مجلة الرسالة/العدد 42/من ذكرياتي
→ خالد بن الوليد | مجلة الرسالة - العدد 42 من ذكرياتي [[مؤلف:|]] |
شرقاً وغربا ← |
بتاريخ: 23 - 04 - 1934 |
للأستاذ عبد العزيز البشري
تفضلت (الرسالة) فدعتني إلى أن اجري بحديث في العدد الذي ترصده لرأس السنة الهجرية. ولم يجد طول التعذر بالمرض ولقس النفس وحرج الصدر. لقد أمر أصحاب (الرسالة) وكيف لي بعصيان أصحاب (الرسالة)؟. إذن فلأعص نفسي ولأنشز على وهني في طاعتهم والاستجابة لهم. وحسبي الله ونعم الوكيل ففيم كتب وماذا أكتب إذن؟
أقول في الأدب! سيقول فيه أصدقائي الدكتور طه، والأستاذ أحمد أمين، والأستاذ الزيات، وغيرهم من صفوة الأدباء. ولست احب لنفسي أن أكون فسكلا لا أبلغ السبق، إن أنا بلغته، إلا بعد جميع الجياد!
إذن أكتب في السيرة النبوية الكريمة، ونحن على شرف عام هجري جديد، يتجرد لذكراه هذا العدد العتيد! لا والله، ولن أخدع في هذا أيضاً بعد الذي كتب هيكل في (حياة محمد) وطه (على هامش السيرة)
لقد أصبح عليّ، بعد هذا، أن أتقرى السبل فأختار أعبدها لي، وأوعرها عليهم جميعاً، وهم ولا شك تاركي أجوز وحدي فأكون المجلي في حلبتي على كل حال.
سأحدث القراء عن بعض ما شهدت بنفسي مما يرجع إلى أكثر من خمس وثلاثين سنة. ولست أحسب أن أكثر أدباء العصر شهدوه لقصر أسنانهم. فمن قد علت به السن منهم فلعله ممن لم يكن هبط بعد القاهرة في طلب أواسط العلم وأعاليه. فمن تهيأ له منهم أن يكون في القاهرة، وهؤلاء من القليل أقل، فلعله كان في شغل من تحصيل العلم والاكباب على الدرس عن شهود هذا والاحتفال له. فان كان قد وقع لبعضهم هذا عفواً فهو عنده دون أن يجمع له همه ويطوي عليه قلبه، ويختزنه في نفسه اختزان البعير الطعام في جوفه ليجتر منه وقت حاجته.
لقد قدر لي، والحمد لله، أن اسمع من عظماء المغنين المرحومين عبده الحمولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، والشيخ محمد الشنتوري، والسيد أحمد صابر، وعبد الحي حلمي، وإبراهيم القباني، واحمد حسنين، وأحمد فريد، ومحمد سالم. ومن الهواة السيد عبد السلام الدنف. وان أسمع من المنشدين ومن في حكمهم الشيخ سلامة حجازي، والشيخ احمد المحروقي، والشيخ عبد الله الأودي، ومن صدور القراء السيد الصواف، والمشايخ حنفي برعي، وأحمد ندا، وعلي الفلاحة، واللبان، وأبا السعود، وعلي يوسف، وعلي الجنيد، والمناخلي، والعيسوي. والشيخة أسمهان، كما سمعت هؤلاء المعاصرين الأحياء، وصل الله في أعمارهم يمتع بهم الأبناء والأحفاد، كما متع بسلفهم الآباء والأجداد.
