مجلة الرسالة/العدد 42/المسلمون أمس واليوم
→ من حديث الشهداء | مجلة الرسالة - العدد 42 المسلمون أمس واليوم [[مؤلف:|]] |
وحي الهجرة في نفسي ← |
بتاريخ: 23 - 04 - 1934 |
للأستاذ احمد أمين
في نحو ثلاثة وعشرين عاما استطاع محمد رسول الله (ﷺ) بما منح من قوة العقيدة. وصدق العزيمة. وبعد النظر وتأييد الله أن يحول العرب من جماعات مختلفة اللغة، مختلفة الدين، مختلفة الرأي، مختلفة الأهواء، تشعر بالضعة إذا قارنت نفسها بمن حولها، وبالذلة إذا رأت من في جوارها، ولا يفكر الفرد فيها إلا في نفسه، فان اتسع أفقه ففي قبيلته، فان فكر في قبيلة أخرى ففي الانتقام والأخذ بالثار، وشن الغارة للسلب والنهب - إلى أمة واحدة، متحدة اللغة، متحدة الدين، متحدة الرأي، يشعر الفرد فيها أنه من أمة أعزها الله بالإسلام. وفضلها به على الأنام. وجعلهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. وليس ذلك بالكثير في تاريخ الأمم.
فان مات محمد (ﷺ) ولم يتعد إصلاحه جزيرة العرب، فقد أعد أمة لإصلاح غيرها، ولسيادة الناس خير إعداد - حتى إذا وجهها قادتها نحو الفتح، أتوا بما حير علماء السياسة والاجتماع والتاريخ إلى اليوم - بسطوا سلطانهم على جزء كبير من العالم في أقل من عشر سنين، ولم يكن فتحهم تخريباً وتدميراً، إنما كان فتحاً منظماً أحكمت قواعده وأصوله - واستمروا ينتقلون من فتح إلى فتح، ومن ظفر إلى ظفر، مما يجعل الباحث يقتنع بأن نجاحهم لم يكن حظاً أتيح لهم، ولا مصادفة وقعوا عليها - إنما كان نتيجة مبادئ صحيحة اعتنقوها، ونفوس قوية ضمت صدورهم عليها - ومع ما عرض لهم من خلاف فيما بينهم كان من طبيعته أن يودي بأمثالهم من حروب داخلية ومنازعات سياسية وخلافات دينية، تغلبوا على كل ذلك، ولم يمنعهم من الظفر بعدوهم واستمرارهم في فتوحهم.
ثم هم ساهموا في كل شأن من شؤون المدنية، إن نظرت إلى الدين فقد دعوا إلى دينهم فدخل الناس فيه أفواجاً في هدوء من غير عنف، ولم يمض قرنان على فتحهم حتى كان أكثر البلاد المفتوحة على دينهم، ثم هو لا يزال ينتشر إلى اليوم مع انعدام الدعاة، وعدم حماية الدعوة، وان نظرت إلى اللغة رأيتهم هيئوا لغتهم لكل جديد ووسعوها - وهي البدوية الأصل والمنشأ. حتى أحاطت بكل مرافق المدنية إذ ذاك، وحتى زاحمت الفارسية في فارس، والرومانية في الشام والقبطية في مصر، وسارت مع الدين جنباً لجنب، كلما ظفر الدين ظفرت اللغة، وكسبت لغتهم قادة الفكر في كل هذه الأمم المفتوحة. فأصبحوا يمنحونها خير أفكارهم وأفكار أممهم، وظلت اللغة العربية تسود حتى نسى كثير من الأمم لغتهم الأصلية، وأحلوا محلها العربية، ولو لم يعتنقوا الإسلام - وان نظرت إلى النظم والتشريع فكذلك، فقد أقلم المشرفون أنفسهم وكانوا حيث حلوا مرنين يقفون موقف المتفهم للموجود من نظم وقوانين ثم يقرون ما لم يتعارض وأصول دينهم، ويغيرون ما تعارض، ووقف الفقهاء في كل قطر يوسعون مذاهبهم حسب الحاجة، وحسب الإقليم الذي حلوه، وخلفوا من كل ذلك قوانين لا تزال إلى اليوم محل إعجاب المنصفين من المتشرعين
وان التفت إلى العلم رأيت أنهم في كل فرع من فروع العلم أخذوا بحظ وافر، لم يمنعهم دينهم أن يأخذوا عن وثنيي اليونان فلسفتهم، ولا عن النساطرة طبهم، ولا عن اليهود ما يروون من أخبار أنبيائهم وعلمائهم، وأبلوا في العلم بلاء لا يقل عن بلائهم في الحرب، فحيث حلوا رأيت علماً كثيراً وجداً عجيباً؛ ثم خلفوا من كل ذلك ثروة فيها غاية ما وصل إليه العلم لعهدهم. فهموا ما كان من علم قبلهم وتداولوه بالشرح والنقد وضموا إليه ما أوحته نظرات دينهم من علوم إسلامية، ومذاهب دينية، وزادوا في ثروة من قبلهم بما بذلوا من جهد وأنفقوا من مال ونفس.
