الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 423/إلى الأستاذ الزيات

مجلة الرسالة/العدد 423/إلى الأستاذ الزيات

مجلة الرسالة - العدد 423
إلى الأستاذ الزيات
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 08 - 1941


محنة التعليم الإلزامي

للأستاذ علي عبد الله

كانت كلمتك يا سيدي عن هؤلاء الجنود المجهولين، نفحة من نفحاتك المباركة، ونظرة من نظراتك الصادقة، أنصفت بها هؤلاء المظلومين المكدودين، وذكرتهم حين لم يذكرهم ذاكر، وقلت فيهم قالة الحق في وقت بخلت عليهم فيه الوزارة بما يسد الرمق، وحرمهم الناس حتى من كلمة طيبة ونظرة رحيمة!.

وأشهد لقد وجدوا في كلامك عنهم ورأيك فيهم أحسن العزاء؛ وإن لهم فيه لغنية إذا بخلت الوزارة بالجزاء. وقد يجد المظلوم برد الراحة في كلام من يرثي له أو يعطف عليه.

وأشد ما أدهشني من كلمتك أنها كانت على إيجازها أصدق وأوفى ما كتب في هذا الموضوع منذ عرفته البلاد إلى اليوم؛ فصورت العيوب والعلل، وفرقت بين الجوهر والعرض، ووازنت بين الماهية والكيفية، وحددت المسؤولية ووضعتها في موضعها؛ وعرفت من أمر هذا النوع من التعليم ما لم يعرفه القائمون بأمره، ولو عرفوا بعض ما عرفت لوجدوا إلى الصواب رسولاً، ولاتخذوا مع هذا الرسول سبيلاً. . .

ومن ألطف ما رأيته أني مررت بمعلم يقرأ على بعض إخوانه ما كتبته (الرسالة) عنهم؛ ولم يكن يقرأ من المجلة، وإنما كان يقرأ من ذاكرته، إذ كان قد حفظ المقال من شدة كلفه به؛ وما انتهى من القراءة حتى انصرف إلى إخوانه يقول لهم: والله لو لم أكن معلماً إلزامياً لوددت أن أكون ذلك المعلم اليوم! ولو لم أكن مظلوماً لتمنيت أن أكون مظلوماً، لأن ما كتبه صاحب الرسالة أشهى عندي وأحب إلي من أن تنصفني الوزارة أو ينصفني الناس. وإن من الخير لي أن أكون مع هؤلاء المجهولين الذين ذكرتهم الرسالة بالخير، من أن أكون مع المترفين المجدودين الذين غمرتهم الحكومة بالمال. . .

إنك يا سيدي لم تدع لأحد بعد مقالك أن يقول شيئاً؛ ولكني أحب أن أؤيد ما ذكرته عن هؤلاء الجنود المكافحين، بما يدل على أنك كنت ملهماً تستشف الحقائق من وراء أستار الغيب!!

فمن ذلك أن أولياء الأمر أسرفوا في غبن هؤلاء المعلمين فخفضوا من مرتبهم جنيهاً كاملاً، وأصبح المعلم الجديد يتقاضى ثلاثة جنيهات بدلاً من أربعة؛ ثم جعلوا العلاوة الدورية نصف جنيه كل ثلاث سنوات. وزعمت الوزارة بهذا أنها استجابت لرغباتهم وحسَّنت حالهم ووضعت لهم نظاماً للعلاوات: مع أن الجنيه الذي استقطع من رواتبهم الضئيلة أصبح لا ينال إلا بعد قضاء ست سنوات في الكفاح والشقاء. . .