ولست أحاول في كلمات ارتجلها للرسالة ارتجالا، وأرسلها من عفو الحديث إرسالا، أن أتحدث عن هؤلاء جميعاً. وما كان هذا المقام ليحتمل هذا كله ولا بعضاً من بعضه. بل ولست أحاول أن أستغرق بالحديث واحداً من هؤلاء، فأدل على منجمه ومنشئه وخلقه وسيرته، ولون صوته، ومأتي فنه، وعمن أخذ، وكيف ذهب، وماذا أجد في الفن بصنعته. فذلك مما يستهلك الكثير من الصحائف ومن الوقت والعزم معاً، ولكنني أكتفي بذكر اثنين من أحداث أربعة شهدتها بنفسي. ولو قد حدثني بها محدث لا تهمته بالغلو إذا لم أعدل به إلى التزيد. وأحدها، كان من محمد عثمان، وهذا أدخره للمحاضرة التي ألقيها في شأنه، والثاني من الشيخ أحمد ندا. وهو من أشياء أضيفها إلى المقال الذي كتبته فيه عقب موته. أما الحادثان اللذان أطالع بهما قراء (الرسالة) اليوم فأحدهما يتصل بعبده أفندي الحمولي، والثاني بالشيخ علي الجنيد، عليهما رحمة الله.
وقبل أن أسترسل بالحديث أرجو أن الفت الشباب إلى شيء واقع دائر شديد الدوران بين الناس. ذلكم أن الإنسان بطبعه أثر شديد الأثرة، فهو لا يحب بل ولا يكاد يطيق أن يبرعه أحد في سبب من أسباب الحياة. ومن هذه الخلة أصاب الحسد مدخله من نفوس الناس، ولهذه الأثرة، أو لهذا الحسد مظاهر شتى وآثار تختلف وتتفق وتلتقي وتفترق. ومن أغربها في طباع المصريين، بوجه خاص جحود فضل القائمين في الحياة. فان لم يكن إلى هذا سبيل فهنالك الذرائع المختلفة لتهاون أقدارهم، والحط من حظوظهم في أقطار الفضائل والنعم. فإذا أعيا هذا على الناس أيضاً راحوا يشيدون بفضائل من تقدموا، وينحلونهم من الأسباب ما يبرعون به القائمين في مزاياهم، ويجهرونهم به في جمال خلق، أو جمال فن، أو جمال صوت.
وكلما علت بالمرء السن تزيّد في هذا وأسرف لا حد المعاصريه من أهل الفضل ومن أصحاب الفنون وحدهم، بل مكايدة أيضاً لهؤلاء الناشئين الذين يستقبلون الحياة (وتحنيسا) لهم لما ظفروا به من دونهم، وليس إلى عودتهم من سبيل. فكأنهم يقولون لهم: إننا لن نأسى على أدبارنا، وإنكم لن تفرحوا بإقبالكم. لأنكم لن تصيبوا من الطيبات ما أصبنا، ولن تظفروا من متع الحياة ببعض ما ظفرنا.
ولقد أدركنا طرفا من حياة ملك المغنين المرحوم عبده الحمولي، فكان إذا أطرب وأفلق تبادر القعديون وقالوا: وأين هذا مما كان يصنع المقدم أو البيطار؟. وكانت الوردانية إذا جلجلت بصوتها الحنان قالوا: إن هذا إلا مزعة من صوت ألماس!. كذلك أدركنا صدراً كبيراً من عهد حنفي برعي وأحمد ندا، وسمعنا منهما العجب العاجب ولكن يأبى القعد لنا إلا تكديراً وانطواء على الحسرة لما فاتنا من صوت القيسوني، وكان صوته يقف الطير في جو السماء!. وغير هذا من فنون المبالغات تكدر صفو الناشئين، وتبطرهم على ما أزل الله لهم من ألوان النعم!
وإنني قضاء لحق التاريخ أقرر أن من الأصوات القائمة الآن ما لا يقل في قوته وحلاوته وصفاء جوهره عن خير ما سمعنا من ثلث قرن خلا. على انه إذا كان مما يوهن من تلذيذ الناس بسماع الغناء وشدة الطرب عليه تلك الخلة التي أسلفت عليها القول، فقد جد على ذلك عنصران كان لهما، في هذا الباب، خطر عظيم: أحدهما شدة اشتغال الجمهرة بالأحداث السياسية ونحوها، فلم تعد تجتمع لهذا ببعض ما كان يجتمع له السلف، إلى ما ورثت هذه الأسباب من كدر في النفوس هيهات أن يأذن لها بالخلوص للطرب على الغناء.
