الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 414/الحياة الزوجية في نظر الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 414/الحياة الزوجية في نظر الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 414
الحياة الزوجية في نظر الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 06 - 1941


للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي

- 2 -

خطبة الزواج

تحدثنا عن دعوة الإسلام إلى الزواج؛ لأنه الرباط الوثيق - أولاً - بين الأفراد في محيط الجماعات الصغيرة، ولأنه - ثانياً - الدعامة التي يرتكز عليها البِنَاء القومي في تكوين شعوب، وقبائل يعمر بها الكون، وتؤدي رسالة البشرية بما يجري على يدها من الإنشاء والإبداع والتعمير، وإبراز ما أودع الله في الكائنات من إمارات وجوده. وذلك هو مظهر الحياة الذي كان من أجله آدم خليفة في الأرض عن ربه، وكانت خلافته على هذا النحو إرثاً بين أعقابه إلى ما شاء الله

فإن يكن تكوين الجماعة القوية المنظمة هو الهدف الأهم الذي يرمي إليه الإسلام من وراء الحياة الزوجية، فمن شأن الإسلام أن يرشدنا إلى طريق الدخول في حوزة هذه الحياة، ومن شأنه أن يقيم لنا على جوانب هذه الطريق معالم لا يضل معها من استجاب للدعوة

ومن الحصافة - وقد فعل الإسلام - أن يأخذ المرء نفسه بالتبصر، والأناة، وتقدير الغاية، حتى إذا أقدم أقدم عن بينة لا يشوبها تردد، ولا يلاحقها ندم

وقد حدثنا الرواة أن الاتصال الزوجي على عهد الجاهلية كان على ضروب شتى، وكانت نظمهم في ذلك وليدة عرف قاصر مشوه، وأخلاطاً من عادات موروثة ملفقة؛ لذلك لم تخل وسائلهم في الحياة الزوجية من أنواع معيبة لا تكفل سلامة النسل من الدخالة، ولا تأتي بنظام للجماعة على النحو ولا قريباً من النحو الذي يتوخاه الإسلام

جاء الإسلام فعزف عما كان لدى الأعراب من الوسائل، وعفي عليها، إلا وسيلة واحدة فيها سمو بالمرأة عن الريبة، وسمو بالرجل عن الطيش والرعونة، وفيها صيانة للأسباب أي صيانة

تلك وسيلة الخطبة التي تدور حولها آي القرآن وأحاديث الرسول، وعليها جرى العمل بين سلف المسلمين، وبين الخلف الذين لم يمسسهم أفن الرأي وانحلال العقيدة، ولم ينزعوا إلى فوضى الجاهلية الأولى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

يقول الله تعالى: (الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. . .) فهذا شق من آية كريمة، يحدثنا - على أنسب الوجوه في تفسيرها - بأن الخبيثات من النساء لا يستأهلن من الأزواج إلا الخبيثين، فمن كرمت نفسه من الرجال، وضن بمروءته عن مواطن الذلة والهوان فبعيد عليه أن يجنح إلى خبيثة ساقطة يتخذها زوجة له. وكذلك الخبيثون من الرجال لا يستحقون إلا خبائث النساء، فمن ربأت بها العزة، وامتزج بها الشمم، تحاشت أن تجعل نفسها فراشاً لرجل ساقط المروءة، وضيع النفس، هين الكرامة

فإذا ما بخل كل ذي كرامة من الجانبين بنفسه عن لوثة الاتصال بالخبيث - تهيأ له أن يكون مع من يدانيه شرفاً وطهراً، ويناسبه أدباً وخلقاً؛ وهذا ما تهتف به الآية في شقها الثاني، إذ يقول تعالى: (. . . والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) ففي هذا الشق إشادة بالنساء الطيبات، وإغراء للرجال باختيارهن، وكذلك إشادة بالطيبين، وأَغراء للنساء الطيبات باختيارهم أزواجا

فنحن نرى من هذا السياق حثاً قوياً (لكل من الرجل والمرأة على التنزه عن اختيار الوضيع قريناً له، ونرى فيه حثاً قوياً على اختيار الطيب للزيجة، فكلا الزوجين مرآة تتمثل فيها صورة صاحبه) فلينظر المرء: على أي شكل يحب أن يراه الناس؟

