مجلة الرسالة/العدد 42/من حديث الشهداء
→ العام الهجري | مجلة الرسالة - العدد 42 من حديث الشهداء [[مؤلف:|]] |
المسلمون أمس واليوم ← |
بتاريخ: 23 - 04 - 1934 |
للدكتور طه حسين
لم يذكر في تلك الليلة ماضيهم الحلو، وحاضرهم المر، ويستمتعون فيها عن أوطانهم تلك النائية التي كانوا ينعمون فيها بلذات الحياة، ويستمتعون فيها بخفض العيش، ويسيرون سيرة الأحرار لا يعرفون لأحد غير قيصر وعماله عليهم سلطاناً، وقد يعرف لهم غيرهم كثيرا من السلطان والبأس، وقد يقدم إليهم غيرهم كثيرا من آيات الطاعة والإذعان. ولم يسمروا بهذه الأحاديث التي تعودوا أن يسمروا بها إذا فرغوا من أعمالهم وانصرفوا إلى راحتهم ولقي بعضهم بعضا حين ينقضي النهار ويتقدم الليل، والتي كانوا يستعيدون بها حياتهم تلك الجميلة المشرقة، ويستحضرون بها مواطن لذاتهم ونعيمهم، هناك حيث لا يشتد القيظ حتى ينضج الجلود ويصهر الأجسام، وحيث لا تقع العين على الجبال الجرد والوهاد المقفرة، وحيث لا تضيق الأرض بالناس ولا يضيق الناس بالأرض، وحيث يستقبل الناس أيامهم راضين باسمين، ويستقبلون لياليهم لاهين عابثين. كلا ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به من ذكر الفاتنات المفتونات اللاتي كن يحولن حياتهم أحلاماً ويجعلن جدهم لعباً، ويسرين عنهم كل هم، ويغرين بهم كل نعيم، يخلبنهم بالفظ واللحظ، ويعذبنهم بالذل والتيه، ويسعدنهم بالقرب والوصل، كلا ولم يسمروا في تلك الليلة بأحاديث قيصر وقصره، ولا بأنباه الحاكم وحاشيته، ولا بقصص الحرب بين الفرس والروم، وأين هم الآن من قيصر وقسطنطينية؟ وأين هم الآن من تلك الثغور الباسمة القوية التي كانت تبسم لأهلها كأنها الجنات، وتعبس لأعدائها كأنها الجحيم. وأين هم الآن من الفرس والروم؟ وأين تكون مكة من ميادين الحرب بين الفرس والروم؟ كلا. ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحياناً من أحاديث ساداتهم ومواليهم، ومما كان يتصلبينهم من التنافس والجهاد، ومما كان يدبر بينهم من الكيد والمكر، ومما كان يجتمع لهم من الغنى والثراء، ومما كان يلم بهم من الحوادث والخطوب كلا، ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحياناً من أحاديث هذه القوافل التي تفصل من مكة إلى الشام، فتمضى معها نفوسهم تسايرها في تلك الطرق البغيضة التي يذكرون طولها وثقلها حين قطعوها عناة أذلاء يساقون إلى مكة عبيداً أرقاء، والتي كانت تعود إلى مكة قافلة من الشام تحمل من أرض قيصر أنب مختلطة وأحاديث مشوهة مضطربة، ولكنهم كانوا يتلقفونها ثم يتناولونها بالتأليف والتصنيف، وبالتحليل والترتيب، حتى يكونوا منها شيئاً مستقيماً أو كالمستقيم: ثم يتخذون منه علما بأمور أوطانهم تلك التي لم يبق لهم اليها سبيل.