فلئن لم يكونوا سادة العالم فقد كانوا سادة في العالم، وان لم يكونوا رأسه المفكر فقد كانوا رأساً من الرؤوس، لا عبيداً ولا أذناباً، ووقفوا في بعض أيام تاريخهم من العالم موقف المعلم، يرحل من أراد العلم من الأوربيين إليهم، وينقلون إلى اللاتينية كتبهم، ويدرسون في جامعاتهم علمهم - وفي السياسة العالمية وقفوا موقف الموازن، يسمع لقولهم ويحسب حسابهم، وتعقد المعاهدات المحترمة معهم.
ثم دار الزمن دورته وأصبح سادة الأمس عبيد اليوم ورؤوس الأمس أذناب اليوم، وشباب الأمس هرم اليوم، وقضى على حضارتهم ما قضى على حضارة اليونان والرومان، والآشوريين والبابليين، وقدماء المصريين، إلا فرقاً واحداً وهو أن حامل لواء الحضارة الإسلامية لا يزال حياً وان كان شيخاً فانياً، وان الشيخ إن لم يصب بالعقم فقد يلد طفلاً يمر بأدوار الحياة ومنها الشباب، وان الأمم إن لم تمت فلها أيام، فقد يكون للإسلام فجر وضحى، وعصر وغروب، ولكن لا يلبث الليل حتى ينجلي عن صبح آخر فيه كل صفات الصباح، من نور وضياء، وإشراق يدفع للحركة، ونسيم يبعث الحياة.
وبالفعل يظهر أن هذا الشيخ الفاني قد مات أو كاد، وأن الله فالق الإصباح ومخرج الحي من الميت لم يصبه بالعقم، ووهبه ما وهب زكريا (إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا)
ولكن إن ورث (يحيى) من زكريا علماً وحكمة فإني أخشى أن يرث (يحيانا) تركة قد أثقلت بالديون وأفعمت بالمغارم، فهل من سبيل إلى أن يرث من آبائه الأبعدين لا من آبائه الأقربين؟ يحدثنا علماء الوراثة بأن ذلك جائز في قوانينهم، وأن بعض الأبناء يرث من جده الأبعد لا من أبيه الأقرب، إن كان ذلك كذلك فخير له، فأن أباه أشعث أغبر، لوحته الهموم، وأحنت ظهره الأحداث، أما جده البعيد فجميل المُحيا، مشرق الجبين، صارعه الدهر، فصرع الدهر، وأرادت أن تنال منه الأحداث فنال منها، ولكن أنى لنا ذلك، ومربوه من جنس أبيه، فان لم تفسده الوراثة أفسدته البيئة وأفسده المربي وأفسده الموالي من ورائه يكيدون له، ويضعون الخطط تلو الخطط لاغتياله، لا يكون ذلك حتى يرزق (يحيى) بالمثل الصالح، والمربي الصالح، يفتح عينيه ليرى ما حوله، ويضع له البرامج ليعده أن يكون سيداً مع السادة ورأساً بجانب الرؤوس، يبنى صرح المدنية مع بناته، ويشيد العالم مع مشيديه، فأن كان العالم لا يسع إلا مدنية واحدة شارك فيها، وإن كان يسع مدنيتين فاكثر، أسس هو مدنية تتفق وروحه، وعقليته ونفسيته، ودينه وخصائصه.
