مجلة الرسالة/العدد 415/رسالة العلم
→ رسَالَة الشِّعر | مجلة الرسالة - العدد 415 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 16 - 06 - 1941 |
حول أبعاد الحيز
كون رباعي الأبعاد
(إلى أستاذي جوداق أهدي هذهِ الفصول)
للأستاذ خليل سالم
- 3 -
أبَّنا في المقال السابق بعض الخصائص التي يلتقي عندها الزمان والمكان، والتي سمحت لنا أن نعتبر الأول بعداً رابعاً، وسنحاول هنا أن نذكر أهم خصائص كون ذي أربعة أبعاد، سواء كان هذا البعد الرابع زماناً أو مكاناً. ورب من يستغرب كيف يمكن أن يكون المكان ذا أربعة أو خمسة أبعاد إلى ما لا نهاية من الأبعاد. فنحن لا ننتهي من بدعة الزمان كبعد رابع، تلك البدعة التي لا يقبلها الحس والتصور، حتى تأتينا بدعة أكبر هجنة وغرابة، هي أن يكون المكان كثير الأبعاد. على أنني لا أقصد أن أتحول عن خطتي لأشرح هذهِ الفكرة الجديدة، فربما نحاول في فرصة قريبة تبسيطها وعرضها على القراء إلا أنني أُعطي المثال البسيط التالي لأزيل قليلاً من حيرة القارئ. فهو يتعلم مهما بلغ ضآلة ثقافته الرياضية أن النقطة الهندسية إذا تحركت رسمت خطاً هندسياً طوله المسافة التي تحركتها تلك النقطة، وهذا الخط المستقيم ذو بعدٍ واحد، لأن للنقطة مجال حرية الحركة في اتجاهٍ واحد فقط، وإذا تحرك هذا الخط الهندسي في اتجاه علوي على طوله بعداً يساوي طوله نتج المربع، وهو مستواً ذو بعدين، لأن النقطة تجد مجال الحركة واسعاً أمامها في اتجاهين، أو لأن مكان النقطة يتعين ببعدين اثنين عن أضلاع مربع، وإذا تحرك المربع في اتجاه علوي لمستوى مسافة تعادل طول ضلعه نتج المكعب، وهو حجم ذو ثلاثة أبعاد. يقف تصورنا عند هذا الحد. أما التحليل الرياضي، فلا يقف هنا، فبنفس الطريقة المنطقية السالفة، نتصور المكعب متحركاً في اتجاه عمودي على متعامداته الثلاثة مسافة تساوي ضلعه فينتج فوق المكعب ذو أربعة أبعاد، وإذا تحرك هذا نتج فوق المكعب ذو خ أبعاد، والعملية تتسع لعدد لا متناه من التكرار
ولعل القارئ يذكر إننا نحول القوة الأولى (س) إلى خط مستقيم، والقوة الثانية (س 2) إلى مربع، والقوة الثالثة (س 3) إلى مكعب، فيجب أن يستمر القياس إلى (س 4) فنحولها إلى جسمٍ في أربعة أبعاد وإلى (س ن) فنحولها إلى جسم عدد أبعاده (ن). ولا أرى من الضروري أن أعيد ما ذكرت في البحث السابق من أن تصور مثل هذهِ الأجسام مستحيل.
على أن الدكتور كايزر وهو علم من أعلام فلسفة الرياضيات يقول: إذا لم يكن لهذه الأجسام وجود في البصيرة فلها وجود في التفكير، وإذا لم يكن في الحس فهو قي العقل، وإذا لم يكن في المادة فهو في الفكر، وهو لا يكتفي بهذا فيقول في كتابه لقد أقنعني التأمل بأن حيزاً أبعاده أربعة أو أكثر له من خصائص الوجود مثل ما للفضاء الهندسي العادي
وقبل أن نعرض لتلك الخصائص نود ذكر بعض الظواهر الطبيعية التي أستخدم في تفسيرها البعد الرابع وكان أسهل مما تبناه العلماء من تعاليل وفرضوه من فروض. ولا أراني في حاجة للقول بأن نظرية النسبية التي فسرت أكثر الظواهر الطبيعية المعقدة العويصة لا تدخل ضمن نطاق هذا الشرح
هناك نوعان من حامض الطرطريك (ك 14 يد 10 أ9) يشبه أحدهما الآخر كأنه صورته في المرآة ويتحول أحد هذين النوعين إلى نوع الآخر دون حدوث تفاعل كيماوي يفسر هذا التحول بأنه تحرك نوع واحد في البعد الرابع في اتجاهين متضادين
ونجد نفس الظاهرة في سكر العنب (دكسترو ك6 يد 12 أ6) وسكر الفواكه (ليفيلوز ك6 يد 12 أ6) وهما نوعان من السكر موجودان في العسل متشابهان في التركيب الكيماوي ولكن أحدهما معكوس الآخر إذا ما فحص تحت الضوء المستقطب وإذا تصورنا تحرك ذراتهما في البعد الرابع أمكننا أن نعلل سبب اختلافهما
ومن العجب حقاً أن نجد نفس الظاهرة في نوع من الحلازين فبضعها ملتو إلى اليمين والبعض الآخر ملتو إلى اليسار كأن أحد النوعين صورة في المرآة للنوع الآخر. ليس هذا فحسب وإنما تبدي عصارة كل منها ما يبديه نوعاً من السكر من أن أحد العصارتين تظهر تحت الضوء المستقطب عكس الصورة الأخرى وقد أشار هنتون وهو من المشتغلين بمثل هذه الأبحاث أن التيار الكهربائي يمكن شرحه كتموجات في البعد الرابع