ويقول تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة. . .) فهذا شق آخر من آية ثانية، فيها تجريح مقذع للزاني، حتى أنه في الغالب لا يرغب أن يتزوج إلا من كانت على شاكلته، أو كانت أفحش منه، وأبعد عن الإسلام إلى الشرك؛ فهو لا يألف من النساء كرائمهن العفيفات، إذ هو لا يبالي المعرة، ولا يراعي لنفسه ولا لذريته حرمة، مادام يتخذ الزواج وسيلة إلى قضاء لبانته الجنسية. . . وفي هذا تنفير لذات العفاف أن ترضى عمن عرف بالدعارة زوجاً لها، وإنما تتركه لزوجة من فصيلته الزواني أو المشركات إن استطاع، وتنتظر من الرجال من تشرف بشرفه وتحظى بالحياة معه معافاة في دينها وسمعتها. وكذلك الشأن في المرأة الزانية (. . . والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) فهي مُجرحَة مسخوطة، ومبتذلة مستهجنة؛ فما ينبغي لرجل عزيز على نفسه أن يرضاها، وإنما لها من يشاكلها نزعة وخلقاً، (وحرم ذلك على المؤمنين). الكاملين فلم يبق من سبيل إلا أن يتجه الرجل في خطبته إلى من تكون حرثاً نقياً له، وتربة طيبة لبذور نسله، وأن تتجه المرأة في خطيبها إلى النبل، أو كرم الطبع، ومحاسن الرجولة؛ ليكون البناء بهما قوياً متماسكا، فيسدا فراغاً في بناء الجماعة الكبرى - الأمة - ويكون لهما - بجانب ما يتوفر من هناءة وطيب حياة - فضل الاشتراك في تكملة الصفوف، وتكثير السواد بما ينجبان من ذرية كريمة المنبت

وهكذا ينصح النبي (ص) إلى الخاطب أن يأخذ بالحزم، ويتفرس في المخطوبة ما يفي برغباته: من شكلها ودينها وأصلها، وما إلى ذلك مما جبلت النفوس على التطلع إليه، ليتوفر الرضا، ويكون المرء بنجوة من نزعات الطمع وخوالج النفس التي تحقَّر ما لدية فيمد عينيه إلى غير ما يملك، ثم لا يكون من وراء ذلك إلا استعاضة لما في حوزته، واكتئابه لما حرم منه، وهو مخدوع بالأماني؛ والأمانيّ والأحلام تضليل

يقول النبي (ص): (إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها - زواجها - فليفعل)

وقال (ص) لرجل من أصحابه كان يخطب امرأة: (أنظرت إليها؟ قال: لا، قال (ص): أذهب فانظر إليها)

وقال (ص) لرجل آخر في شأن كهذا: (أذهب فانظر إليها؛ فإنه أحرى أن يوائم بينكما)

يعني - إذا رأيتها وأعجبتك كان ذلك أدعى لدوام الألفة بينكما. . . فإذا لم يستطع المرء أن ينظر، لمانع قام في سبيله، فمن السنة أن يبعث من النساء من تستوضح له شأن المخطوبة، وتتعرف له ما يعنيه من أمرها. وقد فعل النبي (ص) ذلك، إذ رغب في خطبة امرأة، وأحب أن يعلم عنها ما يرغبه فيها، أو يرغبه عنها؛ فأرسل إليها امرأة ثقة، وأمرها أن تنظر إلى قدميها، وتشم رائحتها. . . وإن يكن هذا حق الرجل في خطبة المرأة، فهو كذلك حق المرأة في اختيار الرجل زوجاً لها؛ لها أن تراه وتتفرس فيه ما يعجبها، ولهما أن يتحدثا ليقف كل منهما على ما يصاحبه من لباقة أو لكنة، ومن نشاط الذهن أو خموده. . . ولكن على أن يكون هذا الاختبار في غير خلوة، بل مع وجود محرم للمرأة. وإن تكرر هذا فليس فيه من حرج إلى أن تطمئن نفس كليهما، وللعرف شأنه في تحديد هذا الاختبار بالقدر الكافي وليس يدخل في ذلك أن يجتمع الرجل بالمرأة في جماعة من الرجل الأجانب، فإن الحراسة المقصودة من وجود المحرم معدومة؛ بل هذه من أشد أنواع الخلوة خطراً على حياة المرأة وعفتها؛ فضلاً عما يجره إليها من الريبة وسوء الأحدوثة

كما أنه لا يدخل في حدود الاختبار المباح أن يجتمع بالمرأة في حضرة عدد من النساء. فإن انفراد النساء برجل واحد يعد في الشرع من الخلوة المحظورة. ووجهة الإسلام واضحة في ذلك؛ فإن الأثر السيئ الذي ينشأ عن هذا الاجتماع لا يقف عند سمعة امرأة واحدة؛ بل يتطاير شرره إلى هذا العدد من النساء جميعاً.

والإسلام يدرأ الشر من أبعد طرقه، ويحتاط له في كثير من المبالغة، حفاظاً على السمعة، واستبقاء للشرف والكرامة، وخاصة فيما يتصل بالأعراض. ولما كانت أسباب الرغبة في المرأة كثيرة، وتختلف باختلاف نزعات الرجال وميولهم، بينها النبي (ص) أو بين أهمها وأولاها بالاعتبار فقال:

(تنكح المرأة - والنكاح في كل ما نذكره معناه الزواج - لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين ثرَبت يداك) فهذه أهم الأسباب التي ينبغي أن تدور حولها الرغبة في الزواج، وهي الأسباب التي ترى الناس يلتمسونها في الخطوبة؛ والنبي (ص) يُقرنا على اعتبار تلك المزايا. غير أنه لما كان الدين عند الناس في الموضع الأخير من تقديرهم، مع أنه خير ما يُرجى في الزوجة - أكد علينا النبي (ص) أن نفضل ذات الدين على غيرها، وأن نلتفت إلى الدين قبل سواه فيمن نريدها زوجة أمينة على الشرف، وعلى طهارة النسل، وأن نبني منها نسباً، ونتخذ منها صهراً

