الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 422/بين إنكارين

مجلة الرسالة/العدد 422/بين إنكارين

بتاريخ: 04 - 08 - 1941


في قسمة غنائم حنين

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

راق بعض إخواننا من أفاضل العلماء ما ذكرته في إنمار ذي الخويصرة التميمي على النبي ﷺ في قسمة غنائم حنين وأعجبه إرجاعي ذلك الإنكار إلى جمود ذي الخويصرة، وأنه يرى الوقوف في الدين عند حدود القواعد، ولا يرى الأخذ في ذلك بشيء من التساهل، وقد أداه هذا التنطع في الدين إلى ذلك الإنكار الفاضح، وكان من النبي ﷺ أ، أعرض عنه في ازدراء، وتركه في ذلك الجهل الفاضح الذي لا يقبل الدواء، لأنه من الجهل المركب وهو شر أنواع الجهل، وصاحبه لا يفيد فيه العلاج أصلاً.

وقد كان هناك إنكار آخر من الأنصار على قسمة غنائم حنين، وهو أدل على ما راق ذلك العالم الفاضل من أن الجمود على القواعد ليس من الدين في شيء، وأنه لا قيمة لمنطق الألفاظ إذا اعترضه منطق الحوادث، لأن منطق الألفاظ يسهل تذليله لمنطق الحوادث بشيء من التصرف في دلالتها، أما منطق الحوادث فصريح لا يقبل تأويلاً، ويأبى إلا أن يخضع له منطق الألفاظ.

وكان إنكار الأنصار على النبي ﷺ أنه أعطى قومه من غنائم حنين ما أعطى ولم يعطهم، فوجدوا في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة - وهي القول الردئ - وقال بعضهم: إن هذا لهو العجب: يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! وفي رواية أخرى: إن هذا لعجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش، وإن غنائمنا ترد عليهم. وقال آخرون منهم: إذا كانت شديدة ندعي إليها، ويعطي الغنيمة غيرنا!.

وقال حسان بن ثابت في ذلك:

دع عنك شماَء إذ كانت مودتها ... نزراً وشرُّ وصال الواصل النزرُ

وائت الرسول فقل يا خير مُؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عُدّدَ البشرُ

علام تدعي سُلمٌ وهي نازحةٌ ... قدَّامَ قوم هم آوواْ وهم نصروا

سماهمُ الله أنصاراً بنصرهمُ ... دين الهدى وعوان الحرب تستع نجالد الناس لا نُبقي على أحد ... ولا نضيِّع ما توحي به السوَر

كما رددنا ببدر دون ما طلبوا ... أهلَ النفاق وفينا ينزل الظفرُ

ونحن جندك يوم النَّعف من أُحُد ... إذ حزَّبت بَطراً أحزابها مُضرُ

فما ونيْنا وما خمْنا وما خبروا ... منا عثاراً وكل الناس قد عثروا

وقد بلغ النبي ﷺ هذا الإنكار من أصحابه الأنصار، فلم يهمه أمر الألفاظ التي بلغته، ولم يبحث عن دلالتها على الشك في رسالته أو عدم دلالتها عليه، ولم ينظر إلى ما تقضي به قاعدة الإنكار عليه من كفر أو نفاق، بل نسي ذلك كله ولم يعبأ به ولم ينظر إلا إلى ماضي الأنصار الحافل بالجهاد في نصر الدين، ولم يذكر إلا أنهم آووه وآثروه وأصحابه على أنفسهم حين هاجروا إليهم، وبذلوا دماءهم وأموالهم حتى تم له ما تم من النصر على قومه وغيرهم، وليس من حسن السياسة أن يؤخذ الصاحب بزلة لا تذكر بجانب حسناته، وليس من الإنصاف أن يحاسب على الألفاظ إذا كانت أفعاله توجب الإغضاء عنها، وتدل على أنه لا يقصد ما فيها من دلالة على كفر أو نفاق. ولا شك أن من لا يراعي مثل هذا في سياسة أصحاه تختل عليه أموره، وتضطرب أحواله، وينظر فلا يجد له صاحباً ولا نصيراً.

وهكذا آثر النبي ﷺ ما يقضي به حسن السياسة من أخذ أنصاره باللين، والتغافل عما صدر عنهم من تلك القالة. وقد دخل عليه سعد بن عبادة الأنصاري يبلغه شكوى قومه، فقال له: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لمِاَ صنعت في هذا القَيءْ الذي أصبت: قسَّمْتَ في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له النبي ﷺ: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. فقال له النبي ﷺ: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فخرج سعد فجمع الأنصار له، فلما حضروا قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجدةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمَنُّ وأفضل. ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنُّ والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتينا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجِدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. أللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله سماً وحظَّاً.

فلله هذه السياسة البارعة التي يتواضع فيها النبي ﷺ للأنصار هذا التواضع، ويقوم فيهم كأنهم فرد منهم، فيوازن بين ما قدمه لهم من حسنات، وما قدموه له من حسنات، ويجعل ما قدموه له مثل ما قدمه لهم أو أرجح منه، ثم يذكر لهم عظيم حظهم إذا عادوا به في رحالهم، وعاد الناس بما أخذوه من تلك الغنائم، فيقتلع من نفوسهم كل أثر لتلك الموجدة، ويجعلهم يبكون ندماً عليها أو فرحاً بعظيم حظهم.

ولو أن النبي ﷺ كان يجمد على قواعد الدين ورسومه كما نجمد اليوم، لم يأخذ الأنصار بتلك السياسة البارعة بل وقف يؤنبهم على تلك القالة، ويذكر أن الإصرار عليها كفر ونفاق في الدين، وأنهم إن لم يتوبوا منها حل عليهم عذاب الله وحبط ما قدموه من حسنات في الإسلام.

ولكن مثل هذا لا يشقى النفوس العاتبة، ولا ينال به رضا الأصحاب عند عتابهم، وإنما يكسب رضاهم بافغضاء عن زلاتهم، وأخذهم بالرغبة واللين، لا بالرهبة والوعيد. وها نحن أولاد اليوم نأخذ الناس في ديننا بالتشديد والوعيد، ولا نأخذهم بالرغبة وحسن السياسة، ونقف جامدين أمام النصوص وألفاظها، ونغالي في الأخذ بالقواعد غير متأثرين بالظروف التي تحيط بها. ولا شك أن هذه مغالاة في الغيرة على الدين تضر ولا تنفع، وتنفر الناس منه ولا تجذبهم إليه، وققد خسرنا بها كثيراً ممن كان يمكن أخذهم بالرغبة وحسن السياسة. ومن الواجب أن نقلع عن هذا الجمود، وأن نأخذ الناس إذا زلوا بتلك السياسة التي سنها النبي ﷺ.

عبد المتعال الصعيدي