كلا. لم يسمروا في تلك الليلة بشيء من هذا، لأن أحاديث مكة شغلتهم عن كل هذا، وما لها لا تشغلهم وصاحبهم نسطاس قد اشترك فيها وأثار كثيرا منها، وها هو ذا قد اتخذ مكانه بينهم كئيباً كاسف البال، محزوناً بادي الحزن، قد اضطربت نفسه أشد اضطراب. وهو يتحدث إليهم في صوت متقطع مظلم كأنما أسبغ الحزن والندم واليأس عليه ظلمة كثيفة متراكمة لا تنكشف عن شيء. وما له لا يكتئب ولا يبتئس، وماله لا يحزن ولا يندم، وما له لا يفزع ولا يجزع، وقد سفكت يده المسيحية دما بريئا ولما ينتصف النهار: أو كان هؤلاء النفر جماعة من نصارى الروم دفعوا إلى بعض أطراف الصحراء وعدت عليهم بعض القوافل فاتخذتهم تجارة، وتقلبت بهم ظروف الرق حتى انتهوا إلى ملك جماعة من سادة قريش. وكان نسطاس أنقاهم ضميراً. وأصفاهم قلباً، وأعظمهم حظاً من الدين. وكان لهذا كله أصبرهم على ما ألم به من كرب، وأحسنهم احتمالا لما سلط عليه من محنة، ورضى بهذا النكبة التي كان ينظر إليها على أنهااختبار له، وابتلاء لأيمانه، وامتحان لثقته، وتهيئة لنفسه لتحيا حياة السعداء إذا انقضت إقامتها في هذا العالم الشقي البغيض. ولكنه أظهر في تلك الليلة غير ما تعود أن يظهر لأصحابه من الجلد والصبر، ومن الإباء والاحتمال، وهم يعرونه ويرفقون به في العزاء، وهم يلومونه ويعنفون عليه في اللوم، وهم يأتون نفسه من جميع أنحائها يريدون أن يصرفوها عن هذا الحزن العميق، وأن يصرفوا عنها بعض الهم الثقيل، ولكنهم لا يبلغون منه شيئاً ولا يزيدونه إلا إغراقاً في الحزن وغلواً في اليأس، وربما بلغوا بأحاديثهم قرارة نفسه فأثاروها ودفعوه إلى الحديث فإذا هو يتكلم بكلام تقطعه العبرات وتبلله الدموع. وكان نسطاس ملكاً لصفون بن أمية، وكان قد أنفذ في ذلك اليوم أمره في أسير من أسرى الأنصار يقال له زيد بن الدثنة دفعه إلى صفوان وأمره أن يخرج به من الحرم، حتى إذا بلغ به النعيم قتله ثم عاد، ولم يكن مثل هذا العمل يحبب إلى نسطاس، ولكنه لم يكن خليقاً أن يدفعه إلى مثل هذا اليأس المهلك لولا أنه عرف من أمر أسيره وصريعه، ومن أمر أصحابه ما عرف، ولولا أنه رأى من أمر زيد ما رأى، وسمع من أمر خبيب ما سمع، وانتهت إليه أحاديث أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن يحملهم إلى مكة ويبيعهم لقريش غدر الغادرين من هذيل. ولكنه عرف ما عرف، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع. فذكر أموراً كان يقرؤها في الكتب، وأحداثاً كان يهلع لها حين يسمع أبناءها من الوعاظ. ذكر أولئك الشهداء الذين قتلوا في المسيحية تقتيلا، والذين امتحنوا بما كتب الله عليهم من ضروب المحن وفنون الكيد فلم تضعف نفوسهم ولم تهن عزائمهم ولم يفرطوا في دينهم ولم يجد الشك إلى نفوسهم سبيلا. ذكر أولئك الشهداء الذين أقاموا مجد المسيحية على أشلائهم وغذوه بدمائهم، وقووه بضعفهم، وأعزوه بما احتملوا في سبيله من الذل، وأيدوه بما لقوا في سبيله من الأذى والآلام. ذكر أولئك الشهداء الذين كان يكبرهم ويجلهم، ويرى أنهم شفعاؤه وشفعاء أمثاله عند الله، وانهم قدوته الصالحة وأسوته الحسنة ومثله الأعلى، وانه أسعد الناس لو استطاع أن يظفر ببعض ما ظفروا به من عذاب الدنيا ونعيم الآخرة؛ ومن ذل الدنيا وعز الآخرة؛ ومن هذا الموت الهين السريع الذي تتبعه حياة باقية سعيدة متصلة لا حد لما فيها من نعيم.
