الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 414/الإسلام والعلاقات الدولية

مجلة الرسالة/العدد 414/الإسلام والعلاقات الدولية

مجلة الرسالة - العدد 414
الإسلام والعلاقات الدولية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 06 - 1941


للأستاذ الشيخ محمود شلتوت

وكيل كلية الشريعة

(عقدت رابطة الإصلاح الاجتماعي مؤتمراً في شهر أبريل الماضي عالج فيه الخطباء مسائل شتى عن الإسلام والإصلاح الاجتماعي، وكان من بحوثه القيمة هذا البحث الممتع للفقيه الكبير الأستاذ محمود شلتوت وكيل كلية الشريعة، وهو نوع جديد من البحث الفقهي يسهل على الناس تناوله، ويبين لهم بعض كنوز الفقه الإسلامي وما فيه من قواعد يظن كثير من الناس أنه لم يعرض لها)

مقدمة

كان العالم - قبيل الدعوة الإسلامية - يتخبط في ظلمات داجية من الشرك والوثنية، والجهل والعصبية، والظلم والاستبداد كانت الظاهرة العامة التي تنتظم الوجود إذ ذاك هي الفساد في كل شيء: فساد في العقائد، فساد في الأخلاق، فساد في العلائق الاجتماعية، فساد في نظم الحكم والسياسة

كان الناس يعيشون في أسْر الأوهام والأباطيل والشبهات والعقائد الفاسدة. كانت الغرائز الحيوانية والطباع الوحشية مسيطرة على أخلاقهم وتصرفاتهم، بينما الصفات الإنسانية في غفلة وذهول

كانت علاقة الفرد بالفرد والأمة بالأمة تقوم على أساس الموازنة بين الضعف والقوة: يفتك الأقوياء بالمستضعفين، ويستلب القادرون حقوق العاجزين، ويستنزف الغالبون دماء المغلوبين.

كانت قاعدة السياسة بين الحاكمين والمحكومين هي شهوات الرؤساء ورغبات المسلطين: يتحكمون في الرقاب والأموال والأرواح والأعراض ما شاء لهم الهوى والغرض، وما أسعفتهم عوامل القوة والبطش والجبروت

من أجل ذلك قضت حكمة الله أن ينتشل العالم من حمأة هذا الفساد، وأن ينقذه من براثن هذه الفوضى، وأن يداويه من تلك الأمراض الفتاكة التي تفشت تفشي الوباء في ج الأرجاء

وهكذا بزغت شمس الإسلام، فبددت ذلك الظلام

(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)

عناصر الدعوة الإسلامية

تتلخص الدعوة الإسلامية مهما تشعبت فروعها في مبدأ واحد هو (دعوة العالم إلى الخير). فإذا أردنا أن نفصل في هذا المبدأ بعض التفصيل قسمناه إلى نواح ثلاث هي:

التوحيد، والمساواة، والعدل

1 - أصلح الإسلام بالتوحيد فساد العقيدة. فدعا الناس إلى احترام عقولهم بهجر ما كانوا عليه من الأوثان، معلناً أن للكون رباً عظيما، وإلهاً مدبراً حكيما، هو الجدير وحده بأن يعبد.

(لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير)

ولم يخرج بهذه الدعوة على أصل الفطرة وطبيعة الإنسانية، ولم يخالف بها ديناً من الأديان قبله

(فطرة الله التي فطر الناس عليها)

(شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذين أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)

2 - وقرر بالمساواة مبدأ الوحدة الإنسانية التي لا تعرف التفريق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين عنصر وعنصر

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا: إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)

3 - وقضى بمبدأ العدل على الظلم والتحكم والاستبداد، وأقربه الأمن والطمأنينة والرضا، ولم يفرق فيه بين قريب وبعيد، ولا بين عدو وصديق، ولا بين مؤمن وكافر: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)

على هذه الأسس بنى الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين والمسلمين، وفيما بين المسلمين وغيرهم من الأمم المختلفة. والذي يهمنا في هذا البحث هو استخلاص القواعد التي وضعها الإسلام تنظيما للعلاقات الدولية: وذلك ينتظم:

1 - القواعد التي ينظم بها علاقته بالدول الأخرى

2 - القواعد التي ينظم بها علاقته بمن يعيشون في بلاده من غير المسلمين

العلاقة بالدول الأخرى

إن العلاقة بين المسلمين وغيرهم لا تخرج عن إحدى حالتين: إما حالة سلام ووئام، وإما حالة حرب وخصام. وفي ضوء ما تقدم نرى الإسلام ينظر إلى الحالة الأولى على أنها الحالة الطبيعية الأصلية، ولا يطلب من غير المسلمين فيها إلا أن يخلّوا بينه وبين ما يريد من الدعوة إلى مبادئه دون أن يضعوا في طريقه العقبات، أو يثيروا أمامه الفتن والمشكلات. ذلك بأن دعوته هي دعوة الحق والعقل والصلاح الرشاد؛ وأن العقول إذا خليت وشأنها ارتاحت إليها وآمنت بها عن طريق الاقتناع والرضا، لا عن طريق الإلجاء والقهر

(أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي)

(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين!)

