الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 422/مدن الحضارات في القديم والحديث

مجلة الرسالة/العدد 422/مدن الحضارات في القديم والحديث

مجلة الرسالة - العدد 422
مدن الحضارات في القديم والحديث
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 08 - 1941

5 - مدن الحضارات في القديم والحديث

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

يعتبر عصر الأسرة العلوية فاتحة عصر جديد في تاريخ القاهرة التي دارت عليها من الزمان أحوال من النحس والسعد، كما هو الشأن دائماً في كل بلد تنوشه الخطوط وتتقاذفه الأقدار.

ولقد طبعت القاهرة في عهد هذه الأسرة بطابع خاص مع احتفاظها بجلال القدم وروعة الماضي، وأفاضت عليها مآثر هذا البيت حللاً رائعة التقي في أثنائها الماضي بالحاضر والقديم بالحديث والشرق بالغرب، فبدت القاهرة بلداً شرقياً جميلاً يخلب اللب ويلفت النظر. وتهاوي إليها الععلماء وأهل الفنون والرحالون يمتعون النظر بمحاسن جمالها، أو يسرحون الطرف في رباعها المملوءة بروعة التاريخ وقدسية الماضي، ويجدون في آثارها القائمة وأعلامها الباقية ومعابدها وهيا كلها مجالاً للدرس وميداناً للبحث ومراداً للهو. فوصل إليها في شهر أكتوبر سنة 1806 - أي في أوائل حكم محمد علي باشا - الأديب الفرنسي المشهور (شاتوبريان) صاحب القصص الرائع والأسلوب المحكم.

قضى هذا الكاتب العظيم أياماً في مدينة رشيد، ثم وفد إلى القاهرة، فاستقبله نجل الوالي الكبير، ولقي في رحاب مصر وظلال الأهرام وعَبْرى النيل، ما جعله يتغنى دائماً بهذه الرحلة السعيدة.

وزار القاهرة في ذلك الحين ايضاً الكونت (دي فوربان) والكونت ماركيلوس؛ وسجل أولهما في كتابه وصفاً ممتعاً لمصر عامة والقاهرة خاصة، وحظي الاثنان بعطف الوالي عليهما وميله إليهما وإهدائهما بالهدايا الثمينة والعطايا الكريمة. وممن زار القاهرة في ذلك الحين الضابط الفرنسي الكبير مارمون وشامبوليون المؤرخ الكبير وصاحب اليد الطولي في حل طلاسم الكتابة الهير غليفية، وجوزيف ميشو المؤرخ، ودوزا الرسام الصناع المصور الحاذق.

وليس عجيباً أن تزخر القاهرة في ذلك الحين بطائفة من أكابر العلماء وأعلامهم، فقد كان الوالي يحسن ضيافتهم ويرحب بهم ويستعين بعلمهم، وبحثهم على فتح آفاق جديدة في النهضة المصرية التي حمل لواءها، ورفع بناءها.

ودبت الحيات في القاهرة من جديد، وودعت عهد الفتن التي سادتها حيناً من الدهر، واستقر فيها الأمر واستقام الحكم، وبدأت عناية الوالي تنصرف إلى البناء والتعمير، والإصلاح والتجديد، فبنى مسجد محمد علي بالقلعة على نسق تركي بديع، وأصلح مسجد عمرو بن العاص بمصر العتيقة، وجدد مسجد السيدة زينب وأصلحت أجزاؤه المتهدمة وزخرفت جدرانه وزينت أركانها بالنقوش البديعة، وصلى فيه الوالي صلاة الجمعة يوم 14 ربيع الآخر سنة 1217هـ.

وشهدت القاهرة في عهد تلك الأسرة أفراحاً ومعالم تذكر بأفراح الفواطم ولياليهم الخوالد، وكانت أضواء الثريات تنعكس ليلاً على بركة الأزبكية، وتتراءى النجوم في جوانبها فيخال الرائي أن سماء ركبت فيها. وأقيمت السواري وركبت القناديل، ونصبت المصابيح، وأديرت المطابخ، واستمر اللهو في القاهرة أياماً. واجتمع اللاعبون والراقصون والمغنون وأصحاب الفردة والمضحكون يبعثون إلى النفوس ألواناً من السرور.

وكان مهرجان الزفاف - كما تذكر كتب التاريخ - شيئاً عجيباً، وازدحمت قنطرة الموسكي وباب الخلق ودرب الجماميز، والصليبة والسروجية والجمالية والأزبكية بآلاف من الناس ومئات من العربات.

حدث ذلك في عهد محمد علي باشا، وحدث بصورة أروع في عهد اسماعيل حينما تزوج أبناؤه الثلاثة. ولقد ظلت القاهرة في فرح كامل مدة أربعين يوماً لما تهدأ لها عين، ولم يسكن لها طرف، ولم يخبُ فيها ضوء. . . وكانت الموائد موصولة غير مقطوعة؛ وأصناف الطعام تروح وتغدو على المدعوين فيجدون تنوعاً ولذة، وغصت الساحات الرحاب والعرصات الفساح بالفرق الغنائية، فهذا (الحمولي وتخته)، وذلك (الدمياطي وجوقته). واشترك في هذه الحفلات الغني والفقير، والصغير والكبير، والأمير غير الأمير. ففي داخل القصر لهو ولعب، وفي خارج القصر فرح وطرب، وفي الشوارع زحام بالمناكب، وفي شرفات المنازل أجسام مشرفة ورؤوس مطلة، وفي النيل قوراب ومراكب غصت بالراكبين.