ذكر هؤلاء الشهداء وذكر أنه لم يزد حين أطاع أمر مولاه صفوان على أن قتل واحداً منهم، واقترف ذلك الإثم الذي اقترفه الظالمون الذين اضطهدوا الشهداء وفتنوهم؛ ثم قدموهم قرباناً إلى آلهتهم وأوثانهم في الزمن القديم. هنالك اضطربت نفسه اضطراباً، وزلزل قلبه زلزالا، ورأى حياته كلها وقد استحالت إلى شر منكر، ورأى ما قدم من الخير وقد استحال إلى فساد، ورأى ما احتمل من الآلام وقد أصبح هباء. وهنالك ملك الندم عليه أمره، وملأ اليأس عليه قلبه، وعجز أصحابه عن أن يمسوا نفسه بما كانوا يقدمون إليه من تسلية أو عزاء. على انه لم يكن يحس في نفسه شيئاً من الموجدة على مولاه صفوان، ولم يكن يضمر شيئاً من البغض، إنما كانت موجودته كلها وحقده كله قسمة بين نفسه وبين امرأة من قريش، وهي سلافة بنت سعيد بن سهم زوج طلحة ابن عبد الله بن عبد العزى. كان واجداً على نفسه أشد الموجدة، مبغضاً لها أشد البغض لأنها أثمت بقتل هذا الرجل الشهيد، وكان حانقاً على سلافة حاقداً عليها لأنه هي أصل هذا الشر، ومصدر هذا الإثم، ومنشأ هذا البلاء وكان يقول لأصحابه: لولا أن هذه المرأة الآثمة نذرت ما نذرت، وأذاعت ما أذاعت من أهل البادية، لما دفع صفوان إلى ما دفع إليه، ولما ظفر صفوان بما ظفر به، ولما اشترى اسيره، ولما أنفذت أمره فيه. قال أصحابه وما نذر سلافة وماذا أذاعت في الأعراب؟ قال أتذكرون يوم حشدت قريش لحرب صاحبها في يثرب كيف كان أشراف مكة موتورين يأكل قبلهم الغيظ، وتملأ نفسهم الحفيظة، وتضطرب أمامهم أشباح الخزي يذكرون هزيمتهم حين لقوا صاحبهم لأول مرة ففعل بهم الافاعيل، وترك من أشرافهم صرعى لم يثوبوا إلى أهلهم ولم يستمتعوا بتجارتهم تلك الرابحة التي أنقذها أبو سفيان. ويشفقون أن يتراءى لهم الموت فلا يثبتوا له ولا يقدروا على النظر إليه فيفروا منهزمين كما فروا من قبل. ويتركوا صرعى من أشرافهم كما تركوا مثلهم من قبل.
هنالك اجمعوا أمرهم على أن يتقووا بالنساء ويتقوا بهن الهزيمة والعار، فاختاروا منهن أعلاهن قدراً وارفعهن شأناً وأنبههن ذكراً وأقدرهن على دفع الرجال إلى غمرات الموت. وكانت سلافة بين هؤلاء النساء، خرجت مع زوجها وبنيها الثلاثة، وعادت مع المنتصرين أيما ثكلى قد فقدت زوجها وفقدت بنيها.
