الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 42/شرقاً وغربا

مجلة الرسالة/العدد 42/شرقاً وغربا

بتاريخ: 23 - 04 - 1934


للدكتور محمد عوض محمد

في يوم قديم من أيام هذا الزمن السرمدي، جلس يافث وسام إبنا نوح، في ظل شجرت من الأثل، ليستريحا ساعة من النهار. وإلى جانبهما جدول يجري، له خرير هادئ وديع، وانسياب معتدل، ليس بالسريع ولا البطيء. ولأغصان الأثل حفيف دائم، فيه رنة حزن بادية. كأنها انتحاب الثاكل أو أنين السقيم.

كان العالم حديث عهد بالطوفان الهائل الذي غمره، ورحضه رحضاً عنيفاً قاسياً لكي يطهر مما به من رجس، ويصفو مما به من كدر، ويعود نقياً بريئاً نظيفاً. . .

يا للعجب! أكلما تدنس وجه الأرض، وغشيته الأقذار، انتابته هذه الكارثة وأرسل إليه طوفان ليغمره ويطهره،؟ لقد عادت الأرض بعد هذا الطوفان طهراً، كأنما خلقت خلقاً جديداً، وعاد ثغرها باسما، وجبينها ناصعا، ووجهها زاهراً. لكن - تباركت اللهم - ألم يكن الثمن غاليا، والقربان جسيما؟ أما من سبيل غير هذه لكي تطهر الأرض مما تمتلئ به الأدران وما قد يغشاها من الرجس؟ وإلا فهل من سبيل لأن يسود هذا العالم الصفاء والطهر، فلا ينغمس في الأقذار ذلك الانغماس المروع، الذي لا مفر معه من كارثة ماحقة، تعيد إليه الصفاء والنقاء؟

لابد أن يكون هنالك سبيل غير هذه السبيل، وطريق لإصلاح العالم غير تلك الطريق. . . فهل لهذه العيون الحائرة من قبس من النور القدسي يهديها تلك السبيل؟

كانت هذه الخواطر تتردد في فكر سام ويافث، وهما جالسان: ينظران إلى تدفق الجدول، أو يحدقان في السحاب المنتشر في السماء، أو يصغيان لحفيف الأثل، أو يرسلان الطرف بعيداً إلى قمم عالية يغشاها الثلج الأبدي. وهما في الحقيقة لا يريان ولا يسمعان من هذا كله شيئاً، إذ شغلهما ما أهمهما من هذه الأفكار المتدافعة تدافع الموج. فكان كل منهما يقطب جبينه حيناً، ثم يقلب في الفضاء نظرات حائرة، لا تكاد تعرف لها قرارا. . .

وأخيراً تكلم يافث:

أي سام! لقد حم الفراق، ولم يبق بد من أن يتخذ كل منا في هذا العالم سبيله،. فعلام عولت؟. . . إن هذا الطوفان الذي غمر الأرض، وعم الغور والنجد، قد طهر كل ركن من أركان البسيطة، وأزال ما قد علق بها من رجس، لكنه قد اكتسح أناساً، وأهلك خلقاً كثيراً. . ولقد أتى أمر الإله بأن ننتشر في الأرض، وأن نضرب فيها طولاً وعرضاً، وأن نتناسل ونتكاثر وأن نملأ الأرض بذرياتنا: وقد حم الفراق، وستذهب في ناحية وأذهب في أخرى، فعلام عولت؟

قال سام:

إن الفراق أليم، والضرب في البيداء أليم، وقطع السهول والحزون أليم، ولكن أشد من هذا ألماً ذلك الظلام الحالك الرهيب الذي يكتنف الأيام المقبلة والسنين، ويتجاوزها إلى الأجيال والقرون، وإني كلما أرسلت بصري باحثاً مستطلعاً، أرتد إلى البصر خاسئاً حسيراً، قد أجهده الضلال، وسط ظلام دامس، متراكم بعضه فوق بعض، لا يعرف له آخر ولا يدرك له حد.