من نحو خمسة قرون فقد المسلمون مركزهم العالمي، وأصبحوا حيث حلوا عنوان الذل والعبودية، وحلفاء الفقر والمسكنة، ولم يكن تأخرهم راجعاً إلى بيئتهم كما يذهب بعض الباحثين، فهم يسكنون بيئات تختلف حرارة وبرودة، وتختلف خصباً وجدباً، وتختلف جفافاً ورطوبة، وهم من ذلك في مستوى واحد من الضعة والتأخر، على أن الأمر لو كان يرجع إلى البيئة ما تداول عز وبؤس، ونعيم وشقاء، وسيادة الأشراف وصعلكة العبيد، ولكانوا على حال واحد أبداً، لأن البيئة تلازمهم أبداً - كما أن الأمر لا يرجع إلى ما يجري في عروقهم من دم، فدمهم الذي يجري فيهم اليوم هو من نوع الدم الذي كان يجري في عروقهم أمس، وقد بطلت نظرية أن الله اختار من عباده جميعاً شعباً واحداً عهد إليه تنظيم العالم وسيادته هو الشعب التيوتوني أو الشعب الآري، فليس من أمة إلا وهي خليط من دماء مختلفة ولو كان كذلك لما عزوا وذلوا، وعلوا وسفلوا، وليس أمر المسلمين كذلك يرجع إلى دينهم فدينهم قديماً كان هو سبب سعادتهم وهو الذي انتشلهم من بؤس، وأعزهم من ذل - والدين متى كان صالحاً أسسه كالإسلام كان باعثاً على الأصلاح لا الفساد، وعلى النهوض لا الانحطاط، إنما هو ككل دين يختلف باختلاف العين التي تنظر إليه، فان صلحت العين صلح ما تنظر إليه، وان ساءت ساء، بل قد رأينا في تاريخ الأمم عيناً صحيحة وديناً مريضاً استطاعت العين لصحتها أن تصلح منظره وتجمل شكله
على إني لا أرى أن المسلمين تأخروا وانحطوا بالمعنى الحرفي الذي يفهم من الكلمة أعني الرجوع إلى الوراء، بل كل ما في الأمر أنهم وقفوا حيث كانوا من خمسة قرون، وغيرهم سائرون، وناموا وغيرهم أيقاظ، فلما بدأوا ينتبهون رأوا الشقة بعيدة واللحاق يتطلب عزماً قوياً وجهداً بالغا
مظاهر هذا الوقوف وإن شئت فسمه الركود متجلية في كل مرفق من مرافق الحياة - ففي اللغة وهي أداة الثقافة، وآلة العلم ووسيلة الرقي العقلي - وقفنا حيث انتهى الأمر بالدولة العباسية، ولم نساير الزمن ولم نخط معه خطواته، تغير وجه الحياة، واخترعت ألوف الآلات، ومعاجم لغتنا - كما هي - لا نعترف إلا بما كان، وتهمل ما هو كائن وما سيكون، فلا هي توسعت في مدلول الكلمات العربية ووضعت منها أسماء للجديد، ولا هي سمحت بالكلمات الأجنبية أن تدخل من غير تعديل أو بتعديل، والخلاف محتدم، والنزاع قائم، ومركزنا كما هو لم نتقدم فيه شبراً - مع أنا واجهنا هذا الأمر منذ احتكاكنا بالمدينة الحديثة، وحرنا في تصرفاتنا فحينا ندرس كثيراً من المواد في مدارسنا بلغة أجنبية وحيناً تأخذنا العزة القومية فنحولها إلى العربية، والنقص كما هو والموقف كما هو