وأنا أعرف معلمين قضوا في خدمة هذا التعليم أكثر من خمسة عشر عاماً، ورافقوه وهو طفل في مهده وما تزال مرتباتهم أقل من خمسة جنيهات. وكان هؤلاء لا يعولون إلا أنفسهم؛ ولكنهم أصبحوا بعد هذه المدة الطويلة في عائلات يزيد أفراد كل منها على العشرة

أقول هذا وأنا أعلم أن في رجال التعليم الأولي من يبلغ مرتبه عشرة جنيهات وخمسة عشرة وتسعة عشر، وعلة ذلك لا ترجع إلى تفاوت في الكفاية أو زيادة في العمل أو امتياز بالأقدمية؛ وإنما ترجع إلى ارتباك نظام التعليم الأولي وتعدد أنواعه ومدارسه وبرامجه ونظمه. فهناك مدارس أولية تابعة للوزارة، وأخرى تابعة لسكة الحديد، وثالثة تابعة لمجالس المديريات؛ ثم هناك شيء اسمه التعليم الأولي الراقي، والتعليم الأولي القديم، ومشروع التعليم الأولي، ثم التعليم الإلزامي، ومع أن الجميع يعلمون الأطفال ولا يزيد بعضهم على بعض شيئاً في العمل، فإن مرتباتهم تختلف كل الاختلاف حسب أسماء المدارس التي يعملون فيها. وقد أجازت الوزارة أخيراً أن ينتقل المعلمون من مدارسهم إلى المدارس الأخرى التي ليست من درجتها ولا من نوعها، واحتفظت لكل معلم بمرتبه ودرجته؛ وبذلك أصبح في المدرسة الواحدة من يتقاضى أربعة جنيهات ومن يتقاضى ثمانية. وقد يكون الأول أقدم من الثاني، كما قد يزيد مرتب المعلم على مرتب الرئيس.

ومن غريب الأمور أن الوزارة قد أسرفت في التجني على رجال التعليم الإلزامي، فأصدرت منشوراً عاماً استبدلت فيه اسم المكاتب بالمدارس، وحرمت فيه على كل معلم أن يزعم لنفسه أنه مدرس في مدرسة، وإنما يجب أن يكون معلماً في مكتب عام. والمفهوم من هذا أنها استكثرت على هؤلاء البؤساء حتى الأسماء وتعمدت تحقيرهم، بينما هي أسلمت إليهم فلذات أكباد الأمة لإعداد الجيل الجديد منها.

أما قبل تنفيذ قانون الإلزام، فقد شقي المعلمون بمحنة لم يسمع بمثلها الناس، وهي أن المعلمين الإلزاميين كانوا يكلفون بالمرور على بيوت الفلاحين وحقولهم في القرى، لمطاردة التلاميذ والقبض عليهم وإحضارهم إلى المدارس. . . فمن استطاع أن يملأ فصله فهو في أمن من العقوبة؛ أما الذي تنهاه كرامته عن التعرض لأذى الفلاحين وعدوانهم فهو مغضوب عليه، وقد يعرضه هذا للفصل من الخدمة

ومن بواعث الأسى أن أحد مديري الدقهلية الأسبقين دخل عليه معلم إلزامي في مظهر أنيق وسمات وسيمة، يرفع إليه ظلامة من الظلامات، فظنه الباشا واحداً من الكبراء في البلد، فأكرمه واحتفى به، ولكنه عرف آخر الأمر أنه من الإلزاميين فشتمه وطرده، وأقسم أن يجرد جميع المعلمين من هذه الملابس التي يظهرون فيها بمظهر أهل النعمة؛ وبر الباشا بقسمه وساعده مفتشو المعارف اتقاء بطشه!

وصدرت الأوامر إلى جميع قوات البوليس والمباحث والخفر والعمد في البلاد بالتفتيش على المعلمين في المدارس والتبليغ عمن يوجد منهم غير متلبس بعمامة أو لابس قفطاناً. . .

ولم يكن للمفتشين من عمل في تلك الأيام إلا التفتيش على الجبب والقفاطين، لا على التربية والتعليم؛ وأصبح لبس العمامة عند الباشا من مؤهلات الترقية وزيادة المرتب، فلم يكن يرد لمعمم حاجة!

أقول هذا وأنا مشفق من أن أذكر كل ما أعرف، ولو شفيت نفسي بذكر الحقيقة المؤلمة، لأبكيت الناس وأضحكتهم، وأظهرت لهم أن التعليم الإلزامي إنما شقي بقادته وسادته، أولئك الذين يعيشون فيه وهم عنه غرباء، ويلقون المسئولية على المعلمين وهم منها أبرياء

(المنصورة)

علي عبد الله