وأما الثاني فهذه العنيفة المشبوبة في الفن نفسه بحكم التطور والتحول من القديم إلى جديد يراد. وهيهات أن تستريح الأذن إلى ما لم يقر من بعد له قرار. ولعل الحال لو استقرت، والنفوس لو صفت، لخرج لنا من هم خير ممن تقدمت بهم الأيام.
ومهما يكن من شيء فقد حرم هذا الجيل من نعمة تلك الأثرة والتنغيص على من دونهم من النبت إذا صح أن يدعى ذلك نعمة! والفضل كله للرجل العظيم (أديسون) مخترع الفونغراف، فقد دون الأصوات، وسجلها على وجه الزمان!
والآن وأنا مقبل على ما أنا بسبيله، أشعر أنني قد تورطت في اختيار هذا الموضوع أشنع التورط. ولعل ما هربت منه كان أرفق بنفسي مما استعصمت به، وخاصة بعد هذا الذي قدمت من الكلام. ولقد قال أصحاب قواعد السلوك إن الرجل المربي خليق به ألا يروي ما يقع له من نوادر الحوادث وغرائبها لئلا يسرع الناس إلى النيل من مروءته، وإحالة أمره إلى التزيد والخلق طلبا للمكاثرة بشدة الأغراب. على أن مما يلين لي هذه الرواية ويشد من متني في قصتها أن لا يزال في الأحياء آلاف ممن شهدوا أمثال ما شهدت، بل وممن شاركوني فيه بالذات. فلنمض لحديثنا والله تعالى المستعان.
عبده الحمولي:
لم يكن يتهيأ لفتى حدث مثلي أن يسمع عبده الحمولي في سهولة ويسر. فلقد كان، في العادة، لا يغني إلا في بيوت الطبقة (الأرستقراطية). ودون أبوابها لؤم الحجاب وعصى الأحراس، فما من سبيل إلا في الغفلة من أعينهم، أو بالرشوة في أيديهم، أو في أعجاز الليل بعد منصرف السادة المدعوين، وعلى بعض هذا أذن الله أن اسمع ملك المغنين بضع عشرة مرة.
وبعد فعبده، وتاريخ عبده، وفن عبده، وصنعة عبده، وبدع عبده، كل أولئك غني عن التعريف والتبيين. ولكنني أبادر فأقرر أن صوت هذا الرجل على جلالته، وحلاوته، ووفائه بكل مطالب النغم في جميع الطبقات، لم يكن بالموضع الذي يتمثل لأوهام من لم يسمعوه من أهل هذا الجيل. بل إن من القائمين من لعله يجهره في هذا المعنى من الجمال. ولكن لا يذهب عنك أن وراء هذا الحس المرهف، والذوق الدقيق، والفن الواسع، والكفاءة الكفيئة والقدرة القادرة على التصرف في فنون النغم في يسر ولباقة وقوة ابتكار ورعاية لوجوه المقامات المختلفة. والتوفيق إلى كل ما يغمز على الكبد. ألا لقد جمع الله أحسن هذا كله لعبده الحمولي. فلم ينته أحد فيه ممن سمعنا منتهاه إذا استثنيت صاحبه المرحوم محمد عثمان على اختلاف غير قليل بين فني الرجلين.
وإني لأذكر أنني سمعته مرة عند مطالع الفجر، وكان ذك في دار المرحوم السبكي بك في شارع الطرقة الشرقي. ولعله كان قد مسه طائف من الشجي، فكاد يحيل العرس مناحة من كثير ما تبادر لنغمه الشجي من دموع الناس.
أما الحادثة التي أؤثرها بالرواية فلقد كانت في دار رجل من خؤولتنا أولم لتزويج ابنه، وداره تقع في حي الناصرية، وكان صديقاً حميماً للمرحومين عبد الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي، وكان أثيراً عندهما كريم المحل منهما، وقد دعاهما كليهما ليغنيا معا في عرس ابنه، فلبيا الدعوة خفيفين.