وفي التشريع تغير العالم في معاملاته، فأنتجت المدنية الحديثة أنواعاً من المعاملات عديدة، وأنواعاً من الجرائم جديدة، ونظماً في الحكم والقضاء، فأبى رجالنا إلا أن يقفوا حيث هم، أبوا أن يفتحوا أعينهم لأنواع الشركات إلا ما نص عليه في الكتب القديمة من شركة مفاوضة ووجوه وعنان، وأبوا أن ينظروا إلى نظام الجمارك إلا ما ورد في كتب الفقه في باب العاشر، وأبوا أن ينظروا في جرائم الكيوف والاختلاس والتزوير إلا ما جاء في باب التعزير فكان من الزمن أن تركهم فيما هم فيه، وسلب من يدهم أوسع أبواب التشريع، وهي ما يتعلق بالمسائل المدنية والعقوبات واستند من قانون نابليون إذ أبى، بالعلماء أن يمدوه بالفقه أو لم يترك في يدهم إلا الأحوال الشخصية إلى حين
وكان موقفنا في الأخلاق موقفنا في اللغة والتشريع، فالمدنية الحديث كان لها من الأثر ما غير قيم الأخلاق، وقلب أوضاعها وطبعها بطابع جديد، ذلك أن أكبر أسس المدنية الحديثة وأهم أركانها الصناعة - ومن أجل هذا قومت الأخلاق من جديد على أساس الصناعة، ورتبت قائمة الأخلاق ترتيباً يتفق والصناعة، فخير الأخلاق النظام، والنظافة، والصدق في المعاملة، والمحافظة على الزمن، والاقتصاد وما إلى ذلك وجعلت هذه الصفات في المنزلة الأولى، ووضع للعمال نظم لحمايتها وترقية شؤونهم من نقابات وجمعيات، وقلبت القائمة التي وضعت في القرون الوسطى رأساً على عقب، فالحياء والتواضع والسماحة ونحوها قل أن تعد فضائل، وإذا سمح بعدِّها ففي ذيل القامة لأنها لا تتناسب مع أخلاق القوة وأخلاق الصناعة، فليس خير الصناع أشدهم حياء وأكثرهم تواضعاً، ولكن خيرهم أقواهم وأمهرهم، وأحفظهم على نظام، وأشدهم مراعاة لموعد وهكذا - وجاء العلم فخدم هذا النظر لأنه رقى الصناعات رقياً عظماً بفضل ما يقدمه لها كل يوم من مكتشف جديد، وبجانب هذا تحكم العلم في تقويم الأخلاق. فغير الأنظار القديمة وجعل المقياس سعادة الناس ورفاهيتهم في الحياة الدنيا، ولم يعبأ بالتقدير المأثور عن السلف، فنظر من جديد إلى الموسيقى والألعاب وسائر الفنون، وحكم بالحسن على ما كان يحكم عليه من قبل بالقبح، وعد كثيرا مما كان قبل إثماً وحراماً وجريمة محمدة وخيراً وفضيلة، ورأى أن ما في حياة القرون الوسطى من رهبنة واعتكاف في الأديرة والتكايا ونحو ذلك، عيشة كسل وخمول لا تتفق وخير الناس (فمن لم يعمل لا يأكل) جرى كل هذا والمسلمون حائرون بين تقاليدهم القديمة وما تقدمه المدنية الحديثة من نظر جديد - والزمن لا ينتظرهم في حل الإشكال واختيار أحد الطريقين، فلما ترددوا جرفهم طوعاً أو كرهاً من غير أن ينظرهم حتى يبتوا فيما يتفق وأخلاق المدنية الحديثة مع تقاليدهمم ودينهم وتاريخهم وما لا يتفق.
ويطول بنا القول لو عددنا كل مرفق من مرافق الحياة وأبنّا ما أصابه من ركود فنجتزئ بما ذكرنا من أمثلة للدلالة على باقيها.