ثم سكت نسطاس كأنما يستحضر هولا يروع النفوس ويخلع القلوب. ثم عاد إلى حديثه في صوت هادئ بعيد فقال: إن كانت لوقعة مروعة حقاً تلك التي كانت عند يثرب. لقد عادت قريش تتحدث بالأعاجيب، لقد عادت تتحدث بالإخوان يسعى بعضهم إلى بعض بالموت. لقد عادت تتحدث بالأمهات يدفعن أبناءهن إلى أن يقتل الرجل منهم أخاه. لقد عادت تتحدث بأم مصعب فما كان لها أن تظهر عليه حزناً أو جزعاً لأنه كان من خصم قريش وأصحاب محمد، لقد عادت قريش منتصرة تتحدث بأمر سلافة هذه وقد فقدت زوجها وتلقت ابنيها أحدهما بعد صاحبه يبلغها وقد أصابه السهم فتضع رأسه على حجرها وتسأله يا بني من أصابك؟ فيقول ما أدري، ولكن سمعت قائلاً يقول: خذها وأنا بن الأفلح. ثم أصابني السهم، يقول ذلك ثم يجود بنفسه بين ذراعيها. هنالك نذرت سلافة لئن قدرت على قاتل ابنيها لتشربن في قحف رأسه الخمر، وهنالك أذاعت في أهل البادية وأعراب الحجاز أن من جاءها برأس ابن الأفلح هذا فله مائة من الإبل. هذا أصل الشر وهذا مصدر البلاء.
قال قائل وأي شيء لا يفعله الأعراب في سبيل جزور فضلاً عن عشرة من الابل، فضلاً عن مائة من الإبل؟ قال نسطاس: والغدر أيسر ما يفعله الأعراب ليبلغوا أيسر من هذا المال.
أقبل جماعة من هذيل على صاحب يثرب فزعموا له انهم قد آمنوا به وأسلموا له، وان دينه قد فشا فيهم، وسألوه أن يرسل معهم من يفقههم في الدين ويعلمهم شرائعه. يظهرون الإخلاص ويضمرون الغدر، لا يبتغون إلا أن يظفروا بنفر من أهل يثرب يبيعونهم من قريش لتصيب بهم ثأراً وليصيبوا بهم مالاً. ويريد الله لأمرٍ قضاه أن يختار نبي يثرب ستة من أصحابه وأن يؤمر عليهم عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي كانت تبتغيه سلافة، وان يرسل هؤلاء النفر من أصحابه مع أولئك الغادرين. فما هي إلا أن يقربوا من مكة حتى يظهر الخفي ويصرح الشر ويتبين الغدر. وإذا الذين كانوا يعلنون إيمانهم يستصرخون فيأتيهم الصريخ من هذيل. وإذا أصحاب محمد يرون الغدر فينحازون إلى الجبل ويعاهدهم أعداؤهم على ألا يقتلوهم ولا يمسوهم بأذى أن هم ألفوا بأيديهم. فأما عاصم واثنان من أصحابه فيقسمون لا ينزلون على عهد كافر أبداً. ويقاتلون حتى يقتلوا. وأما الآخرون فيحبون الحياة ويلينون لها، فيستأسرون ولا يكادون يفعلون حتى يروا الغدر، فيأبى أحدهم أن يتبع الغادرين وإذا هو مقتول، ويبقى الآخران أسيرين يحملان إلى مكة ويباعان فيها. فيشتري أحدهما صفوان ويأمرني به فأتم له ما قدر له من نعيم، ويتم لي ما قدر لي من شقاء.