أكد علينا النبي (ص) أن نؤثر ذات الدين، ولو لم تكن ذات مال، ولا جمال بارع، ولا حسب، والحسب هم الأهل الطيبون، وقد بالغ في تأكيده حتى قال: ثربت يداك، وهذا دعاء بالفقر في أصل معناه، ولكنه غير مقصود وإنما يجري على لسان العرب في مقام التنبيه على أمر ذي بال، وهكذا أراد منه سيد العرب وأفصحهم (ص)؛ فإن اجتمعت هذه المزايا لزوج محظوظ فذلك فضل من الله يشكر، وإن اجتمع مع الدين بعضها فتلك نعمة لا تكفر. أما إذا ضاع الدين في المرأة فلا خير في مالها، ولا حسنها، ولا أهلها، وفي هذا ينطق الوحي على لسان الرسول (ص) فيقول: (لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن، ولا لمالهن فلعله يطغيهن، وأنكحوهن للدين. ولأَمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل)

يريد النبي (ص) أن حسن المرأة - من غير دين يكون سياجاً لها - يدفع بها إلى مهابط الرذيلة. ويريد أن مالها - من غير دين تتوقر به - يحملها على الطغيان وسوء العشرة. ويريد النبي (ص) أن امرأة سوداء خرقاء - يعني مخزومة الأذن على نحو ما كان معهوداً في الإماء المملوكات - أو خرقاء ناقصة العقل مع احتفاظها بالدين: أفضل ممن خسرت دينها وإن بلغت من المال والجمال والحسب فوق ما يشتهي الرجال من المطامع

وليس القصد من الدين أن تصلي المرأة وتصوم - مثلاً - وكفى ولو كانت سيئة الطباع؟ - لا - بل التي هذب الدين أخلاقها، وحفظ عليها حياءها، واستمدت من روحه وآدابه تربيتها، وإن ورثت هذا عن بيئتها وأهليها؛ حتى لا تكون مبتذلة جارحة لسمعته، ولا حمقاء متعبة في عشرته، ولا جشعة مستقلة لخيره، متلفتة إلى غيره

وفي حديث آخر ينصح النبي (ص) باجتناب خصال ثلاث وباجتناب من عرفت بها أو ببعضها من النساء فيقول: (لا تتزوج حنّانة، ولا أنانة ولا منانة)؛ والحنانة: التي عرف عنها أنها تسخط حياة زوجها، وتحن إلى عهدها قبل التزوج منه؛ والأنانة: التي عرفت بالأنين والشكوى مما بيدها أو من حظها، أو من صحتها؛ والمنانة: التي ترى لنفسها فضلاً تعتد به على الزوج. فواحدة من هذه النقائص تغض من راحة الزوج في عشرتها، وتخرج بها عن الإلف والامتزاج إلى الضغينة والشحناء واتساع الخلاف؛ وما لشيء من هذا يراد الزواج

وهكذا يطلب من الرجل أن يكون ذا دين، ويحث النبي على تفضيل المتدين على سواه، مع مراعاة الوسائل الأخرى التي ينشدها الإسلام في الزوج من خَلق وخلُق، ومن قدرة على الحياة الزوجية، ولياقة في الحسب

فيقول (ص): (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه. إلاّ تفصلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). يقصد النبي (ص) رعاية الدين والخلق، والتنفير من الأحمق والفاسق وإن اجتمعت فيهما أسباب القبول بعد هذين. وإلا كانت حياة نكدة بين الزوجين، وكان فساداً في نظام الأسر، وهدماً في بناء المجتمع، وشراً لا يقف عند حد، والدين - كما نوهنا من قبل - حريص على استئصال الشر من جذوره لم يكتف الإسلام بأن يطلب في الرجل دينه وخلقه، ولا بأن جعل للمرأة حق الرؤية كما جعله للرجل، بل أعطى للمخطوبة حرية أوسع من ذلك، ومكن لها أن تقبل في صراحة أو ترفض في شمم وإباء. فأمر النبي (ص) أن يؤخذ إذنها في الزوج قبل العقد له عليها، ومنع وليها أن يكرهها على من لم ترضه زوجاً لها إذا لم يكن كفئاً لها، وعلى ذلك جرى الفقه الإسلامي. . . ولقد جاءت فتاة إلى النبي (ص) فأخبرته أن أباها زوجها وهي كارهة لمن رضيه أبوها، فأحضر النبي (ص) أباها، وتبين منه صحة ما شكت منه الفتاة، فخيرها النبي (ص) في بقاء العقد أو بفسخه لها؟ فرضيت - بعد - بمن رضى أبوها

(لها بقية)

عبد اللطيف محمد السبكي

المدرس بكلية الشريعة