ثارت أوربا في التاريخ الحديث ثورات سياسية وثورات صناعية، كان من نتائجه تغيرها تغيراً كبيراً في القرن التاسع عشر فمن الناحية السياسة حلت الديمقراطية محل الأرستقراطية بما يتبع ذلك من تغير في النظم والتشريع، ومن الناحية الصناعية حلت المصانع الكبيرة والشركات، والسكك الحديدية والتلغرافات والتليفونات والكهرباء محل المظاهر الساذجة من صناعات يدوية وحمل على الخيل والبغال، واستنارة بالشمع والزيوت، وما إلى ذلك وهذا التغير السياسي والصناعي هو ما نسميه بالمدنية الحديثة. وتبع هذا التغير الداخلي في أوربا، تغير آخر خارجي، فقد اتجهت أفكار قادة الرأي فيهم إلى غزو آسيا وأفريقيا وكان الباعث لها على ذلك جملة أمور، أولها اقتصادي وهي أن تجد لها في الشرق مواد أولية لتغذية صناعتها، وثانيها وطني، وهو أن كل أمة من أمم أوروبا فشت فيها النزعة الوطنية وامتلأت نفوس أهلها حمية، ودفعها ذلك لأن تتطلب كل أمة قوة المظهر داخلاً وخارجاً، ومن أهم ذلك التوسع في الاستعمار وبسط النفوذ، والفخر بلون الخرائط - وثالثها - وهو أقل من الأولين شأناً الدافع الديني فقد دفع قوماً من أوروبا لنشر الدعوة المسيحية في البلاد الإسلامية واستعانوا بالسلطة على حمايتهم
على كل حال - حمل الأوربيون إلى أسيا وأفريقيا مدنيتهم مع فتحهم، وكان لابد لهم أن ينظموا الحال فيهما بما يتفق والنظام السائد عندهم ففي التشريع لابد أن تسود المبادئ القانونية السائدة في أوربا حتى تسهل التجارة ويأمنوا على معاملتهم للشرقيين، ولابد من انتشار المدنية الحديثة بآلاتها وأدواتها حتى تروج في الشرق البضائع الأوربية، ولابد أن يتعلم طائفة من المفتوحين على النمط الأوروبي الحديث، وأن يكونوا هم المتولين المناصب الكبيرة حتى يمكن التفاهم معهم في تسيير الشؤون، وهكذا كان من أثر انتشار هذه المدنية بين المسلمين نتائج كثيرة أهمها فيما يظهر لي أمران - الأول - اختلال التوازن بين الأمم الشرقية عامة والأمم الإسلامية خاصة، وأكبر ما تمنى به أمة اختلال توازنها، ذلك أن المدنية الحديثة بما استتبعها من تغير في مظاهر الحياة الاجتماعية ومن تعديل في قيم الأخلاق، كانت نتيجة لثورات داخلية شبت فيه، وآمال وآلام جاشت في صدره وتجارب جربها وأخطأ فيها فأصلح خطأه وهكذا كانت حركاته سلسلة متصلة تسلم حلقة منها إلى حلقة، ونسير في التدرج فيها سيراً طبيعياً، أما في الشرق فجاءته هذه المدنية لا من داخل نفسه بل من خارجها، وفرق كبير بين ما دعت إليه الطبيعة وما دعا إليه التقليد - ولاختلال هذا التوازن مظاهر كثيرة فان نظرت إلى القضاء فقضاء شرعي في الأحوال الشخصية يطبق نظم المدنية الإسلامية وقضاء أهلي يطبق نظم أوربا ممصرة وقضاء مختلط يخالفهما، وفي الحياة الاجتماعية نرى قرى لم يتأثر أهلها بالمدنية الحديثة في قليل من شؤونهم ولا كثير، ومدناً تأثرت إلى حد كبير بها حتى في أدق أمورها، ولعل خير ما يمثل مظاهرنا المختلفة المضطربة اختلاف ملابسنا وتعدد أشكالها مما لا يعرف له نظير في أوربا.