ولا شك أن هذه الصورة الجملية التي لم نراها رأي العين تذكرنا بأفراح القاهرة في قرن الفاروق، فقد رأيناها وقد لبست أبهى حلة وأكمل زينة، وزيَّنتها ثريات الكهرباء، وسطعت فوق دورها الأنوار الساطعة والأضواء اللامعة، وبدا قصر عابدين وكأنه قبس من نور، أو قطعة هائلة من البلور؛ وامتدت أقواس النصر هنا وهناك وقد جللتها الأنوار، وكللتها الأزهار، وازدحمت القاهرة بالوافدين إليها على قُطُر تنهب الأرض وتطوي الفضاء، وكان في كل بقعة فرح، وفي كل رقعة سور.

وفي عهد هذه الأسرة اختطت في القاهرة شوارع جديدة، وأنشئت أحياء حديثة. ففتح شارع السكة الجديدة، وشارع الموسكي، ومُهِّد الطريق بين القاهرة وبولاق، وفتح شارع محمد علي فتحاً جديداً أزيلت بسببه بيوت قذرة، وحارات ضيقة، ومنعطفات مظلمة. وكذلك كان حال شارعي الفجالة وشبرا. وأقيمت على حفاف هذه الشوارع بيوت عالية وقصور كبيرة لا تزال بعض بقاياها إلى اليوم. وبهذه الحركة الإنشائية خلقت القاهرة خلقاً جديداً، وقضى على كثير من مبانيها الخربة، وخرائبها القذرة، وبركها المنبثة في داخلها، وأقيم على أنقاض ذلك كله شوارع واسعة طويلة، وبيوت أخذت تجاري التقدم العلمي وتماشي التطور الهندسي حتى وصلت إلى ما نشاهده اليوم من قصور عالية رفعت لمخترق السماء سموكها، وكادت تلامس الجوزاء قممها، حتى كأن البحتري كان يعني كل قصر منها بقوله:

ذُعر الحَمام وقد ترنم فوقه ... من منظر خطر المزلة هائل

وأخذت مكانة القاهرة تعظم وشهرتها تتسع، حتى زاد إقبال الملوك والأمراء عليها، وكثرت رحلة العلماء والأدباء إليها. فزارها في عهد إسماعيل - غيرَ من شهدوا حفلة افتتاح قناة السويس - السلطان عبد العزيز الخليفة العثماني سنة 1863 وتجد وصفاً ممتعاً لزيارته في كتاب نفحات تاريخية لعزيز بك خانكي؛ كما زارها: (فلوبير)، و (تيوفيل جوتييه)، و (رينان)، و (شارل إدمون)، و (سولسي)، و (إدمون أبوت) صاحب كتاب (أحمد الفلاح) وكثير غيرهم.

وجمِّات ميادين القاهرة في عهد تلك الأسرة بالتماثيل المقامة تخليداً لذكرى الأبطال والعظماء؛ فأقيم في الميدان المعروف اليوم بميدان الملكة فريدة تمثال البطل الفاتح إبراهيم باشا، الذي نقل بعد الثورة العرابية إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا. وأخذت فكرة إقامة هذه التماثيل تزداد وتتسعكل يوم، حتى رأينا منها إلى اليوم تمثال لاظ أو إلى في الميدان المنسوب إليه، وتمثال سليمان باشا الفرنساوي، وتمثال سعد زغلول عند نهاية جسر الخديو إسماعيل (قصر النيل سابقاً)، وتمثال مصطفى باشا كامل الزعيم الوطني في الميدان الذي ينسب إليه اليوم، والذي كان يعرف قبلاً بميدان (سوارس).

وشهدت القاهرة منذ ذلك العهد روحاً علمية لم تشهدها حتى في أيام الفاطميين. فأنشئت الجمعيات العلمية المتعددة كالجمعية الجغرافية التي رأسها الدكتور (شوينفرت) الألماني، وجمعية المعارف التي وضعت تحت رعايتها الأمير توفيق باشا ورياسة عارف باشا لنشر الكتب والقيام على طبعها ترويجاً للثقافة ونشراً للعلم والأدب.

وتبع ذلك سيل فياض من الجمعيات العلمية ذوات النشاط الملحوظ في عهد الملك فؤاد، وهي جمعيات كان جلالته يتولاها بكثير من رعايته وتشجيعه حتى اتخذت طابعاً علمياً، وكان لها مكان وقدم راسخة بين الجمعيات الأوربية المختلفة.

وأنشئت الجامعة المصرية وأخذت تحتضن رويداً رويداً المداوس العالية التي كانت في القاهرة حينئذ حتى ضمت إليها واصبحت كليات تابعة لها ومتفرعة منها إلا بعض معاهد ظلت - لعوامل خاصة - محتفظة باستقلالها أو تبعيتها لوزارة المعارف كدار العلوم وكلية البوليس.

واصبحت الجامعة المصرية قبلة أنظار كثير من أبناء الشرق يولون وجوههم شطرها استغناء بها عن جامعات أوربا. وحفلت تلك الجامعة الفتية بكثير من العلماء الأجانب الذين نشروا فيها علمهم ووسعوا فيها دوائر بحثهم حتى خرج جبل جديد يختلف في مناحي بحثه ودرسه عن الأجيال القديمة.

واصبحت القاهرة اليوم حاضرة إسلامية كبيرة لا تقل عن كثير من حواضر اليوم في تخطيطها وآثارها ومبانيها الشاهقة وشوارعها وجسورها ورياضها وملاهيها.

(الحديث موصول)

محمد عبد الغني حسن