مجلة الرسالة/العدد 411/من أوهام العقل وأحلام القلب
→ مسألة الفقر | مجلة الرسالة - العدد 411 من أوهام العقل وأحلام القلب [[مؤلف:|]] |
مؤتمر ← |
بتاريخ: 19 - 05 - 1941 |
برج بابل؟!
للدكتور زكي مبارك
لما زرت بابل في سنة 1937 بحثت عن البرج المشهور في التاريخ، ولكني لم أهتد إليه، برغم ما بذلت من العناء في التعرف إلى ما هناك من رسوم وأطلال
فكيف بخلت الأقدار بحرماني من الاهتداء إلى معالم ذلك الأثر النفيس، وكان أول رمز لما فطرت عليه الإنسانية من تنافر الآراء وتناحر الأهواء؟
كان برج بابل خليقاً بالخلود، لو عرف بنو آدم مغزاه الدقيق، فصانوه من عوادي الزمان. وهل كانت بلبلة الألسنة حول ذلك البرج إلا إيذاناً بأن الإنسانية شبت عن الطوق، ولم يبق إلا أن تنتفع بمزايا الشقاق والنزاع والخلاف، وهي معان ظاهرها قبيح، وباطنها جميل؟
لو عاش برج بابل لكان مزاراً من أقدس المزارات، فحول رحابه طارت أول شرارة من ضريم الصراع بين الأجناس والألوان، وبين حناياه ذاق الإنسان الأول مرارة الحيرة، وهي مرارة جزيلة النفع، وأن كانت كريهة المذاق
ولو عرفنا تاريخ برج بابل لعرفنا في أي عهد بدأ الصيال بين الألسنة والعقول؛ فما نطمئن إلى ما قالت الأساطير في تحديد ذلك التاريخ، وهي لا تبعد به غير عشرات من القرون، وأنا أكره أن تصدق تلك الأساطير، لأني أحب أن يكون عهد أسلافنا بالخلاف أبعد من تلك القرون بآماد طوال طوال طوال
لو عثرت على برج بابل، أو اهتديت إلى شيء من رسومه الهوامد، لأضيف أسمي إلى أسماء من خدموا الإنسانية بكشف بعض المجاهيل من حسبها العريق
ولكن الحظ أراد غير ما أريد، فلم أعرف من بابل غير ما يعرف سواد الناس، ولم أشهد غير بقايا الحدائق المرفوعة فوق قواعد من الجدران، وهي جدران لم يفكر في هدمها الزمان، فبقيت شاهداً على مطامح أهل بابل في السمو العلاء
لابد من برج بابل، لابد، لابد، ولن استريح أو أهتدي إلى مكان ذلك البرج، فهو المهد الأول، المهد الذي نشأت فيه شياطين الخلاف، والخلاف هو صاحب الفضل في تأريث جمرات العقول، ونزوات القلوب، وشهوات الأرواح، وبدوات الأحاسيس الحمد لله! الحمد لله! لقد وجدت البرج المنشود، ولكن أين؟ لم أجده في بابل، وإنما وجدته في قلبي، وأين بابل من قلبي؟ القلب الذي أجهله أشد الجهل، وإن كنت سمعت أنه يقيم بين ضلوعي؛ والجيران قد يجهل بعضهم أسرارا بعض. وسنعرف يوماً أن العين ليست ترجمان القلب في جميع الأحيان؛ فلكل من القلب والعين وجود مستقل تمام الاستقلال، وإلا فكيف يقع في كل يوم أن تعد العيون بنعيم لا تسمح به القلوب؟
الجاهل هو الذي يتوهم أن العين ترجمان القلب
وقد جهلت يوماً فتوهمت أني اعرف سرائر قلبي، ثم عرفت أني واهم فيما توهمت، فما كان قلبي إلا غابة تعيش فيها ألوف الألوف من أنواع الشجر والنبات والطير والحيوان والأفاعي والصلال
وآية ذلك أني أعرف أسباب أفراحي وأتراحي إلا في أندر الأحايين؛ ثم يغم على الأمر فلا ادري مصدر سعادتي أو منبع شقائي، فافزع إلى ما يفزع إليه الصوفية عند البسط والقبض بلا وعي ولا أدراك. ولو وعيت وأدركت لنفذ سهمي في جذب السعادة أو دفع الشقاء
وأنا مع ذلك اهتديت إلى ما لم يهتد إليه ديكارت؛ فديكارت فطن إلى أنه يفكر فعرف أنه يفكر فعرف أنه موجود، وأنا فطنت إلى أن برج بابل أقيمت صروحه فوق سواد قلبي، فاستشعرت الخوف من ظلمات قلبي، وهي ظلمات يعجز عن تبديدها نور القمر وضياء الشمس، لأنها ألفاف من الشر المدفون في أصول تلك الغابة الشجراء
وما أشد خوفي من قلبي، وهو قلبي!