وهكذا يقرر القرآن أن الدعوة إلى الله لا يكون طريقها الإلجاء والقهر؛ وإنما يكون طريقها الحجة والبرهان. ولو تركه الناس يسري بحجته وبرهانه، وخلوا بينه وبين العقول، ولم يضعوا في طريقه العراقيل، لما سفكت قطرة واحدة من الدم في سبيل الله، ولغزت دعوته العقول، ونفذت إلى القلوب

والإسلام يسلك في هذه الدعوة السلمية الاقناعية كل طريق تواضع عليه الناس في دعوتهم إلى المبادئ ودفاعهم عنها، وبيانهم لمزاياها: من خطب في المجتمعات، ومن كتب يرسلها إلى الملوك والرؤساء، ومن وفود يتلقاهم ويحسن وفادتهم، ويبين لهم ما يدعو إليه وفي ظل هذه السلم يترك الناس في شتى معاملاتهم إلى طبيعتهم وما يرون أن يسيروا عليه من نظم: يتركهم يتعاملون ويتبادلون المنافع ويتعاونون ويختلطون، لا يقيدهم في ذلك بقيد إلا ما تقتضيه طبيعة الشريعة بالنسبة للمسلمين من حظر أنواع من التعامل والعلاقات كالربا وزواج الكتابي من المسلمة، وزواج المسلم ممن لا تدين بدين سماوي ونحو ذلك

ولا يحظر الإسلام على المسلمين أن ينشئوا بينهم وبين غيرهم من العلاقات ما يرونه مصلحة لهم وعوناً على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والسياسة والعلم والثقافة: ينظمون ذلك على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع الفطرية، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص

وقد وضع القرآن الكريم أساس الدستور لهذه العلاقة السلمية إذ يقول:

(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين)

فهذه الآية تبيح للمسلمين أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن، بل تجيز أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم

هذه هي الحالة الأولى: حالة السلم والوئام؛ أما الحالة الثانية: حالة الحرب والخصام، فقد نظر الإسلام إليها من نواح متعددة:

1 - نظر إلى الحرب في ذاتها كأمر تدعو إليه طبيعة الاجتماع البشري، فلم يحاول أن ينكرها، ولا أن يعارض مقتضيات الفطَر فيها، ولكنه اعترف بها كوسيلة لا بد منها لدفع العدوان، وتقليم أظافر الطغيان، وكبح جماح المفسدين:

اعترف بها لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع كثيراً ما تفضيان إلى التنازع، والبغي، والتنكر للحق، والاعتداء على الحريات، والفتنة في الدين. والإسلام شريعة عملية إصلاحية لا تغمض عن الواقع، ولا تسترسل وراء الخيال. ولو لم يقرر الإسلام الحرب ويعترف بها لتكون وسيلة من وسائل المقاومة ودفع العدوان، وإزالة العقبات من طريقة دعوته إلى الخير العام، لقضت عوامل الشر والفساد التي تؤازرها دائماً قوى الطغيان والعناد على هذه الدعوة وهي في مهدها، ولحرمت الإنسانية أن تجتني ثمراتها الطيبة في معاشها ومعادها وإن القرآن ليرشد إلى هذا المعنى واضحاً إذ يقول:

(ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين) (ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)

تلك هي نظرة الإسلام إلى الحرب من حيث تقريرها والحكم بمشروعيتها

2 - وقد نظر الإسلام كذلك إلى أسبابها الداعية إليها نظرة تتفق وغايته من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فلم يبح امتشاق الحسام بدافع الرغبة في الفتح والاستعمار؛ ولم يرض عن حروب العسف والظلم والاضطهاد التي كانت وما زالت تثيرها عوامل الجشع والطمع والاستغلال، ورغبة التسلط على الضعفاء، واستنزاف الموارد، والتضييق على عباد الله. واعتبر كل حرب في هذه الدائرة حرب ظلم واعتداء لا يليق صدورها من أمة تحترم الإنسانية وتعرف لها حقها، وبذلك حصر الحرب في أسبابها المعقولة، وضيق في دائرتها تضييقاً يتناسب مع كونها ضرورة من الضرورات!

وهذه الأسباب هي:

(ا) دفع الظلم والعدوان

(ب) إقرار حرية التدين

(ج) الدفاع عن الأوطان

وإن القرآن ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذ يقول:

(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)

وأساس الدستور العام في ذلك قوله تعالى:

(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوْهم. ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) 3 - وقد وضع الإسلام بعد ذلك للحرب نفسها نظاماً تشريعياً مفصلاً قوامه العدل والرحمة واحترام الحقوق الغيرة على الإنسانية وهذا النظام منه ما يسبق الحرب، ومنه ما يكون في أثنائها، ومنه ما يكون في نهايتها

(البقية في العدد الآتي)

محمود شلتوت