مجلة الرسالة/العدد 423/من رسائل الصيف
→ إلى الأستاذ الزيات | مجلة الرسالة - العدد 423 من رسائل الصيف [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 11 - 08 - 1941 |
الدار المقدسة
(مهداة إلى الإنسان الشاعر. .)
للأستاذ عبد الحميد يونس
أخي إبراهيم. . .
قرأتُ فيما قرأت أن هُناك مرآة مسحورة لا ترى فيها نفسك في لحظة من لحظات حاضرك أو فترة من فترات مستقبلك، ولكنك تشاهد فيها شخصك في برهة واحدة تختارها من ماضيك.
وأنا الآن أتمنى كالأطفال أن أحصل على هذه المرآة، وأن أركب في هذا السبيل ما يركب أبطال الأساطير من أهوال، فإن عبور البحر أهون من عبور الزمن إلى الوراء، وملاقاة المجهول آلم من ملاقاة المعلوم، واستعادة الذي كان معك ثم ضاع، أشهى من حصولك على مالا ترتقبه مما هو آت!. . .
ودعني أسائل نفسي وقد تحققت أمنية العثور على هذه المرآة (أي لحظة من لحظات ماضي أريد؟). . . هي هذه الومضة من ومضات صباي وقد ذهبت إلى بيتنا الجديد، فلم أنظر إليه إلا بعد أن تمليت من البناء المواجه له ذي النوافذ الشبيهة بنوافذ المساجد، وكنت أعلم أنه مقام صاحب النظرات والعبرات
هذه الدار أيها الصديق أنفقت ما يقرب من خُمس قرن خلعتُ فيها صباي وسلختُ شبابي؛ دخلتها تسابقني آمال عذاب، وخرجت منها بذكريات أعذب!
وما أظنك نسيت البرج الذي كان يشبه أبراج المنائر حيث كنت أبشر بالطريقة الإشراقية التي تعلو على الناس وإن لم تنفصل عنهم؛ وحيث خيَّلت إلي نفسي القدرة على مطاردة الأوهام والوساوس والكشف عن الترهات والأباطيل؛ وحيث ظننتني أستطيع هداية الضالين، ولو كانوا من القرصان والمهربين؛ وحيث رأيتني أحارب إله الظلام، فلا أكاد أصرعه حتى أراه يتسلل من الناحية الأخرى!
أو نسيت الغرفة الجرداء التي كنت أستقبل فيها وفود العكر زمراً تعقبها زمر، وأفراداً إثر أفراد، والتي كنت أمثل فيها خاشعاً بين يدي الأنبياء والأولياء والقديسين؟ وكيف تنساها وقد وسعت جمهورية أفلاطون وطوبى مور وجزيرة مكدوجال؟
أما المقصورة، فأنت لا تذكرها، لأنها كانت المكان الحرام الذي مارست فيه فن الحياة، ومهدت للقصائد التي هجت بها نفسي ولم تنفرج عنها شفتاي أو يسجلها قلمي. . . وجمعت فيها بين الملائكة والشياطين، ولقيت فيها (ليليت) وبناتها، وتاييس في انطلاقها وفي توبتها، وأفروديت في خلابتها؛ وسمعت فيها أعذب اللثغات وأشهى الضحكات وأعمق الزفرات. . .! هنا، أيها الصديق، عجنت تجاربي، واختزنت ذكرياتي، وحبست أوهامي. . .! هنا أديت فرائض الشاعر وشعائر الحكيم!
والخزانة الصغيرة التي كانت وكأنها (باب جحا) لا تكاد تطلب منها شيئاً حتى تراه؟. . . الخزانة الصغيرة النفيسة التي لم يكن خادمها موكلا بغذاء البطون، وإنما كان مختصاً بغذاء العقول والقلوب؟. . . لقد أخذتها معي، فبطل السحر، وبقيت الصحائف والرفوف!
وأنت ألم تجلس معي تحت هذا المصباح؟ أنا موجود وأنت موجود، والمصباح كذلك موجود؛ ولكن (التغير) صيرني شخصاً آخر، وحولك إلى غيرك، ونور المصباح في عيوننا الآن ليس كما كان بالأمس!
واليوم أقتلع من هذه الدار المقدسة اقتلاعاً، فكم رددت جدرانها صلواتي، وسمعت ابتهالاتي، ووعت حكمتي، وحفظت قصائدي! وكم انشقت سقوفها عن طيف، وانفرجت نوافذها عن خيال، وانفتحت أبوابها حتى لعدو!
ألا قل لهذه الدار المقدسة ألا تبوح بأسرار وجداني إلا لصاحب وجدان، وألا تطلع أحداً على خزائن تجاربي إلا إذا كان من زمرة الإشراقيين، وألا تفتح كنوز ذكرياتي إلا لمن يصلح للقيام على البرج والمقصورة والمحراب!
ألا قل لهذه الدار المقدسة إنني ما غادرتها قالياً، ولا تركتها راضياً، وإنني مررت بها سأقف وأستوقف، وكلما ذكرتها سأبكي وأستبكي؛ وإنني - لولا التجمل - لفعلت ساعة الرحيل ما يفعل العجائز في الأضرحة، فقبلت المقابض والجدران!
وهكذا تراني أيها الأخ إذا حصلت على تلك المرآة لا أقنع من ماضي بلحظة واحدة، وإنما أريده كله لا أنقص منه حتى ساعات الألم! بل وهكذا تراني إذا حصلت على هذه المرآة وتحققت رغبتي فرأيت ماضي كله لا أقنع بالمشاهد والنظر، فالفرق بينك وبين صورتك كبيرة، والفرق بين تذكرك لماضيك وبين أن تعيش ماضيك أكبر وأكبر. . .
(طبق الأصل)
(حمدي)
عبد الحميد يونس