وآه ثم آه من الجبن عن مكاشفة العدو الذي يلبس ثوب الصديق!؟
كان يطيب للشعراء أن يقولوا إنهم يعيشون بلا قلوب ليبرروا عجزهم عن استبدال حبيب بحبيب.
وأقول: إني يئست من الأمل في العيش بلا قلب، وأين المفر من قلبي وهو قطار من أحابيل وعقابيل شد بعضها إلى بعض بسلاسل مصنوعة من أوهامي وظنوني وأنا رجل مخلوق من أوهام وظنون، وإن شهد خوفي من القلب بأني على شيء من العقل، والعقل أضعف حلية يتحلى بها الآدميون، فلو عاش بنو آدم بعقولهم في جميع الشؤون لكان مصيرهم مصير الأنعام، فلم يزينوا الوجود بروائع الآداب وغرائب الفنون لم أستطع التخلص من أوزار القلب، ولن أستطيع التخلص من اثقال العقل، فما عيشي في صحبة هذين العدوين؟ وما قيمة وجودي وأنا محروم من نعمة الاستقلال؟
وهل أنسى بلائي بعدوان القلب والعقل وقد عانيت منهما في الليلة الماضية ما عانيت؟
وما الليلة الماضية؟ هي ليلة من ليال، فما رحمتني الأقدار من معاناة الصراع بين القلب والعقل منذ اليوم الذي عرفت فيه أن العيون لا يكون لها سحر حرام أو حلال إلا في نور القمر أو ظلال الرياض
إن واجهت العيون ضياء الشمس فعلى سحرها العفاء، لأن الشمس تحيل العيون إلى جوارح تعجز عن الحقل والفتك. وهل تصنع الغلالة المنسوجة من نور القمر أو ظل الروض حين تواجه الطرف الكحيل إلا كما تصنع الغلالة المنسوجة من الحرير حين تطوق الجسم اللطيف؟
الحرير يزيد الأجسام النورانية صفاء إلى صفاء، وهي تتخايل من تحته كما تخايل الكواكب من فوق السحاب الرقيق
وأنا لم أصاول سهام العيون ألا في نور القمر أو ظلال الرياض، فأين كنت في الليلة الماضية وقد كان (برج بابل) بعض ما تشقى يحمله ضلوعي؟
كنت في ضيافة قمرين: قمر الروض وقمر السماء، ويا ويل من يعيش في مصر الجديدة وهو يعاني مكاره الصراع بين القلب والعقل!
وفي لحظات أقصر من عمر الطيف تحولت دنيانا من صفاء إلى كدر ومن كدر إلى صفاء؛ ثم انتهينا إلى قطيعة قد تقصر وقد تطول، فما استطاع الدهر ولن يستطيع أن يفرق بيننا أكثر من أيام أو أسابيع
سمعت صوت العقل فأقسمت لأهجرن ذلك البدر إلى آخر الزمان وما هي إلا لحظة حتى تحركت الحيات والثعابين في برج بابل
فأصخت إلى ما تجود به أفواهها الفيح من فحيح، فكنت والله كمن يسمع نشيداً ترتله ملائكة السماء
أنا مشدودٌ مشدود إلى قطار الوجود، فأين من يرحمني من مصارعة العيون في نور القمر أو ضياء الرياض؟ الليلة الماضية، وما أدراك ما الليلة الماضية؟
هي ليلة من ليال، ومن لم يعش كما عشت فليس من حقه أن يقول بأنه اكتوى بنار الصيال بين الهدى والضلال
وما ليلتي الحاضرة بين الليالي؟
مصباح وقلم ومداد وقرطاس، وآمال بيض، وآلام سود، وقرار في دار تواجه الصحراء في ليلة قمراء، والقمر يشجع أفاعي الفيافي على الدبيب والوثوب
ليلتي الحاضرة ليلة كرب وبلاء، فبرج بابل تعتلج فيه خواطر اشد سواداً من قلب الغانية التي لطمت وجهها منذ سويعات في أعقاب موجة من موجات العتاب، وبرج بابل يقول بأن الحوادث تنذر بالشر الوبيل في مدائن منها الإسكندرية وبور سعيد والسويس وبغداد، وتلك أول مرة صرح فيها برج بابل بأشياء وأشياء، فمتى أرجع إلى جهل ما في ذلك البرج من أحابيل وعقابيل؟!
