدر القناة وعاملُ العسال
ومَن الذي اخترق الصفوف كأنه ... قدَرُ الإله يسير غير مبال سعدٌ، وحَسبُك من ثلاثة أحرف ... وما في البرية من نُهًى وكمال
ومِن السيوف إرادةٌ مصقولة ... طُبِعتْ ليوم كريهة ونِزال
ومضى يغبّر لا العسير بخاذل ... أملاً ولا نيل السها بمحال
فكأنه سيف المهيمن خالدٌ ... وكأن دعوته أذان بِلال
ما راعه نفيٌ ولا لعبتْ به ... في حُب مصر زعازع الأوجال
كالشعلة الحمراء لو نكَّستها ... لأضفتَ إشعالاً إلى إشعال
والسيل إن أحكمت سد طريقه ... دك الحصون فعدن كالأطلال
ومن أجود هذه القصيدة قول الجارم في صراحة سعد:
خصم شريف نال من خصمائه ... ما نال من إجلال كل موال
عرفوه وضّاح السريرة طاهراً ... شرُّ البلاء خصومةُ الأنذال
إن الشجاعة أن تناضل مُصحراً ... لا أن تدب كفاتك الأصلال
قصيدة مطران
لم تلق في حفلة التأبين، وإنما نشرت في (الأهرام) بعد الحفلة بأيام، وأذكر أني قرأت على الدكتور طه حسين جملة منها في صبيحة اليوم الذي نشرت فيه، وكنا على موعد بداره في مصر الجديدة لنمضي معاً إلى الجامعة المصرية، فاتفق أن رأينا الأستاذ خليل مطران في الطريق، فكان من الطبيعي أن يحدثه الدكتور طه عن قصيدته، فقال الأستاذ مطران ما نصه بالحرف:
(لم أرد أن أقيم ملطمة عامة على سعد، كما صنع جماعة من الشعراء، وإنما أردت أن أحدد مكانه في التاريخ)
وكانت القصيدة كذلك، فقد تحدث مطران عن سعد كما يتحدث المؤرخ، وإن وشى حديثه بزخارف البيان
وقد رجعت إلى مكتبتي أستهديها تلك القصيدة فبخلت، فرجوت الدكتور رشيد كرم أن يتلطف فيحضر نسخة القصيدة من الأستاذ خليل مطران، فأحضرها بعد أيام طوال، ولكن أي قصيدة؟ هي قصيدة سنة 1936 لا قصيدة 1927، وهي القصيدة التي نظمها مطران عند انتقال رفات سعد إلى الضريح.
وذكرت الأستاذ مطران بما كنت أرجوه وقد لقيته في حفل خاص مع الدكتور علي باشا إبراهيم؛ فقال الجراح الأكبر: ألست تذكر أنها نشرت في الأهرام؟ قلت: نعم! فقال: أطلبها من أنطون بك الجميل. فقلت: ولكن ذلك يضيع فرصة الحديث عن هذه القصيدة في هذا الوقت، وسأقدم مقالي لمجلة (الرسالة) بعد يومين أثنين
ثم نظرت في القصيدة الثانية فرأيت فيها محاسن جديدة لا أذكر أني ظفرت بمثلها في القصيدة الأولى، فقدّرت أن الشاعر اختارها عن عمد، لتكون صوته المختار في تأبين سعد.
ومطران يقسّم قصائده الطوال إلى موضوعات وتلك عادته منذ زمن بعيد، وقد تحدّث في قصيدته عن الشؤون الآتية:
(مات سعد وروح سعد باقية - مأتم سعد في مصر والشرق - ترجمة سعد - سعد في الصحافة - سعد في المحاماة - سعد في القضاء - سعد وزيراً للمعارف - سعد نائباً عن الأمة في العهدين - صورة سعد - سعد في أحاديثه - سعد الأديب - سعد الخطيب - سعد الزعيم الأكبر ووصف أخلاقه - سعد في وجه أعداء الوطن سعد في صحابته - سعد في منفاه وبعد عودته فائزاً - سعد في رياسته للحكومة الدستورية - بيت الحياة وبيت الخلود - إلى أم المصريين)
وقد أحتفل الشاعر بهذه الموضوعات فتكلم عنها بتفصيل شائق خلاب، كأن يقول في سعد الخطيب
قضى الخطيب الذي كانت فصاحته ... حالاً فحالاً هي الآلاء والنعم
حدِّث عن البلسم الشافي يمرّ به ... على الجراح قد استشرت فتلتئم
حدِّث عن البلبل الغِرِّيد مختلفاً ... بين الأفانين من تطريبه النغم
حدث عن الضيغم الساجي يثور به ... تحرُّشٌ بحمى الأشبال لا القَرَم
حدث عن السيل يجري وهو مصطخبٌ ... حدث عن النار تعلو وهي تحتدم
حدث عن البحر والأرواح عاصفةٌ ... والسحب عازفة والفُلك ترتطم
وكأن يقول في وصف أحاديث سعد:
قضى الذي كان ناديه ومحَضره ... قلادةً لكرام الناس تنتظم إذا تكلم أصغت كل جارحةٍ ... إليه لا الكدَّ يَثنيها ولا السأم
دُرٌّ يُسلسله فيما يفوه به ... فالقلب مبتهجٌ والعقل مغتنم
كأن جلاسه مهما عَلَوْا رتباً ... راجو صلاتٍ عليهم تنثر النعم
ويرى مطران أن شمائل سعد تعجز المؤبنين فيقول:
يا من يؤبن سعداً، مَن تؤبنه ... هو الهدى والندى والبأس والشمم
هيهات توصف بالوصف الخليق بها ... تلك الفضائل والآداب والشيم
ما القول في دوحة فينانة سقطت ... ومن أماليدها الإحسان والكرم
كأنما غيضةٌ مجموعة نشبتْ ... فيها المنايا تُثنِّيها وتخترم
لكنني أستعين الله معتذراً ... عن القصور وبعض العجز لا يصم
ومع هذا الاعتذار الطريف فقد أبدع مطران في رثاء سعد كل الإبداع
أما بعد. فقد رأى القراء أن الشعراء الذي تحدثنا عنهم قد التقوا في كثير من المعاني، وكان من الممكن أن نعقد الموازنات فنعرف كيف سبق هذا أو تخلف ذاك، كأن نشرِّح ما قالوا في وصف خطابة سعد، وكأن ننظر كيف صوروه في المحاماة والقضاء
فمتى نوازن بين هذه القصائد الجياد؟
ومتى نبين المعاني التي أنفرد بها بعض أصحاب هذه القصائد؟
زكي مبارك