والآن ما هي أهم خصائص كون ذي أربعة أبعاد؟
هناك ثلاث خصائص رئيسية:
1 - إذا تحرك جسم ذو أربعة أبعاد فإن قطعه الذي يبدو لعالم ثلاثي الأبعاد يتغير في الجسم والشكل وهذه ظاهرة (انكماش فتزجيرلد)، وقد عمد العلماء إلى تعليل هذهِ الظاهرة بأنها كهارب المادة إذا تحركت بسرعة كبيرة في الفضاء تتمغنط فيجذب بعض بعضاً، وينتج عن هذا الجذب التقلص والانكماش طبقاً لقانون فتزجيرلد الذي ذكرناه في البحث الماضي
2 - يجب أن يتسنى لجسم أن يدخل مكاناً مغلقاً عن طريق البعد الرابع دون أن يمس أضلاعه المكان الثلاثة كما يتسنى أن تضع نقطة في مربع دون أن تمس أضلاعه. ومن هذا يتبين أنه لو استطاع اللصوص مثلاً أن يتحركوا في البعد الرابع لما غنت الصناديق الحديدية فتيلاً، لأنه يمكن سحب الأموال والجواهر المخزونة دون فتح الصناديق. وكذلك يستطيع شرب زجاجة الكازوزة دون فتحها، وتأكل البيضة دون كسر قشرتها، ويمكن لنقطة في مركز الكرة أن تتركها دون أن تمس سطح الكرة. ولا تزيد العقد في البعد الرابع عن نشطات. وتسقط حلقات سلسلة فولاذية منفصلة عن بعضها من تلقاء نفسها. والأحجام المتشابهة يمكن توجيهها بحيث ينطبق بعضها على بعض تمام الانطباق في البعد الرابع: فالجانب الأيمن يصبح الجانب الأيسر، كأنه صورة في المرآة، نستطيع في البعد الرابع أن نجد خمس نقاط متساوية الأبعاد عن بعضها. الدوران في مستوى حول نقطة، وفي الفضاء حول خط، وفي كون رباعي الأبعاد حول مستوى
كما يمكن أن يحصل هذا في عالمنا لولا قانون حفظ الطاقة والكتلة؛ على أننا نستطيع أن نقول أن هذا يمكن أن يحدث في عالمنا ولكنه لا يحدث
3 - يجب أن نستطيع رؤية داخل الأشياء مهما بلغت سماكتها وكثافتها عن طريق البعد الرابع، كما نستطيع رؤية داخل مربع بالأشراف عليه من أعلى، على أن هذا لا يحدث في عالمنا، ويقدم أدنغتون تعليلاً بسيطاً لعدم الحدوث. لما كان عالمنا رباعي الأبعاد - لا حاجة بي إلى القول أن أدنغتون من أنصار ناموس النسبية - فلكي يصح القياس يجب أن نشرف على الجسم الجامد من كون خماسي الأبعاد حتى نستطيع أن نراه؛ لأن أبعاد الجسم المرئي يجب أن تكون أقل يبعد واحد من أبعاد الكون الذي نراه فيه
لا أُحب أن أترك البحث دون أن أشير إلى ناحية طريفة في الموضوع تتعلق بإيمان بعضهم بالخلود والأبدية كانغماس في البعد الرابع، فنحن نسير مع الزمن حتى إذا ألم بنا عارض وقف سيرنا هذا وتأخرنا في الماضي؛ وتأخرنا هذا هو الموت؛ ولا يعني هذا الموت أننا نسير إلى العدم وإنما نبقى في البعد الرابع أحياء أحراراً، ولذا كان البعد الرابع الطريق الذي تظهر به الأرواح لعالمنا، وكان البعد الرابع التفسير الذي تمسك فيه المشتغلون بالروحانيات وانتقال الأفكار وعلم الغيب والتصوف. وإذا كان هناك رجل يجب أن يلام على انتشار مثل هذه الأفكار فهو زولنر وكان أستاذ علم الفلك الطبيعي في ليبنرج. ففي السنتين 1877، 1878 نزل الوسيط الأمريكي سيلد إنكلترا وتنقل في أنحاء القارة الأوربية يعرض أعماله السحرية العجيبة، يدخل الأجسام بعضها ببعض ويعقد ويحل عقداً في سلسلة ليس لها من نهاية. والخلاصة أنه كان يسحر الجمهور ويدهشه بألاعيبه. وقد قدر لزولنر هذا أن يجلس مع ستيد نحو ثلاثين جلسة خرج منها معتقداً أقوى الاعتقاد أننا نعيش في عالم مغمور في كون رباعي الأبعاد، وأن البعد الرابع مسكن الأرواح التي تظهر بين حين وآخر وتؤثر في حياة سكان الأرض
وقد بلغ من زولنر الوهم حتى صرح أنه في إحدى الجلسات (صافح صديقاً من ذلك العالم الآخر)
على أن السلطات لم تترك ستيد حراً فقد أُلقي عليه القبض في إنكلترا وحكم عليه بالإعدام، إلا أن زولنر أبى إلا أن يرى ستيد بريئاً (وقد قضى ضحية جهل القضاة والمتهمين) ولقد كان زولنر كاتباً بليغاً، فلا عجب أن وجدت آراؤه انتشاراً واسعاً، ولا عجب أن آمن به الكثيرون.
(الجامعة الأمريكية - بيروت)
خليل السالم