سوف نتكاثر ونتناسل، ونملأ بذرارينا الأرض؛ حتى يعمر الخراب، وتمتلئ الأقطار؛ ثم - من بعد هذا كله - تنهمر السيول من السماء، وتتفجر الأنهار من جوف الثرى، ويعم العالم طوفان مخرب مدمر، يفتك بالناس، ويهلك الحرث والنسل. . . أمن أجل هذا نلد ونتكاثر، لكي نسلم ذرارينا إلى هذا المصير الحزين، كلما دارت الأيام دورتها؟

قال يافث

لقد استفحل خطب العالم، وتكدست فوق البسيطة أدران أفسدت الثرى والهواء، واستحالت معها الحياة. فلم يكن بد من أن يجتاح الأرض هذا الطوفان، فيملأ كل مكان، ويغسل كل بقعة من البقاع مما علق بها من الدنس. . . فلماذا يجزنك الجزاء الحق، والقضاء الذي لا مفر منه؟ ونفسي تحدثني أن هذا الجزاء الصارم لا يكون إلا مرة. وأكبر ظني أن العالم بعد أن رحض هذا الرحض العنيف، لن ينغمس في الحمأ، ولن يغرق في الموبقات بمثل تلك الصورة البشعة التي استوجب ذلك الجزاء، سيكون في الناس أبداً من تدفعه نفسه الأمارة بالسوء إلى مجاهل الشرور. لكن العالم في أمان ما غلب خيره على شره، وحقه على باطله. وإن عليّ وعليك واجباً ألا نلد لعمارة هذا العالم غير الأنفس النقية والذرية الصالحة، التي ترهب الإله وتلزم سننه؛ ولئن صلح نسلي ونسلك، فما أجدر العالم أن يغلب طهره على رجسه، وصالحه على فساده. الأمر إذن راجع إليك والي فعلام عولت؟ قال سام:

من هذا العبء الباهظ أفرق، ومن تأمل ذلك الواجب المضني تملكني رعدة الحائر، وجزع العاجز. . . لست أدري يا يافث كيف يولد الشر، ومن أين ينبغ الرجس! لقد يكون العالم وما به الأكل بر كريم، ثم ينقلب في عشية أو ضحاها: فإذا الشر قد طغى وساد، والبر أوشك أن يمحى من الأرض!

أن الدم الذي يجري في عروقي - علم الله - لطهور. وأخلق بنسلي ألا يرث مني سوى الخير والهدى. ولكن من لي بأن أضمن له ألا يحيد عما ورثه، وألا تجمح به النفس الهوجاء. فينزل به السخط ويحل البلاء ويجتاحه طوفان كالذي شهدناه؟

قال يافث:

لقد مالت الشمس نحو الأفق، وتوشك أن تتوارى خلف تلك الجبال، تاركة خلفها سحباً عسجدية صفراء. إن مغرب الشمس قد استهواني يا سام! وكأنما فيه قوة قوية تجذبني أبداً إلى الغرب! ولقد طالما جلست في هذه الأثلات أتأمل الغروب، وأفكر في هذا الكون البديع الذي يميل نحو ذكاء، وفي كل مرة كنت أحس دافعاً شديداً يدفعني إلى الغرب!

إلى الغرب إذن سأمضي، وفي الغرب سأحيا، وتحيا ذريتي ونسلي. وهنالك فلنحاول أن ننشر اليمن والعمران. .

أنا أيضا لست أدري. كيف تولد الشرور، والأصل في العالم البر، ولا أدري كيف ينمو الرجس، وأساس الكون الطهر. على أني - وأن أجهدت في هذا خاطري - ليس بضائري أن أعيا به، وأن يقصر عن إدراكه فكري. فسواء لدى أكان الشر مما يخرج من الأرض أم يهبط من السماء، فان عليّ وعلى ذريتي أن نعد العدة لسحقه، وأن نهيئ الأسباب لحربه. فلا تكاد شجرته أن تنبت حتى تجتث من أصولها، ولا يكاد رأسه أن يرتفع حتى يلقي ضربة فاقرة. وأني أحسن أن فيّ وفي نسلي قوة كامنة ستسير بالناس حتما إلى الخير، وتردهم - ولو بعد لأي - عن كل منكر. وما هذه القوة سوى قوة الفكر البشري: الفكر الباحث الذي يتناول الأشياء بالنظر وبالتأمل، ولا يزال مسترسلا في البحث وفي التحقيق حتى يسلمه الإمعان في التفكير إلى سبيل الرشاد. ويريه ما انطوي عليه العالم من أسرار، وما خفي فيه من الحقائق. . . وسيخطو العالم خطوات بعيدة يوم يعلم الناس القوى التي تمسك الأجرام لتربط الأكوان، وما كمن في الأرض من كنوز، وما جرت به الأنهار من خيرات. هنالك تعم السعادة، ويقضي على الشرور.