أنا أملك أمري في الليلة الحاضرة، فليس بيني وبين دار هوى غير خطوات، ولكن بلائي صيغ من الليالي المواضي، فمن الليالي المواضي نسجت عواطفي وأحلامي وأوهامي وظنوني، وهل أنا إلا مجموعة آراء وأهواء كتبت صحائفها الأولى في القاهرة ودمشق والقدس وبغداد وقرطبة وتونس وباريس؟
لو فكرت في إحصاء المدائن التي تعلمت في مدارسها المعروفة والمجهولة، ولو فكرت في إحصاء من استفدت بمعارفهم من أهل الشرق وأهل الغرب، لوصلت إلى القول بأني شخصية دولية لا يستقل بها بلد عن بلد ولا جيل عن جيل، فكيف أملك الفرار من الجزع لآلام المكتويين بنيران الحرب ولو كانوا - رسمياً - من أعدائي؟
ولو فكرت في أن الغانية التي لطمت وجهها الجميل في أعقاب العتاب لم تخرج على الأدب في خطابي إلا وهي مثقلة بأوهام نشأ بعضها في الشرق وأخذ بعضها عن الغرب لنظرت إليها كما أنظر إلى الطفل الذي يجرم وهو غير مسئول
وهل تسأل صحراء مصر الجديدة عن الإمحال وقد هجرها الغيث؟
أن كان ذلك فستسال القلوب التي أذويتها بجفائي، وما كنت من الجافين، لولا الشواغل التي صيرتني أقسى من الجلمود في محاجر أسوان القمر في ليلتي الحاضرة جميل جميل، ولكن ما قيمة جماله وأنا مصدود عن الاستصباح بنوره الوهاج؟
وما طيب النوم الأحلام لمن حرموا طيب نجواي؟
ألم أقل لهم: إن الذي ينام بمصر في المقمرات من ليالي الصيف ليس إلا قطعة ثلوج الشمال نقلت ظلماً إلى هذه البلاد؟
النوم ضرب من الموت، وهو الموت الأعظم لمن يجهل فضل الليالي المقمرة بمصر في أوقات الصيف
لو كنا معاً في هذه اللحظة لعرف البدر أن السعادة ليست مقصورة على أهل السماء؟ إن صح أن أهل السماء سعداء، وكيف يسعدون وما عرفوا ظلم العواطف ولا طغيان الأحباب، وإلا فكيف استطاع القمر أن يحتفظ بصباه على مر الدهور وكأنه فلان في البلادة والغباء؟
وسيصنع الدهر ما يصنع بالغصن الذي آذته نسائم الحب، وأن عاش وعشنا فسنقيم المناحات في حضرته العالية على الظل الذي زال عند (الزوال)
القطيعة باقية، ولن نسأل عن تلك السرحة ألا يوم تمسى وهي مهددة بأرواح الخريف، فلتصنع بمصيرها ما تشاء، فلن تكون أكرم على الدهر من تخلى حلوان في أشعار القدماء
ومن يرعى تلك النخلة وقد تخلى عنها الحارس الأمين؟
ترعاها الفواقر والقوارع والخطوب!
يرعاها الجهل بالسر المكنون في ضمائر الشعراء!
وإن استطال الجمال على الشاعر فبشره بالمحاق والأفول لغير وجهك الجميل يوجه هذا النذير، يا صاحبة الجيد الأغيد والمعصم الريان
وما الدنيا وما الوجود إذا أمسى جمالك الفتان وهو طل من الأطلال؟
سيصنع بك الدهر ما يصنع، لأنه موكل بإذلال الأقوياء، ولكنه سيعجز عن محو ما دار بيننا من أكواب العتاب في تلك الليلة القمراء
هي ليلة من ليال، وسأعرف كيف أنتقم لنفسي، إن طاب لك الاعتصام بالهجر والصدود
أما بعد فقد رجعت إلى قلبي لأشهد بعض العجائب من برج بابل، فماذا رأيت؟
رأيت وجودي مقدوداً من أحجار ذلك البرج، ورأيت عواطفي وأحلامي مشبوبة أو مقبوسة من اللهب الذي يتأجج في أركان ذلك البرج، ورأيتني جديراً بما أتصف به أهله من الحيرة والقلق والانزعاج
رأيت ورأيت، وكأنني إنسان وقف يتلهى بصراع الأسود، وهو يجهل أن فيها أسداً قريب العهد بالاستئناس، فهو يرجع إلى الشراسة حين تسمح الظروف
رأيتني واقفاً على حافة الهاوية بلا رفيق ولامعين
رأيتني أحمل القلم لأمزق به ما بيني وبين الناس من أواصر وصلات
رأيتني أساهر النجوم وهي لا تدرك من همي غير أطياف
رأيتني انفصلت عن (برج بابل) فلا أدري ما يثور فيه من مصاعب وأهوال
رأيت ورأيت
رأيت أني سأسأل بعد أيام عن مصاير أحباب كان لهم في حياتي تاريخ، فمن أولئك الأحباب؟
الدنيا التي ضنت بأن أحمل السيف في الدفاع عن وطني هي الدنيا التي ضنت بأن أحمل السيف في الدفاع عن وطن أحبابي
لله الأمر من قبل ومن بعد
وسيعرف أقوام مغازي هذا الزمن الدقيق
أنا أذن أعبر بالرموز؟؟
هو ذلك، لأني أكتب مقالي هذا في أيام السرار من شهر الوجود
اللهم عونك ولطفك وغفرانك، فما استعنت إلا بك، ولا توكلت إلا عليك، فأنت وحدك أمل اللائذ بحصنك الحصين
زكي مبارك