ثم يجهش نسطاس بالبكاء ويغرق فيه حينا. ثم يعود إلى حديثه في صوته ذلك الهادئ البعيد، فيقول لقد عرفت ورأيت من أنباء هؤلاء الناس ما لم أكن أقدر أن أعرف أو أرى. ولولا أن الشقاء مقضي علي ومقدور لي، لكان فيما عرفت قبل أن أقترف الإثم صارف لي عن اقترافه، وماذا كنت أخاف لو عصيت صفوان ولم أسفك هذا الدم الحرام؟ وأيهما أهون عليّ؟ وأيهما كان خليقاً أن أوثره؟ الموت بيد صفوان أم الشقاء الأبدي الذي دفعت إليه؟
لقد فرحت هذيل بمقتل عاصم بن ثابت، وقالت مائة من الإبل تدفعها إلينا القرشية حين نأتيها بهذا الرأس، ثم أقبلوا إليه يريدون أن يحتزوا رأسه؟ ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون، هذه ظلة من الدبر تقوم دونه فتحميه وتمنعهم أن يصلوا إليه، فيقول بعضهم لبعض: دعوه حتى يأتي الليل فسنصرف عنه هذه الدبر، وسيخلص لنا رأسه. حتى إذا كان الليل هموا أن يسعوا إليه ليحتزوا رأسه؛ ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون؟ لم يبلغوه ولم يمسوه، وإنما أقبل السيل فاحتمله، ومضى به إلى حيث لا تبلغه يد. ولقد حدثت أن هذا الرجل كان قد نذر ألا يمس كافراً ولا يمسه كافر، ولقد حدثت أنه لما امتنع على القوم فقاتلهم وقاتلوه، رفع صوته ضارعاً إلى ربه وهو يقول: اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم لحمي آخر النهار. ولما بكى نسطاس عند هذا الحديث فلم يبك وحده، وإنما بكى معه أصحابه جميعاً بكاء طويلا، حتى إذا كفكفت عبرته وهدأ عنهم البكاء مضى في صمته، ولكنهم ألحوا عليه أن يتم ما بدأ من الحديث، فقال وبم تريدون أن أتحدث إليكم؟ لقد كنت أقرأ أخبار شهدائنا وأسمع أحاديثهم فأرهبها وأكبرها وأخافها وأرغب فيها وأود لو أني حييت في تلك الأيام التي كانت ترخص فيها الحياة، ويغلو فيها الإيمان، وأود لو أني كنت واحداً من هؤلاء الناس الذين باعوا نفوسهم من الله، فقد أُتيح لي اليوم أن أعيش في بيئة الشهداء وأن أراهم وأتحدث إليهم وأسمع منهم، ولكني لم أبع نفسي من الله، وإنما بعتها من الشيطان، ولم أسفك دمي في سبيل الله، وإنما سفكت دم شهيد كريم.
ولقد سمعت أبا سفيان زعيم قريش يسأله أيما احب إليه؟ أن يقوم محمد مقامه هذا وأن يكون هو آمنا بين اهله؟ فيجيبه والله ما احب أن تصيب محمداً شوكة تؤذيه وأنا آمن بين أهلي، فيقول أبو سفيان لمن حضر من أشراف قريش: ما رأيت أحداً يحب أحداً كما يحب هؤلاء الناس صاحبهم. ثم تمتد يدي الآثمة إلى هذه الحياة الطاهرة فنطفئ سراجها، والى هذا الدم الزكي فتسفكه على الأرض مخافة من غضب صفوان، يا للهول! لقد كنت احسب أن صفوان لم يملك إلا جسمي وان نفسي ما زالت حرة. فقد علمت الآن إني رقيق حقاً، وقد علمت الآن أن سلطان السادة على الأرقاء قد يتجاوز الأجسام إلى النفوس، وقد علمت الآن أن الرجل الذي يرضى بالرق ولا يموت دون الحرية إنما يقتل نفسه قتلا. لقد قتلت نفسي يوم آثرت الحياة وقبلت أن أكون سلعة في يد أولئك التجار.