إلى الغرب إذن سأمضي، وهنالك سأغرس شجرة العلم، لكي تؤتي زهرها يانعاً، وثمرها شهياً رائعاً. وأنت يا سام، علام عولت؟

قال سام:

الآن يشرق القمر بدراً كاملا: وهو احسن ما يكون حين يطلع في المشرق، إذ لا يرتفع فوق الأفق إلا أذرعا. . لست أدري هل تخدعني عيناي. لكني أراه وقت الشروق أكبر حجما، وأملح وجها، وألطف نورا. وما زلت منذ درجت يستهويني الشروق، وتعجبني الشمس والنجوم ساعة تطلع على العالم. ولقد طالما جلست أرقبها إلى جانب هذا الجدول الجاري. فتوحي إلى بما يطمئن له القلب الثائر، والطرف الحائر. الشرق هو المبتدأ، والغرب هو المنتهى، فهنيئاً لك الغرب يا يافث! أما أنا، فان هوى نفسي في الشرق. لا أبغي به بديلا.

في الشرق إذن سأحيا. وتحيا ذريتي ونسلي، وهنالك فلنأخذ في نشر أسباب العمران.

ولست أدري هل أقدر أن أسلك وذريتي السبيل التي رسمت، والنهج الذي تريد أن تنهج. ولئن قدرت أن أسلك سبيلك تلك، فما أدري أمنجيتي وذريتي من الويل، وهاديتي ونسلي إلى الرشاد، إن عهدي بالفكر البشري أنه كثير الضلال، كثير الخبط في بيداء لا تفضي إلى خير. وقلما يصيب الحق إلا بعد أن يتيه في الباطل دهراً طويلاً. وما أشد خوفي يوم يطلع أبنائي على ما ثوى في الطبيعة من قوة، وما كمن فيها من كنوز. عند ذلك قد يلهيهم التكاثر أو يتملكهم الجشع، ويتناحرون من اجل مادة قد لا تغني عنهم شيئاً. . . كلا، ليس العلم أو الفكر بالذي ينقذ الناس، فان طريقه طويلة وعرة. . .

الآن تنكشف الغشاوة عن عيني وأرى السبيل واضحة جلية. إن أبنائي سيولون وجوههم شطر الدين، وبالدين سيبلغون بالعالم أقصى مراتب السعادة والطهر.

وسيبلغون حقائق الدين بالألهام، وبالوحي ينزل من السماء، لا بالبحث والحفر والتنقيب في الأرض. فذلك هو الهدى الذي ليس بعده هدى، والنجاة التي لا تعدلها نجاة. ولقد يتناحر الناس من أجل الدين، ويكيد بعضهم لبعض، ويصيبهم من هذا أذى كثير، غير أنه دم طاهر يسفك من أجل مأرب طاهر، لم تدنسه المادة، ولم يلوثه الطمع. . .

أجل وإني لأرى الساعة كيف ينبغ من أبنائي رسل مبشرون ومنذرون وكيف ينتشر أبنائي في العالم، فيرفعوا علم الدين، وينشروا الهدى، ويحطموا الأصنام، ولقد أسمع الساعة صوتاً ينبعث من أرض كنعان، فيملأ الأرض حبا ورحمة، ثم أسمع بعد فترة صوتاً قوياً رزيناً ينبعث من الصحراء فيملأ الأرض عدلاً وأمنا، فيتردد صداه من المشرق إلى المغرب فإذا الأوثان تتكسر، والشرك يمحى، والأغلال المذلة تتحطم، وصروح الباطل تندك.

لا خوف إذن على العالم من طوفان يمزقه، أو لهيب يحرقه، ما دام فيه رسل تهدي، ودين ينير الظلام.

إلى الشرق إذن سأمضي، وهنالك فلتغرس شجرة الدين. أصلها ثابت وفرعها في السماء. وارفة الظلال، طيبة الثمرة

ثم سكت الاخوان، وأطرقا زمنا، ولبثا جالسين يحدقان في الكون، دون أن ينطقا بكلمة، حتى دجى الليل، ولمعت في السماء النجوم، وبرد الهواء، فنهضا وجعلا يمشيان الهوينى صامتين.

حتى إذا اقتربا من منازلهما مد الأخ الأكبر يده مصافحاً:

- فليهنئك الشرق يا سام!

- وليهنئك الغرب يا يافث!

محمد عوض محمد