وأنت بعد خبير بأن (أفراح) أولاد البلد لا يحجب عنها الناس، ولا يدفعهم من دونها شرط ولا أحراس. وكذلك اكتظ السرادق بالمئآت إن لم أقل بالآلاف من أصناف خلق الله.
ويستوي عبده إلى (التخت)، ويتدلى في الميدان يحمي ظهره الشيخ يوسف وأحمد حسنين، ونصر الحصاوي، عليهم رحمة الله، وشيخ المغنيين الآن الأستاذ محمد أفندي السبع، نعمه الله بأطيب الحياة، ومعهم السيد أحمد الليثي بعوده، (أو الجمركشي؟ لا أذكر) وأمين أفندي بزري بنايه، وإبراهيم أفندي سهلون بكمانه، ومحمد أفندي العقاد بقانونه، فغنوا وعزفوا ما شاء الله أن يغنوا ويعزفوا حتى ختموا ما يدعى (بالوصلة) الأولى، ولست أذكر ما تغنوا فيه من الأصوات. ثم استراحوا برهة من الزمن عادوا بعدها إلى شأنهم. وما برح عبده، رحمة الله عليه، يضطرب بين الليل والعين. ثم ينقلب إلى المواليا فيرجع فواصله ترجيعا. حتى إذا فعل في هذا كله الأفاعيل، وصنع مالا ترتقي إلى صفته الأقاويل، أقبل يغني، والجماعة معه (الدور) المشهور وهو من نغمة العراق:
(لسان الدمع أفصح من بياني ... وأنت في الفؤاد لابد تعلم
هويتك والهوى لجلك هواني ... ولكن كل دا ما كانش يلزم)
إلى آخر ما يدعى في عرف أصحاب الغناء (بالمذهب). ثم أمسك القوم لحظة خرج بعدها عبده منفرداً، وقفى العقاد على أثره بقانونه. وقال الجبار: (أديني صابر على ناري)!!!!
لست بمستطيع يا معشر القراء أن أقول لكم كيف قالها الرجل ولا كيف صنع. لأنني أنا نفسي لا أدري، ولا احسب أحداً من الخلق دري كيف قال الرجل ولا كيف صنع!. ولكنني أستطيع أن أقول لكم إن طائفاً عنيفاً جداً من الكهرباء سرى في هذا الحشد كله لم يسلم عليه أحد: جمد الناس جميعاً، وتعلقت أنفاسهم، وشل كل مناط للحركة فيهم، فما تحس منهم إلا أبصاراً شاخصة وأفواهاً مفغورة. لو اطلعت عليهم لخلتك في متحف يجمع دمى منحوتة لا أناسي يترقرق فيها ماء الحياة، حتى القائمون بالخدمة، لقد مسهم هذا الطائف فجمدوا وثبتوا: وحتى رداف عبده لقد جرى عليهم من هذا ما جرى على سائر الناس!!!
ولقد ظلت هذه الحال زهاء عشرين ثانية، اعني قرابة ثلث الدقيقة، وينفجر البركان الأعظم يتطاير عنه الحمم، وترى الخلق يموج بعضهم في بعض، لا يدري والله أحد أين مذهبه.
ولا تسل كيف قدت الحناجر من الشهيق، ولا كيف بريت الأكف بالتصفيق. وخرج الأمر ساعة عن عرس مقام إلى مستشفى مجانين. رفعت فيه الحوائل وفتحت الأبواب، ونحى عنه احراسه من الشرط والحجاب
والى هنا أراني قد أطلت بما لم يدخل في صدر حسابي. ولعلي بهذا أمل وأضجر. وعلى كل حال فقد تعبت وجهد بي فلأقف إذن عند عبده الحمولي. أما حديث الجنيد فأرجئه إلى كرة أخرى، وأرجو ألا أوفق إلى مثل هذا أبدا.
عبد العزيز البشري