قال رجل من أصحابه إن كان صريعك هذا شهيداً كريماً، وما أراه إلا كذلك، فان رفيقه الذي قتله بنو الحارث بن عامر لم يكن أقل منه كرامة، ولعل مصرعه أن يكون أشد من مصرع صاحبه ترويعاً للنفس وتمزيقاً للقلب، لم يبسطوا عليه بالشر يد مولى من مواليهم أو عبد من عبيدهم، وإنما كانوا ظماء إلى دمه، حراصاً على أن يخمدوا جذوته بأيديهم خرج به جمعهم إلى التنعيم فلما أراد قتله استأذنهم في أن يتقرب إلى ربه بالصلاة قبل أن يخطو آخر خطواته في الحياة، فأذنوا له فصلى ركعتين، ثم قال لهم لولا أني أخاف أن تظنوا بي الجزع لزدت. ثم ينهض إليه أحدهم فيقتله ويعودون عنه وانهم ليتحدثون من أخلاقه وخصاله بما كان خليقاً أن يصرفهم عن قتله لولا أن قلوبهم قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. لقد كانوا يقولون انهم جعلوا سجنه عند امرأة منهم، وان هذه المرأة كانت تتحدث إليهم من أمره بالأعاجيب، كانت تراه مغلولا يأكل من الفاكهة والثمر ما ليس لأهل مكة عهد به في مثل هذا الوقت. لا تدري كيف سيق إليه. ولقد أنبأتهم انه حين أظله اليوم الذي كان يراد قتله فيه طلب إليها موسى يتهيأ بها للموت. فأرسلتها إليه مع طفل صغير يدرج، ثم لم تلبث أن راعها ما فعلت، وان امتلأ قلبها رعباً، وان قالت لنفسها ما يمنع هذا الأسير أن يقتل هذا الصبي فيثأر بنفسه قبل أن يدركه الموت؟ وأقبلت عليه مسرعة فإذا هو قد اجلس الطفل على فخذه وهو يداعبه ويلاعبه، وأكبر الظن أنه إنما كان يودع فيه طفلاً له بعيداً. فلما رأى المرأة مقبلة وقد أخذها الروع ابتسم لها ابتسامة الحزن، ونظر إلى الطفل نظرة الحب، وقال للمرأة: أشفقت على هذا الصبي من الغدر، ليس الغدر من أخلاقنا
أفمثل هذا الرجل كان خليقاً أن تقدمه قريش فتقتله لو أن قريشاً تعرف الحق، أو تقدر الخير، أو ترجوا لله وقارا، أو تحس في قلوبها أثراً من آثار الرحمة والبر؟ قال قائل منهم ما أرى إلا أن لهؤلاء الناس من أهل يثرب شأناً. فلو أنهم يقيمون أمرهم على شيء من باطل هذه الحياة الدنيا لما استقبلوه بهذا الحزم، ولما احتملوا في سبيله هذا الأهوال، ولما رخصت عليهم نفوسهم ودماؤهم وأموالهم وأهلهم إلى هذا الحد. والله أني لأسمع ما يقال وأرى ما يحدث فلا أشك في أن أهل هذه الأرض يستقبلون عصراً كذلك العصر الذي استقبله أهل بلادنا حين انبعث فيهم رسل المسيح. هذا الأيمان الذي زين في بعض القلوب حتى زهدها في كل شيء، وهذا اليقين الذي سيطر على بعض النفوس حتى هون عليها كل شيء، هذه المعجزات التي تساق إلى الناس في يسر وسذاجة وما كانوا ينتظرونها ولا يرجونها فلا تغرهم ولا تطغيهم ولا تدفعهم إلى أشر ولا بطر
كل هذا دليل واضح على أن السماء لم تقرب من الأرض قربها في هذه الأيام، وعلى أن أخبار السماء لم تتصل بالأرض اتصالها في هذه الأيام، وعلى أن الله يريد بالناس شيئاً لم نكن نقدر انه كائن ولكن أو أنه قد آن. أما إني لاحق بهؤلاء الناس إن استطعت إلى ذلك سبيلا. قال الآخرون: ما ايسر ذلك وما أعسره! وأين لمثلنا أن يفلت من سادة قريش، وإن من حول مكة من أهل البادية لأرصاداً على من أقبل من يثرب أو قصد إليها من الأحرار فكيف بالرقيق؟ قال نسطاس وهو ينتحب فكروا في ذلك ودبروا: وتهيأوا لذلك واستعدوا، فأنتم أهل لهذه الكرامة إن كان الله قد قضاها لكم؛ أما أنا فقد كتب عليّ الشقاء، وما أرى أن بحار الأرض لو سلطت على التنعيم تستطيع أن تغسل عن آثر هذا الدم الزكي الذي سفكته هذه اليد الآثمة، ثم قام عنهم يعدو مشتداً في العدو، فلم يروا له بعد ذلك أثراً، ولم يسمعوا عنه بعد ذلك خبرا.
طه حسين