وفي التعليم أنواع تتبع الأنماط الإسلامية في عصورها، وأنماط تتبع المدنية الحديثة في مظاهرها وأشكالها، وهكذا فأن أنت نظرت إلى أية أمة أوربية في كل مظاهر الحياة من لغة وتعليم وملبس ومظهر اجتماعي رأيت فيها وحدة رغم الاختلافات السطحية، وان أنت نظرت إلى حياة المسلمين في كل مرفق من هذه المرافق لم تجد هذه الوحدة ووجدت الخلاف في الصميم، نرى نزعات تتجه نحو تاريخهم ودينهم ومدنيتهم القديمة ونزعات تتجه نحو المدنية الحديثة ولا رابطة تربط هذه النزعات - وترى ناحية من نواحي المدنية الحديثة تطغى وتكثر ولا يماثلها ما يقابلها فيطغى - مثلاً - في الشرق لهو أوربا من خمر ورقص وحياة مترفة وهي كثيرة في أوربا كثرة تفوق بمراحل ما في الشرق، ولكنها في أوربا تتعادل وتتوازن، فلهو كثير يزنه جد كثير، وإجرام يوازنه حزم - وعلى هذا النمط يختل التوازن وتفقد الأمة قوتها الحيوية - ولا يمكن أن تصلح هذه الحال إلا إذا توافر جماعة من خير الأمة على دراسة الموقف الاجتماعي للمسلمين والشرق دراسة عميقة مسلحة بما وصل إليه علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ثم يضعون بعد هذه الدراسة الأكاديمية خططاً للسير في هذا الظرف العصيب ظرف الانتقال، يعرفون الداء ويصفون الدواء، يعلمون مدنيتهم القديمة والمدنية الحديثة، ومعايب كل، ومزايا كل، ويعلمون الحالة النفسية لأممهم وما يناسبهم وما لا يناسبهم ويبينون (خطة الانتخاب) يعرفون مناحي اختلال التوازن وأسبابها ويرسمون طريقة (إعادة التوازن).
والأمر الثاني من نتائج انتشار المدنية الحديثة بين المسلمين أمر يناقض الأول ويكاد يسير سيراً عكسياً معه، ذلك أن انتشار التعاليم الجديدة للمدنية الحديثة واضطرار الأوربيين لتأليف فرقة من المسلمين يتكلمون لغتهم، ويتعلمون مناهجهم، ويتشربون مبادئهم، أمكنت هذه الطائفة من الاطلاع على المبادئ التي تدعو إلى الديموقراطية، وتبث روح الوطنية، فكان من ذلك أن أشربوا روح الثورة - نظروا إلى أممهم بالعين التي نظرت إلى هذه المبادئ فأيقنوا بحقهم في الحياة، وحقهم في الاستقلال، وحقهم أن يساهموا في بناء صرح المدنية، وأن يشاركوا في تحمل أعباء الإنسانية - وزادهم عقيدة في ذلك ما رأوا من أن أوربا تحكم آسيا وأفريقيا على قاعدة مختصرة موجزة واضحة طبيعية، وهي أنها تتجه في تسيير آلات الحكم إلى منفعتها هي، فحيث اتفقت مصلحة آسيا وأفريقيا مع أوربا نفذت المصلحة المشتركة، وحيث اختلفت مصلحة آسيا وأفريقيا مع مصلحة أوربا، فطبيعي أن تنفذ مصلحة أوربا، وقد ينظر في تقدير المصلحة النظر الضيق القريب لا النظر الواسع البعيد - كان من جراء هذا وذاك وجود الاصطدام وشعور الشرق بالغبن، وقيام الطائفة المتعلمة على النمط الحديث ببث روح الوطنية - وعملت هذه الحركة في النفوس سنين وتكفل الزمن بأن يظهر كل حين وآخر حادثة تفتح عيونهم وتقوى شعورهم، فكان القلق في كل مكان في الشرق، في مصر، في تونس، في الجزائر، في مراكش، في فلسطين، في الشام، في العراق، في الهند، في غيرها من البلدان، قلق اقتصادي وقلق وطني وقلق ديني، هذا القلق أنتج وليداً جديداً هو ما وصفته قبل، ماذا ينتهي إليه هذا القلق؟ ماذا يكون شأن هذا الوليد؟ ما تاريخه المستقبل؟ هذه الأسئلة وأمثالها خارجة عن عنوان مقالنا وهي بعنوان (المسلمون غداً) الصق واليق، وكل ما أعمله الآن وأريد أن أقوله عن هذا الطفل أنه (لن يموت).
أحمد أمين